كتب الخبير الاقتصادي “نور الدين حبارات” مقالاً بعنوان “حل الخلاف بين وزارة المالية والمركزي بشأن تأخر صرف مرتبات يناير وفبراير 2020 وفق القوانين والتشريعات المالية النافذة”
بالإشارة إلى مقالنا المؤرخ في السابع عشر من فبراير الجاري بشأن حقيقة الخلاف بين وزارة المالية والمصرف المركزي بشأن عدم صرف مرتبات يناير المنصرم، والذي رأينا فيه أن مطالب وزارة المالية بالصرف بموجب اعتمادات شهرية مؤقتة أي 1/12 من ميزانية أو ترتيبات 2019، ليس في محلها باعتبار ذلك يضعنا أمام ترتيبات مالية بحجم 45.800 مليار دينار (ترتيبات 2019) حيث يجيز هذا الإجراء للحكومة الإنفاق في حدودها دون تجاوزها وهذا بالطبع لا يتأتى في ظل الهبوط المتوقع للإيرادات النفطية وإيرادات ضريبة النقد الأجنبي بسبب توقف إنتاج وتصدير النفط، حيث بلغت مساهمة كليْهما في الإيرادات العامة لترتيبات 2019 بما يقارب 94%، ومن ثمة رأينا رفض المركزي لهذه المطالب له ما يبرره وذلك بعد أن أخلت وزارة المالية بسداد السلف المتراكمة عليها واستنفذت ما تبقى لها من أموال مجنبة فضلاً عن ما أنشأته وخلفته الحكومات السابقة والمتعاقبة من التزامات مالية لا حصر لها خلال السنوات السبع الماضية.
ورأينا في نهاية المقال ضرورة اعتماد الرئاسي لترتيبات مالية مغايرة لترتيبات 2019، أي تقشفية وذلك بعد التنسيق والتشاور مع المركزي بشأنها، تأخذ في الاعتبار تداعيات توقف إنتاج وبيع النفط وعلى أن يراعى في تقدير المصروفات الترشيد والاقتصاد في الإنفاق تعطى فيها الأولية لصرف المرتبات ودفع فاتورة الدعم واحتياجات النازحين وبعض النفقات الضرورية المتعلقة بالمؤسسة الوطنية وشركة المياه ومشروع النهر والخدمات الصحية والتعليمية وغيرها.
وحيث أن الخلاف اليوم مرشح لمزيد من التعقيد خاصة بعد استكمال أو إحالة وزارة المالية لأذونات صرف مرتبات فبراير الجاري ما يعني زيادة وتفاقم لمعاناة المواطنين الذين يعانون اليوم جراء النزوح وتدهور الخدمات وارتفاع الأسعار ونقص السيولة، فإن مسألة حل هذا الخلاف وفقاً للقوانين والتشريعات المالية النافذة ذات العلاقة أصبحت ضرورة ملحة وممكنة جداً وذلك متى ما صدقت النوايا وتوافرت الرغبة الحقيقية والإرادة الجادة لدى الحكومة لإنهائه، ومن ثم فإن حل هذا الخلاف يقودنا إلى الإجابة عن هذا السؤال المهم وهو: إذا كانت الحكومة حريصة فعلاً على مصالح المواطنين ويساورها قلق كبير إزاء معاناتهم؛ فما الذي يمنعها من اعتماد ترتيبات مالية بحجم 35 مليار دينار أو ما شابه ؟؟
بحيث تضمن من خلالها صرف مرتبات العاملين وفاتورة الدعم وبعض النفقات الضرورية الأخرى وأن المركزي هو من سيتكفل بتمويل جزء لا بأس به من قيمة هذه الترتيبات في ظل الانخفاض الكبير المتوقع في الإيرادات النفطية وإيرادات ضريبة النقد الأجنبي التي اعتادت الحكومة على استخدامها في تمويل الميزانية بدلاً من إطفاء الدين العام فحصيلة هذه الضريبة مرتبطة مباشرةً بمبيعات النفط مصدر البلاد الوحيد من العملات الأجنبية، كما أن اعتماد هذه الترتيبات من قبل الرئاسي لا يحتاج إلا لأيام فقط باعتبار الحكومة بدأت بدراستها ومناقشتها منذ أكتوبر الماضي.
وليس هذا فقط بل أن قانون النظام المالي للدولة ولائحته أجاز للحكومة وفي حالة الضرورة وضع مشروع ميزانية اسثتنائية وطلب اعتمادات إضافية إذا كانت هناك مبررات لذلك وهذا الإجراء معمول به في كافة دول العالم، حيث نصت المادة (13) من القانون المذكور صراحةً على ( 1- يجوز في حالة الضرورة وضع مشروع ميزانية استثنائية لأكثر من سنة تتضمن موارد ونفقات استثنائية، 2-تتقدم الوزارات بطلب فتح الاعتمادات الإضافية إلى وزارة الخزانة لدراستها وعرضها على مجلس الوزارات /3- تتبع في إعداد الميزانيات الاستثنائية والاعتمادات الإضافية وإقرارها القواعد المتبعة في شأن الميزانية العامة).
ولكن الأهم من كل ذلك هو ما بينته المادة (31 ) من لائحة الميزانية والحسابات والمخازن في شأن آلية تنفيذ المادة المذكورة أعلاه والتي تسري على الحالة الماثلة أمامنا بل وتحسم الخلاف بشأنها.
حيث نصت المادة (31 ) صراحةً على (إذا طرأت أثناء السنة المالية ظروف تقتضي إنفاق مصروف غير وارد بالميزانية أو زائد على التقديرات الواردة بها، فللوزير المختص أن يطلب اعتمادا إضافيا لمواجهتها، ويقدم طلب فتح الاعتماد الإضافي إلى وزير الخزانة في وقت يسمح باستكمال إجراءاته الدستورية والانتفاع به ويحيله الوزير إلى اللجنة المالية لدراسته.
ويجب أن يتضمن الطلب الأسباب المبررة له والمورد المالي اللازم لتغطيته ولا يجوز أن يقدم مشروع بفتح اعتماد إضافي دون النص فيه على مورده المالي، ويجوز أن يكون هذا المورد وفراً محققاً في اعتمادات الوزارة أو المصلحة ذات الشأن أو وفراً في بعض المصروفات الأخرى بالميزانية أو زيادة في بعض أبواب الإيرادات بها).
وبالإمعان في النص المذكور يتضح لنا جلياً وبما لا يدع مجالا للشك بأن الخلاف القائم لا أساس ولا مبرر له، فإذا طرأت أو حدثت خلال السنة المالية 2020 وليس قبلها أو قبل إقرار ميزانيتها أو ترتيباتها المالية ظروف تقتضي إنفاق مصروف غير وارد بالميزانية أو بالترتيبات المالية أو زائد على التقديرات الواردة بها وهذا هو لب الخلاف حيث تطالب الحكومة بترتيبات مالية بقيمة 50 مليار دينار أو الصرف بموجب اعتمادات شهرية مؤقتة أي ترتيبات بقيمة 45.800 مليار دينار (ترتيبات 2019) في حين يرى المركزي أن الترتيبات المالية للعام الحالي 2020 يفترض ألا تتجاوز 35 مليار دينار باعتباره هو من سيتكفل بالعبء الأكبر تقريبا في تدبير التمويل اللازم لها.
وعليه فإن الفرق بين ما تطالب به الحكومة وبين ما يطالب به المركزي يقارب في حده الأدنى 10.800 مليار دينار وهذه الزيادة يمكن للحكومة أن تطلبها بعد إقرار الترتيبات المالية وعليها في هذه الحالة أن يتقدم وزيرها المختص بطلب اعتماد إضافي إلى وزير المالية في وقت يسمح لاستكمال إجراءاته القانونية شريطة أن يتضمن هذا الطلب الأسباب المبررة والمورد المالي اللازم لتغطيته ولا يجوز إطلاقا أن يقدم مشروع فتح الاعتماد دون النص فيه على مورده المالي.
ومن ثم فإن الطريق تبدو معبدة أمام الحكومة للوصول إلى مطالبها، فعليها أولا اعتماد ترتيبات مالية بقيمة 35 مليار دينار أو ما شابه، وهذه القيمة تعتبر جيدة قياساً بالظروف الاقتصادية والمالية التي تمر بها البلاد جراء الهبوط المتوقع لإيرادات النفط المصدر الوحيد لتمويل الميزانية، وإذا ما طرأت خلال السنة المالية الحالية 2020 ظروف تقتضي إنفاق مصروفات غير واردة بالميزانية أو زائدة عن تقديراتها أو إذا ما رأت أن المطالب بالزيادة التي تتحدث عنها اليوم مبررة فما عليها حينها إلا أن تتقدم بطلب اعتماد إضافي وفق الآلية التي حددتها المادة المذكورة وبالتأكيد يجب أن يتضمن هذا الطلب المورد المالي اللازم لتغطية هذه الزيادة وهذا قد يكون صعب نوعاً ما، ولكن ليس بالمستحيل فبإمكان الحكومة تدبيره إذا ما قامت بتفعيل آليات جباية الضرائب والجمارك والرسوم وسائر الإيرادات الأخرى وإرجاعها لبواقي أرصدة القطاعات في 31/12/2019 وفي المقابل عليها الترشيد والاقتصاد في الإنفاق والالتزام بالقوانين والتشريعات المالية النافذة باعتبارها السبيل الوحيد لتحقيق ذلك، ويجب أن ألا يسقط من حساباتها محاربة الهدر والفساد المستفحل الذي يلتهم سنوياً جزءًا كبيرًا من الميزانية وتقارير المنظمات الدولية واضحة بشأنه.
في حين يفهم تعنت الرئاسي وحكومته و إصرارهما على عدم إقرار ترتيبات مالية بالقيمة المذكورة وعدم لجوء الحكومة مستقبلا إلى أحكام المادة (31 ) وطلبها لاعتمادات إضافية للزيادة التي تراها مبررة، يفهم من خلاله إدراكها المسبق بعدم قدرتها على تدبير التمويل اللازم لتلك الزيادة.
عليه وبناءً على ما تقدم نرى ما يلي 1-لا وجود لأي مبرر أو مسوغ قانوني للتأخر في صرف مرتبات يناير وفبراير الجاري، وعلى الرئاسي ضرورة الإسراع باعتماد ترتيبات مالية تقشفية للعام الحالي 2020 وذلك بالتنسيق والتشاور مع المركزي، تأخذ في الاعتبار تداعيات وقف إنتاج وتصدير النفط على الإيرادات العامة وعلى أن يراعى في تقدير المصروفات الاقتصاد والترشيد في الإنفاق على أن تعطى فيه الأولية إلى صرف المرتبات ونفقات الدعم واحتياجات النازحين وبعض النفقات الضرورية الأخرى، 2- إذا ما طرأت خلال السنة المالية الحالية ظروف تقتضي إنفاق مصروفات غير واردة بالميزانية أو زائدة عن تقديراتها، فما على الحكومة إلا التقدم بطلب اعتماد إضافي وفق الآلية المبينة بالمادة (31 ) من اللائحة على أن يتضمن المورد المالي اللازم لتغطيته.
والرسالة التي يجب أن تستوعبها الحكومة هي أن كافة حكومات العالم عندما تمر بمثل هذه الظروف تتخد إجراءات وتدابير تقشفية لتقليص الإنفاق أو الحد منه وتنمية الإيرادات وليس العكس، ولا يمكن للمدين أو المقترض أن يفرض شروطه كما لا يمكن أن تكون معاناة المواطنين ومرتباتهم رهينة بتلك الزيادة، وأن المواطنين لا يطالهم من الميزانية أو الترتيبات المالية إلا مرتبات ضعيفة وخدمات سيئة متدهورة تقدم لهم من خلال طوابير وساعات انتظار رغم دفعهم لقرابة 36 مليار دينار في شكل ضريبة على النقد الأجنبي خلال عام وأربعة أشهر فقط، كما أن احتياطيات المركزي والأوضاع المالية للدولة ومؤشراتها الاقتصادية ليس كما كانت عام 2012 فالظروف اليوم ليست بظروف الأمس.
وأخيراً يجب التوضيح والتذكير بشيء مهم وهو أن آلية الاعتمادات الشهرية المؤقتة قد تم العمل بها خلال عامي 2018 و2019 ولم يطفُ هذا الخلاف على السطح؛ لماذا؟؟ لأن الإيرادات النفطية حينها كانت تتدفق بانتظام وعلى الرغم من انخفاضها قياساً بما كانت عليه خلال 2012، فإن مساهمتها شكلت ما بين 90 – 93% من الإيرادات العامة فما بالك اليوم، في حين لم تتجاوز مساهمة الضرائب والرسوم وسائر الإيرادات الأخرى ما نسبته 0/07، ومع كل ذلك أخدت الترتيبات المالية المعتمدة عن سنوات 2017 ،2018 .2019 منحى تصاعدي حيث بلغت قيمتها على التوالي 37.500 و 42.500 و 45.800 مليار دينار ما يعكس الرغبة والنزعة للتوسع في الإنفاق دون النظر إلى مبرراته ونتائجه.