Skip to main content
خاص.. "زرموح": تعليق حول بدائل دعم المحروقات التي إقترحتها وزارة الاقتصاد
|

خاص.. “زرموح”: تعليق حول بدائل دعم المحروقات التي إقترحتها وزارة الاقتصاد

كتب الأستاذ الدكتور في الاقتصاد “عمر عثمان زرموح” حصرياً لصحيفة صدى الاقتصادية تعليق حول بدائل دعم المحروقات التي اقترحتها وزارة الاقتصاد.

منذ سنتين، وتحديداً في شهر 6 من عام 2021، قدمت وزارة الاقتصاد لحكومة الوحدة الوطنية ما أسمته “دراسة شاملة لموضوع الدعم والبدائل المقترحة لاستبدال دعم المحروقات بالدعم النقدي وقد أطلعت مؤخراً على هذه الدراسة. 

وحيث أن هذا الموضوع قديم جديد كان قد خضع للنقاش منذ سنوات بعيدة ومنذ العهد السابق ولازال النقاش فيه يثار بين الحين والآخر فقد رأيت أن أعلق على هذه الدراسة بالتركيز على نتائجها (وليس على التعريفات أو الأدبيات الاقتصادية التي تناولتها) وعلى دعم المحروقات بالذات (وليس كل أنواع الدعم) وذلك كما في الملاحظات الآتية:  

1- دعنا نبدأ بملاحظة عامة وأساسية تتعلق بما أشار له السيد وزير الاقتصاد في رسالة الإحالة الموجهة للسيد رئيس الحكومة بتاريخ 15/06/2021 عندما قال إنه من الأفضل اعتماد نتائج الدراسة من مجلس النواب وتعليقي على هذه العبارة هو أنه إذا سلمنا بما جاء في نتائج الدراسة فلا شك في أن هذا هو الإجراء الصحيح في ذلك الوقت (شهر يونيو 2021) ولكن اليوم وبعد قرار  سحب الثقة، يمكننا القول أن نتائج الدراسة أضحت مجمدة أو معلقة تلقائياً لانقطاع الصلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية ومع ذلك، وحتى إذا لم تنقطع الصلة بين السلطتين، فإن الملاحظات التي سيأتي بيانها تتطلب، من وجهة نظري، إعادة النظر في نتائج الدراسة والأسس التي بنيت عليها، بل إن التفكير في تطبيقها هو تفكير في مجازفة قد لا يحمد عقباها وحتى يكون النقد إيجابياً فقد تضمن مقترحاً بديلاً أعتقد أنه قابل للتنفيذ اليوم لأنه يقع في إطار اختصاصات الحكومة علاوة على أنه يمثل سياسة اقتصادية أكثر رشداً.

2- إذا قسمنا الاقتصاد إلى قطاعين كبيرين القطاع العائلي وقطاع الأعمال فإن الدعم الذي يعنينا في هذا التعليق هو دعم القطاع العائلي فقط وتحديداً شريحة الفقراء وليس كل العائلات.

3- من السلبيات التي ذكرتها الدراسة، على سبيل المثال، ما ورد في صفحة 23 حيث جاء أن من الآثار السلبية لاستبدال دعم المحروقات بالدعم النقدي الآتي: “صعوبة تطبيقه على فئة معينة في المجتمع مثل الأسر الفقيرة نظراً لعدم وجود قاعدة بيانات وبالتالي يصرف لكافة أفراد المجتمع مما يرهق الدولة مالياً.” وأعتقد أن هذه الصعوبة ليست بالشكل الكبير الذي يتطلب إجبار الدولة على تحمل تكاليف باهظة غير مبررة، فنحن نشاهد الآن بعض أنواع الدعم النقدي لشرائح معينة دون غيرها مثل علاوة الزوجة وهي تصرف فقط للزوجة غير العاملة وليس لكامل شريحة الزوجات لذلك أرى أنه لا توجد مشكلة تذكر في صرف الدعم النقدي لشريحة الفقراء وأما عن تحديد خط الفقر فيمكن في المرحلة المبدئية افتراضه عند مستوى لا يبعد كثيراً عن الحد الأدنى للمرتبات وليكن ألف دينار مثلاً في الوقت الحالي (قابلاً للتعديل عندما ترتفع الأسعار) وأن يقدم المستفيد إقراراً موقعاً عليه بأنه لا يتقاضى دخلاً نقدياً أكثر من ألف دينار وأنه يتعهد بإبلاغ الجهة المسئولة في حالة زيادة دخله النقدي على هذا المبلغ وأنه في حالة عدم القيام بذلك أو تقديم بيانات غير صحيحة يتحمل كامل المسئولية بما فيها استرجاع المبالغ التي تقاضاها دون وجه حق وأي عقوبة أشد ينص عليها القانون بهذا الأسلوب الرادع أرى أنه يمكن، من خلال منظومة إلكترونية كما في علاوة الزوجة،تكوين قاعدة بيانات أقرب ما تكون للدقة ومن ثم متابعتها وتحديثها باستمرار لأن كل من تنطبق عليهم الشروط سيأتون مسرعين للتسجيل في المنظومة دون حاجة للبحث عنهم فليس ثمة مشكلة في تكوين قاعدة البيانات أضف إلى ذلك أن مكاتب الزكاة في البلديات لديها قاعدة بيانات عن الفقراء ويمكن ـ إن لزم الأمر ـ الاستفادة منها أو خلق تكامل معها بحكم الهدف الواحد وهو مساعدة الفقراء. وعلى كل حال فإنه من غير المقبول أن نتعلل بالصعوبات القابلة للحل ونجعل الدولة تدفع ثمناً لذلك لا مبرر له أي لا يقبل أن تقوم الدولة بتحمل تكلفة دعم من لا يستحقون الدعم.

4- تقدير قيمة الاستهلاك من المحروقات سنوياً:

اعتمدت الدراسة بيانات سنتي 2018/2019 في تقديرها للاستهلاك السنوي للمحروقات (صفحة 26) وكذلك في تقديرها للمستورد منها والمنتج محلياً ومن ذلك يمكن تكوين قائمة المصادر (مستورد أو منتج محلياً) والاستخدامات (استهلاك السوق المحلية عدا الكهرباء، واستهلاك الكهرباء) بالمليار دولار كالآتي:

​الاستخدامات​​​​​​المصادر

السوق المحلية (عدا الكهرباء) ​​3.0​​مستورد​​​3.9

​استهلاك قطاع الكهرباء​​​2.6 ​​منتج محلياً​​1.7

​​المجموع​​​5.6 ​​​​​5.6

ويتضح من ذلك أن ليبيا تستورد سنوياً بما قيمته 3.9 مليار دولار أي بنسبة 70% من احتياجاتها من المحروقات ولا تنتج محلياً سوى 30% منها وهذه في ذاتها مشكلة وتستوجب الاهتمام بالإنتاج المحلي للمحروقات وخاصة أن مصادرها متاحة جداً محلياً كما يتضح أيضاً أن قطاع الكهرباء يستهلك ما قيمته 2.6 مليار دولار أي بنسبة 46% من الاستهلاك المحلي من المحرقات بينما تستهلك القطاعات الأخرى عدا الكهرباء نسبة 54% منالاستهلاك المحلي من المحروقات وقد أوضحت الدراسة هاتين النسبتين الأخيرتين. 

وعليه فإن رفع أسعار المحروقات سيكون له الأثر المباشر والكبير على قطاع الكهرباء وأما القطاعات الأخرى فسوف تتأثر هي الأخرى بشكل مباشر إضافة إلى تأثرها بشكل غير مباشر من خلال قطاع الكهرباء إلا إذا لم تتغير أسعار الكهرباء عند رفع الدعم هذا يقود إلى نتيجة مهمة وحاسمة وهي ضرورة الحذر من اتخاذ قرارات بتغييرات كبيرة في أسعار المحروقات وأن التدرج في ذلك أمر ضروري يجب غدم إغفاله.

5- استهلاك قطاع الأعمال والقطاع العائلي من المحروقات:

أشير آنفاً إلى التأثير الكبير لرفع أسعار المحروقات على قطاع الكهرباء الذي يستهلك سنوياً 2.6 مليار دولار، ونشير هنا إلى أن استهلاك القطاعات الأخرى الذي تقدر قيمته السنوية بمبلغ 3.0 مليار دولار حسب هذه الدراسة يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أقسام: 

( أ ) جزء يستهلكه قطاع الأعمال مثل النقل والمواصلات، مصانع الحديد والصلب، مصانع الأسمنت وغير ذلك من الأنشطة وهذا القطاع سوف يتأثر بلا شك برفع أسعار المحروقات في السوق المحلية وسوف يؤدي ذلك إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج بدرجات متفاوتة بين هذه الأنشطة بحسب حجم استهلاك كل منها للمحروقات وسوف ينعكس ذلك في ارتفاع الأسعار المحلية.

(ب) جزء يذهب للتهريب الذي تعاني منه ليبيا منذ عدة عقود بسبب انخفاض الأسعار المحلية للمحروقات مقارنة بأسعارها في الدول المجاورة وقد نوقشت هذه القضية كثيراً وحاولت الدولة منع التهريببإجراءات امنية وصلت إلى استخدام القوة المسلحة، ولكن القوة الحقيقية التي تمنع التهريب هي رفع أسعار المحروقات محلياً بحيثتتوازن مع الأسعار في الدول المجاورة. والسعر التوازني لا يعني هنا السعر المساوي بل يكفي أن يكون أقل منه بفارق يساوي أو أقل مما يمكن أن نسميه تكلفة التهريب ونقصد بها كل تكاليف الشراء والنقلالمتعارف عليها إضافة، وهو الأهم، إلى تكلفة مخاطر المصادرة أو التلف للمواد المهربة التي يحتمل أن يتعرض لها المهربون وكذلك تكاليف الرشى التي قد يدفعها المهربون لذوي النفوص المريضة، فكل ذلك يأخذه المهربون في حسبانهم وعليه فإن التهريب سوف يتوقف نهائياً إذا ارتفعت أسعار المحروقات محلياً إلى مستوى يكفي أن يكون أقل من أسعارها في الدول المجاورة ولكن بفارق صغير لا يزيد على تكلفة التهريب.

(جـ) جزء يستهلكه القطاع العائلي وهو القطاع المعني بالدعم وهنا قد أختلف عما ورد في الدراسة من احتساب الدعم النقدي على الأفراد على أساس هذا المبلغ بالكامل (3.0 مليار دولار) لأن المعني بالدعم (حالياً على الأقل) هو القطاع العائلي وليس قطاع الأعمال الذي سوف يعوض ارتفاع أسعار المحروقات برفعه لأسعار خدماته ومنتجاته ولا يقبل أن يحصل على دعم ثم يقوم برفع الأسعار عليه يمكن القول وبكل تأكيد أن قيمة ما يستهلكه القطاع العائلي لا يمثل إلا جزءاً من استهلاك السوق المحلية حتى بعد استبعاد قطاع الكهرباء وقد يقول قائل إن القطاع العائلي سوف يتأثر برفع أسعار الوقود بشكل غير مباشر من خلال رفع تعريفة استهلاك الكهرباء، وهذا قد يكون صحيحاً ولكن حالياً الكهرباء مدعومة من الدولة بصرف النظر عن أسعار المحروقات، ولذلك فليس هناك تأكيد على رفع تعريفة استهلاك كهرباء المنازل على الأقل في الوقت الحاضر.

6- بدائل الدعم النقدي:

طرحت الدراسة (صفحة 28 وما بعدها) أربعة بدائل للدعم النقدي السنوي نناقشها كالآتي:

البديل الأول:

رفع سعر المحروقات إلى 2.0 د.ل. للتر الواحد أي بزيادة قدرها 1.85 د.ل. وبنسبة 1233% (1.85÷0.15=12.33) مع دعم كل مواطن بمبلغ 888.6 د.ل. سنوياً وهذا يعني أن الدعم الشهري للفرد سيكون 74 د.ل. والدعم الشهري للأسرة المكونة من 5 أفراد  370 د.ل. شهرياً.

ويلاحظ على هذا البديل ما يأتي: ( أ ) إن الدعم النقدي موجه لكل المواطنين بمن فيهم الأطفال والعجزة وغيرهم ممن لا يستخدمون بشكل مباشر وسائل النقل والمواصلات ولكن قد يقول قائل إن  هذا الدعم يكون مقابل التضخم الناجم عن رفع أسعار النقل والمواصلات ويرد عليه بأنه في حالة فشل السياسة الاقتصادية في مكافحة التضخم فإن الحل هو زيادة المرتبات والأجور كما في كثير من دول العالم التي تهتم بحرية السوق. 

(ب) هذا البديل يكرس أو يقبل التضخم ولا يعالجه ويطلب من القطاع العائلي قبوله مقابل التعويض النقدي المذكور والذي سوف يلتهمه التضخم ولكن لا يحاول هذا البديل اقتراح أي سياسة اقتصادية لمواجهة التضخم في أسعار منتجات قطاع الأعمال.

(جـ) الدعم يشمل أيضاً كل الأغنياء بصفتهم مواطنين أي بصفتهم ضمن القطاع العائلي وليس بصفتهم ضمن قطاع الأعمال. وهؤلاء قد لا يهمهم إن أرتفع سعر المحروقات أو لم يرتفع بمعنى أن رفع السعر لا يؤثر عليهم بدرجة كبيرة كما يؤثر على الفقراء أو عامة الناس وهذا يؤكد عدم التوازن في هذا البديل فالاقتصاديون يعلمون أن المنقعة الحدية marginal utility للدينار عند الفقراء كبيرة جداً مقارنة بالمنفعة الحدية عند الأغنياء ومن ثم فهذه المساواة تعد ظلماً للفقراء.

( د) إن زيادة سعر المحروقات بنسبة 1233% أي بأزيد من 12 ضعاً يعد هزة اقتصادية غير مضمونة العواقب ولا يقبل أن تسعى أي سياسة اقتصادية رشيدة لإحداث مثل هذه الهزة بل العكس هو الصحيح أي أن السياسة الاقتصادية الرشيدة يجب أن تمتص الهزات الاقتصادية التي تحدث بشكل خارج عن الإرادة مثل الحروب والكوارث الطبيعية لا أن تخلقها بإرادتها. (هـ) رغم هذه الزيادة الكبيرة في سعر الوقود ورغم العواقب الوخيمة المتوقعة بسببها إلا أن هذا السعر (2.00 د.ل. للتر) مازال قاصراً ولن يكون قادراً على منع التهريب وإن كان قد يقلل منه نسبياً.

البديل الثاني:

ويقوم على أساس استقطاع جزء من إيرادات بيع المحروقات (بالأسعار المحررة) لدعم القطاع الخاص، وتشجيع انتقال الراغبين في العمل للقطاع الخاص، وتوزيع الباقي على أرباب الأسر ويمكن توجيه الانتقادات التالية لهذا البديل:

( أ ) إن هذا البديل فيه ما فيه من المتغيرات المختلفة التي لم تقم الدراسة بوضع ضوابط لها، وحتى إذا حاولت كافتراح دفع منحة للقطاع الخاص تمثل حصة الضمان الاجتماعي فإن هذا الرقم المطلق لن يستقر وسوف يتغير مع الزمن ويصبح التزاماً سنوياً على الدولة غير محدد المدة وهذا غير مقبول. 

(ب) إن عبارة الأسعار المحررة يقصد بها الأسعار الواردة بالبديل الأول (2.00 د.ل. للتر) فهي في تقديري ليست محررة بالكامل لأنها كما ذكرت آنفاً لا تمنع التهريب وإن كانت تحد منه جزئياً. 

(جـ) هذا البديل لا يتمشى مع ما يجب أن تكون عليه السوق التنافسية كما نص عليها القانون رقم (23) لسنة 2010 بشأن النشاط التجاري في المادة 1282 وما بعدها من مواد بسبب االشروط التي يضعها هذا البديل في العلاقات بين (قطاع النفط، قطاع الأعمال، القطاع العائلي) والحاجة إلا وجود إدارة قوية لتنفيذها نعلم أن الإدارة الليبية تفتقدها حالياً.

( د) توجه لهذا البديل نفس الانتقادات الموجهة للبديل الأول وخاصة فيما يتعلق بما يخلقه من هزة اقتصادية غير مضمونة العواقب.

البديل الثالث:

الرفع التدريجي لسعر المحروقات بحيث يبدأ من 0.50 د.ل. للتر ويعوض المواطن مقابل هذا الرفع بمبلغ 414 د.ل. سنوياً وتدفع الدولة دعماً يساوي 13.8 مليار دينار في السنة. وتعليقي على هذا البديل هو إن السعر 0.50 د.ل يمثل زيادة مبدئية بقيمة 0.35 د.ل. (0.50-0.15=0.35) وبنسبة 233% (0.35÷0.15=2.33) وهي زيادة وإن كانت ألطف من نظيرتها في البديلين السابقين إلا أنها مازالت كبيرة ومفاجئة ومن جانبي من الصعب أن أقبل اعتبار زيادة بنسبة 233% زيادة تدريجية بل هي زيادة كبيرة كما أسلفت وتمثل هزة اقتصادية نظراً لأن المحروقات تدخل في شتى الأنشطة ولها تأثيرات متعددة كما اعترفت هذه الدراسة بذلك. عليه أقترح تعديل السعر برفعه مبدئياًبحد أقصى إلى 0.25 د.ل. فقط بزيادة 0.10 د.ل. وبنسبة 67% (0.10÷0.15=0.67)، وسوف أعود إلى هذا لاحقاً تحت عنوان (ما هو الحل؟).

البديل الرابع:

استبدال المحروقات بشكل تدريجي وكما في البديل الثالث يكون سعر المحروقات 0.50 د.ل ودفع مقابل نقدي للمواطنين على أساس سعر الدولار=3.00 دينار ويعوض المواطن بمبلغ 427 د.ل. سنوياً. ومن وجهة نظري أن إدخال سعر الصرف هنا جاء بشكل تحكمي لا يستند إلى أي قاعدة اقتصادية ولا ندري هل سيتغير هذا السعر إلى تغير سعر صرف الدولار إلى أعلى من 5 أو 6 د.ل. مثلاً. أضف إلى ذلك أن هذا البديل لا يختلف عن سابقه في زيادة سعر المحروقات بنسبة 233% وبالتالي يوجه له نفس النقد.

7- ما هو الحل؟

(1) في تقديري إن البدائل الأربعة المقترحة في هذه الدراسة تعد كلها غير موفقة بسبب ما تحدثه من مشاكل اقتصادية (سبق بيان أهمها) نحن في غنى عنها وقد بينت الدراسة العديد من المزايا والسلبيات لكل بديل ولكن تظل المشكلة في كل هذه البدائل تتمثل في الزيادة الكبيرة المقترحة في سعر المحروقات التي زادت عن 12 ضعفاً في البديلين الأول والثاني ووصلت الزيادة إلى 233% في البديلين الثالث والرابع وهي تعد هزة اقتصادية قد لا يحمد عقباها بسبب التأثيرات المتعددة المباشرة وغير المباشرة لهذه الزيادة. أضف إلى ذلك إصرار الدراسة على استمرار الدعم مع تغيير شكله من دعم سلعي إلى دعم نقدي دون أن تضع الدراسة أي آلية لإنتهاء قضية دعم سلعة معينة (المحروقات) فالمحروقات وفق هذه الدراسة ستدعم إلى الأبد، وكذلك إصرارها على شمولية الدعم دون تمييز بين من يستحقونه ومن لا يستحقونه مع تحميل الدولة تكلفة ذلك، وهو الأمر الذي قد يعقد الأمور مستقبلاً بدلاً من أن يوصلنا إلى أريحية في حل هذه المشكلة في ظل التوجه إلى سوق تنافسية تحقق العدالة.

(2) لقد قررت الحكومة (اللجنة الشعبية العامة سابقاً) في الفترة التي سبقت عام 2011 زيادة سعر المحروقات إلى 0.20 د.ل. ولكن بعد الثورة أعيد السعر إلى مستواه السابق قبل اتخاذ ذلك القرار ألا وهو 0.15 د.ل.ورغم الدراسات التي أعدت بشأن مشكلة الدعم والنقاشات العديدة فإن سعر المحروقات بقي عند 0.15 د.ل. دون تغيير. وفي تقديري إن السبب في ذلك هو أن المقترحات التي تتوصل إليها تلك الدراسات أو المناقشات لا تبدو مقبولة من الناحيتين النظرية والواقعية وتولد مخاوف كبيرة لدى متخذي القرارات تجعلهم يحجمون عن إجراء أي تعديل في السعر والركون إلى قبول الوضع القائم دون تغيير. 

(3) أعتقد جازماً إن المقترحات غير الواقعية، وغير المقبولة اقتصادياً،وخاصة تلك التي لا تتمشى مع مبدأ التدرج في اتخاذ القرارات الاقتصادية المتعلقة بتغيير البرامترات الاقتصادية التي تعود الناس على ثباتها لفترات زمنية طويلة (مثل سعر المحروقات الذي لم يعد متغيراً بل برامتراً) إذا استمر الجدل بشأنها، فلا أتوقع أن يحدث أي تغيير في السعر الحالي للمحروقات وسوف يستمر تحمل الدولة لفاتورة الدعم غير المبررة اقتصادياً لفترة لا نعلمها لذلك أرى أنه يجب إيجاد حل واقعي سهل قابل للتنفيذ وهذا ما سوف أقدمه في الفقرات التالية.

(4) إن الحل الذي أقترحه لا يكون إلا تدريجياً وعلى مراحل، بحيث لا يحدث أي هزة اقتصادية وبحيث يقبله معظم الناس، ويجب أن يتسم القائمون على تنفيذه بالصبر والمتابعة والمثابرة، وكما في المثل “إن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة” ذلك أن المشكلة التي عاناها الاقتصاد الليبي في موضوع الدعم تتمثل في أن  الخطوة الواحدة هذه لم تبدأ أو قل لم تتحرك على مدى أكثر من 12 سنة رغم معرفة الجميع بوجود ظاهرة التهريب منذ ما لا يقل عن 35 سنة. إن حل مشكلة طويلة الأمد كهذه لا يمكن أن تحدث بشكل فوري إذا أردناها أن تحدث في إطار من الرشد الاقتصادي الخالي من الهزات الاقتصادية التي رأيناها في كل بديل من البدائل الأربعة المقترحة بهذه الدراسة. وباختصار فإن المشكلة التي أمامنا الآن هي أنه لا يوجد إلا اختياران: إما الرشد الاقتصادي أو الضياع.

(5) بناءً على ما تقدم  يمكنني الآن بيان المرحلة الأولى للحل العملي المقبول اقتصادياً وأتوقع أنه سيكون مقبولاً من معظم الناس وهو رفع سعر المحروقات بحد أقصى إلى 0.25 د.ل فقط بزيادة 0.10 د.ل. وبنسبة زيادة 67% كما أسلفت في مناقشة البديل الثالث.

(6) يصاحب المرحلة الأولى إلغاء فكرة “استبدال الدعم” نهائياً كونها فكرة ترسخ استمرار الدعم وتصبح من ثم حقاً مكتسباً لمن يستحق ومن لا يستحق فتغيب العدالة، علاوة على أنها لا تخلق أي آلية لإنهائها فحتى إذا أصبح كل أفراد الشعب أغنياء فإن الدولة تستمر في تحمل تكاليف الدعم. إن الشعار الذي يجب أن يرفع والمبدأ الذي يجب أن يطبق في هذا الخصوص، هو: “إن الدعم للفقراء فقط.” أما أرباب العائلات الغنية فهم بالعكس من واجباتهم أن يدفعوا الضرائب لا أن يتلقوا الدعم. إن من حظ الأغنياء في ليبيا أن العبء الضريبي ليس ثقيلاً بسبب وجود النفط وإلا لتعين عليهم أن يدفعوا ضرائب أعلى.

(7) لقد أوضحت في البند رقم (3) من هذا التعليق إن دعم شريحة الفقراء أمر قابل للتطبيق عملياً ولا أتوقع أن يكون به خلل يستوجب تحميل الدولة دفع مبالغ طائلة لمن لا يستحقونها كما رأينا في البدائل الأربعة في هذه الدراسة. إن دعم الفقراء عمل تقوم به الكثير من الدول بما فيها الدول العظمى مثل بريطانيا (على سبيل المثال) وهذا الدعم لا علاقة له بتغير أو عدم تغير أسعار المحروقات وإنما له علاقة ويرتبط بوجود حالة الفقر في المجتمع. إن التعلل بعدم دعم شريحة الفقراء بسبب عدم معرفة خط الفقر هو أيضاً مردود عليه ذلك أن هناك أكثر من رسالة ماجستير قامت بتقدير خط الفقر، وهو خط وليس نقطة، ومن ثم فهو متغير مع الزمن. ومع ذلك فإنه حتى بفرض عدم وجود مثل تلك الدراسات فإنه لا توجد مشكلة في افتراضه افتراضاً في المرحلة الأولى. وفي هذا الخصوص أقترح اعتماد خط الفقر مبدئياً عند 1,000 د.ل. (ألف دينار) شهرياً (12,000 د.ل. سنوياً) للعائلة من 5 أفراد. وفي كل سنة يعاد النظر فيه ويتخذ قرار إما بزيادته أو الإبقاء عليه بحسب الظروف الاقتصادية وأهمها مشكلتا التضخم والبطالة. إن تحديد خط الفقر عند 1,000 د.ل. في السنة المبدئية يعني أن العاطل عن العمل يأخذ هذا المبلغ كاملاً وأن العامل الذي يتقاضى أقل من هذا المبلغ يأخذ الفرق. إن المشكلة في تطبيق خط الفقر على الفقراء العاطلين عن العمل هي أن الشخص منهم لا يقبل الانخراط في العمل دون مرتب أكبر بكثير من مبلغ الدعم. وعلى سبيل المثال فإن العاطل عن العمل إذا اشتغل بمرتب 1,500 د.ل. مثلاً فإنه يقيمه بمرتب 500 د.ل. فقط لأن الألف دينار هو متحصل عليه، تكلفة فرصة بديلة، حتى لو لم يشتغل. إن هذه المشكلة تستوجب عدم المبالغة في تقدير خط الفقر.

(8) المرحلة الثانية تكون بعد مرور سنة واحدة من تنفيذ المرحلة الأولى وتدرس فيها نتائج المرحلة الأولى ومدى النجاح أو الفشل في القضاء على أي سلبيات نجمت عنها، ثم قد يتخذ قرار بزيادة أسعار المحروقات مرة ثانية بقيمة 0.15 د.ل. وبنسبة 60% (0.15÷0.25=0.60) أي أقل قليلاً من النسبة السابقة (67%) ليصبح السعر الجديد 0.40 د.ل. وقد يكون القرار بالتريث والإبقاء على السعر السابق إذا اتضح أن السلبيات الناجمة عن المرحلة الأولى لم تمتصها السياسة الاقتصادية وتستوجب المعالجة أولاً. إن هذا التدرج في السياسة الاقتصادية يضمن للدولة أن تكون الأمور تحت السيطرة ولا تنفلت منها لأن التراجع في السياسة الاقتصادية ربما يكون أسوأ من السياسة الاقتصادية الخاطئة.

(9) المرحلة الثالثة وما بعدها تستمر بنفس طريقة المرحلة الثانية والمهم في الأمر هو وجود القدرة على المتابعة وعدم التهاون والإصرار على بلوغ الهدف وهو التخلص من الدعم (المباشر) للمحروقات نهائياً وأؤكد أن الصبر وعدم الاستعجال على الحل السريع المسبب للأزمات لن نندم عليه. لا شك أن ظاهرة التهريب سوف تستمر لكنها سوف تتقلص تدريجياً ولابد في هذه الفترة الانتقالية من تأكيد المساعدة الأمنية المكثفة قدر الإمكان لمحاربة ظاهرة التهريب ولا شك أيضاً أن مشكلة دعم المحروقات هي الأخرى سوف تستمر لكنها أيضاً سوف تتقلص تدريجياً.

(10) إن طول الفترة الانتقالية اللازمة لحل الأزمة تعتمد على درجة نجاح السياسات الاقتصادية في مكافحة السلبيات الناجمة عن الزيادات المتتالية لسعر المحروقات وفي نهاية هذه الفترة نكون قد وصلنا إلى نقطة التوازن التي ينتهي عندها دعم المحروقات وينتهي عندها التهريب.

مشاركة الخبر