مع زيادة تفاقم الأزمات الاقتصادية في العالم بصفة عامة وما يمر به الاقتصاد الليبي على وجه الخصوص من تدهور في ظل الصراع والحروب وإغلاق النفط وتبعات جائحة كورونا .. حاولت “صدى” أن تعرف أكثر على مدى صعوبة المشهد الاقتصادي الليبي وما يترتب عليه، وما مدى صحة القرارات التي تصدر لحل هذه الأزمات ..
وللحديث أكثر تواصلت “صدى الاقتصادية” مع الدكتور الجامعي والخبير الاقتصادي “يوسف يخلف”.
نـــص المقــــــابلــــــــة..
س/ ما رايك بما يمر به الاقتصاد الليبي اليوم؟
لنستوعب ما يمر به الاقتصاد الليبي اليوم دعونا نرجع إلى التقارير الحكومية الرسمية، حيث يلاحظ تدني نسبة نفقات التنمية، فمنذ 2013 حتى مطلع 2017م وصل الإنفاق التنموي إلى أدنى مستوياتها ولم يتجاوز نسبة 5%، بالمقابل ارتفع الإنفاق التسييري نحو 95%، بالمخالفة للقانون رقم 85 لسنة 1970م، والذي يقضي بتخصيص ما لا يقل عن 70% من إيرادات النفط لأغراض التنمية، (ديوان المحاسبة وهيئة الرقابة الإدارية، 2013، وديوان المحاسبة، 2017).
في حين تعاني الدولة الليبية من شح الإنفاق التنموي في البنية التحتية، حيث أظهرت التقارير الرقابية المحلية النقص والتهالك في البنية التحتية، كما تبين عدم وجود خطط لتصميم شبكات المياه والصرف الصحي بما يتماشى مع حركة النمو السكاني المتواصل، هذا بالإضافة إلى إن شبكات الصرف الصحي المتوفرة حالياً لا تغطي كامل الأحياء السكنية في المدن، وأن شبكات المياه متهالكة ومتقادمة وهذا ما يتسبب في فقدان كميات كبيرة من المياه الصالحة للاستعمال، (ديوان المحاسبة وهيئة الرقابة الإدارية، 2013).
هذا فضلا عن الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي وعجز الدولة عن توفيره، ويعزى ذلك لتأخر الصيانة ونقص إمدادات الغاز الطبيعي (ديوان المحاسبة وهيئة الرقابة الإدارية، 2013).وبالتالي، الاقتصاد الليبي اليوم مثله مثل الاقتصاد الليبي بالأمس وبالغد لو استمر بوضعه الحالي، فصراحة قلناها في عدد من دراساتنا أن الاقتصاد الليبي اقتصاد عاطل عن العمل وكل ما يقوم به صانع القرار والسياسة الاقتصادية هو تجميل أدائه عبر استنزاف الموارد الطبيعية في شكل إنفاق استهلاكي مع سوء إدارة الموارد المالية، مما يجعل ما يقدم بشكل رسمي على إنه إنفاق استثماري يتحول عمليا إلى انفاق استثماري بغرض الاستهلاك، ولذلك لا يري واقعيا أي قيمة مضافة له بالاقتصاد الليبي، وعند نضوب الثروات الطبيعية او إيقاف استخراجها وتأكل الاحتياطيات المحجوبة عن العامة سيفلس الاقتصاد الليبي، والاحداث التي يمر بها الاقتصاد الليبي اليوم أن استمرت فستعجل من إفلاس الاقتصاد الليبي وخاصة إذا استمر إغلاق الابار النفطية.
س/ إن استمر إغلاق النفط لأكثر من ست أشهر قادمة ماذا سينجم عن ذلك؟
هذا يرجعنا لإجابة السؤال السابق، وهي أن الاقتصاد الليبي اقتصاد عاطل عن العمل ولا يوجد به تنوع لمصادر الدخل، ويقتات على كنز حباه الله به (النفط والغاز)، فبدل أن يستثمره متخذ القرار الاقتصادي ليدر له عوائد من مصادر متنوعة، للأسف ينفقها بشكلها الخام مضيعا القيمة المضافة التي كان بالإمكان أن تجعل عوائده أضعاف ما يجنيه حاليا.
إذا اقتصاد مشوه يقتات على ما تجود به باطن الأرض وعند نضوب تلك الثروات أو إيقاف استخراجها وتأكل الاحتياطيات سيعود فقير، ليكشف عن الوجه الحقيقي إنه لا اقتصاد بليبيا، والثراء التي كان يتنعم به، كانت ثروة ضيعت عبر سوء إدارتها، وحتى ما يتحدث عنه أنه استثمارات داخلية وخارجية لم يري لها أي آثر في الموازنات العامة او نمو الاقتصاد أو حتى رفاهية المواطن.
وبالتالي في ظل هذه المعطيات فإن نضوب أو اغلاق النفط سيميط اللثام عن الفشل الكبير للحكومات المتعاقبة، والتي كانت تجمل فشل أدائها بقناع ايرادات النفط والغاز، وبعد إغلاقه سيستمر تجميل الاداء عبر تآكل الاحتياطيات وإن استمر الوضع ستفلس الدولة بمجرد تآكلها بالكامل، إذا الافلاس قد يكون قبل ستة أشهر او أكثر وهذا يعتمد على حجم بواقي الاحتياطيات المخفية عن العامة ويعلمها صانع القرار، ولكن سيلاحظ تداعيات ذلك عبر تخفيض قيمة العملة وزيادة الضرائب والخصصة وخفض المرتبات وغيرها من الإجراءات التقشفية والعشوائية التي بدأت تظهر في أداء متخذ القرار الاقتصادي السنوات الأخيرة بعد تسرب 277 مليار د.ل للفترة 2012-2017، وازدادت وضوح الأشهر الأخيرة.
س/ ما هو رايك في خفض مرتبات العاملين تحت وزارة الداخلية ومجلس النواب إلى 20%؟
حقيقة هذا ليس حل لاقتصاد عاطل مثل الاقتصاد الليبي، فكما أسلفنا هذا مؤشر يكشف عجز راسم السياسة الاقتصادية عن إدارة اقتصاد البلاد واعتماده على الإنفاق الاستهلاكي عبر إيرادات بيع كنز الذهب الأسود وعند أول عقبة لتدفقه، توجه الضغط على الحلقة الأضعف، والذي انعكس في فرض اتاوة على دخل المواطن، ولأنه يعلم أنه لم يعدل في توزيع الدخول وقسم موظفي القطاعات العام إلى طبقات بدون أسس وأصول منطقية وعلمية، قام بخصم تلك القيمة من بعض الفئات الأعلى دخل.
واستطراد لذلك، تظهر التقارير الرسمية الصادرة عن المؤسسات الرقابية الرسمية، أن نحو 8% من موظفي القطاع العام (- وزارة الخارجية. – المجلس الأعلى للدولة. – وزارة العدل. – السلطات التشريعية والجهات التابعة لها. – مجلس الوزراء. وغيرهم) يتقاضون 2.5 ضعف مرتب القطاعات الأخرى، حيث تجاوز متوسط دخلهم الشهري الـ 2000 د.ل، بينما باقي موظفي الدولة الليبية اي نحو 92% (20 قطاع) وبمتوسط دخل شهري 800 د.ل تقريباً (تقرير ديوان المحاسبة، 2017، ص 57). والملفت للانتباه إن نحو 100% من إيرادات الدولة الليبية السيادية تتدفق لخزانة الدولة من الموارد الطبيعية بالدولة، أي لا يوجد أي فضل لحكومة او جهة ما في إحداثها، ولا تقدم تلك الفئات التسع أي قيمة مضافة حقيقة للنمو الاقتصادي الليبي، ومع هذا تتنعم تلك الفئة بالثروة مستغلة نفوذها لتشريع القوانين الصادرة بدون دستور رسمي للدولة، لإحداث إدارة غير رشيدة بالمال العام ومساهمة في عدم الاستقرار أو تنمية حقيقة بالاقتصاد الليبي.
ولكن السؤال الذي يبرز هنا لماذا يخفض مرتبات الموظفين؟ السبب الرئيس أن صانع القرار يعلم أن القيمة المضافة لموظفي القطاع العام متدنية جدا إن لم تكن معدومة، والشاهد على ذلك أن موظفي القطاع العام بالدولة الليبية 1.8 مليون موظف، وبالمقارنةً بدولة مثل كندا (ثاني أكبر دول العالم مساحةً، باقتصاد ينتج (1,550,000,000,000$) تريليون وخمس مائة وخمسون مليار دولار سنوياً، والتي لا يتعدى عدد الموظفين في دوائرها الاتحادية والمحلية اكثر من 600 الف موظف، أي ثلث موظفي القطاع العام الليبي والذي لو ينضب النفط والغاز ستستغيث الدولة مطالبة بالهبات والمساعدات. هذا لا يعني إلا أَن المخطط الاقتصادي الليبي يعتمد التوظيف الواسع ليس كآلية للتنمية الاقتصادية، والدليل على ذلك أن جل القطاعات العاملة في ليبيا لا تساهم تقريبا بأي قيمة مضافة بالاقتصاد الليبي كما أشير آنفاً، ويعتمد الدخل المحلي الاجمالي على نحو 100% على تصدير خام الموارد الطبيعية، وكأن راسم السياسات الاقتصادية بليبيا يقدم تلك المرتبات كنفقة لاسكات المواطن، عن عدم قيام متخذ القرار بوظائفه نحو نمو اقتصادي وتنمية البنية التحتية والحد من البطالة والحد من التضخم ومعالجة العجوزات الداخلية والخارجية وخاصة إذا علمنا أن إنتاجية الموظف الليبي معدومة تقريباً .
س/ ما رايك في قرار ضبط الأسعار الصادر من وزارة الاقتصاد على بعض السلع؟
بداية أن تلك الأسعار عمليا لم تطبق، بل لم يلتفت لها التجار حتى، وضرب بها عرض الحائط في ظل غياب المؤسسات المنوط بها مراقبة الأسعار، وهو بكل تأكيد قرار خاطئ لكونه عشوائي ولم يبنى وفق دراسة وتظافر المؤسسات المنوط بها رسم السياسات الاقتصادية بالدولة.
وللأسف صانع القرار الاقتصادي وقف موقف العاجز إزاء كل الأزمات الاقتصادية بليبيا (التضخم والبطالة وعدم النمو الاقتصادي والعجز الداخلي)، بل انجر وراء إصلاحات منظمات تسعى لمصالح من أنشئها، والنتيجة فقد دوره كراسم للسياسات الاقتصادية بالاقتصاد الليبي، وبالتالي ترك الباب مفتوحا أمام السوق السوداء ليقوم بقيادة الاقتصاد الليبي ابتداءً من فتح سوق سوداء علني لتجارة العملات أفقد الدولة التحكم في أسعار صرف عملتها المحلية، كما يلاحظ أن هذه القرار وما حواه من أسعار بني في محاكاة لأسعار السوق السوداء (الجريمة) والذي يظهر بكل وضوح تحكمه بقوة في الاقتصاد الليبي، وهذا كما أسلفنا ما عكس عدم سيطرة الدولة على اقتصادها وعجز صانع القرار الاقتصادي على تبني أو بناء سياسات اقتصادية فاعلة تعمل على الحد من المشاكل الاقتصادية وابرزها اختلال الأسعار، وبالتالي التحكم بالأسعار ومراقبتها ودعمها لها أساليب وطرق معروفة بعلم الاقتصاد يعلمها طالب سنة أولى اقتصاد فضلا عن المتخصص.
س/ برايك ما هو تأثير الجائحة كورونا على الاقتصاد حتى هذه اللحظة؟
صراحة وبدون مواربة لا توجد آثار تذكر على الاقتصاد الليبي، وذلك لان الاقتصاد الليبي اقتصاد عاطل عن العمل بالأساس وهو اقتصاد استهلاكي، ومصدر دخله النفط والغاز تقريبا، وهو مقفل بالاساس قبل الجائحة، وكذلك القيمة المضافة لليد العاملة بليبيا تكاد تكون معدومة، والتضخم مرتفع بليبيا بالاساس والدولة لا تفعل أي شيء بجائحة او بغيرها، اذا لا يوجد ضرر حقيقي او ملموس على الاقتصاد الليبي، باستثناء الفئات العاملة بالقطاع الخاص وهي محدودة.
س/ مصرف ليبيا المركزي حين فتح منظومة الاعتمادات المستندية للسلع فقط، هل هو قرار صائب ؟
الاقتصاد الليبي أدير بأدوات اقتصاد الأزمة لعقود في وقت السلم وكان في ذالك الوقت في غير الحاجة لها، والآن وقت الأزمات أصبح يدار باقتصاديات السوق وهو في أمس الحاجة لأسلوب اقتصاديات الأزمة لتسييره، وللأسف المصرف المركزي فاقد للبوصلة وليس لديه سياسة نقدية أو خطة واضحة يعمل بها، فالاعتمادات تعد من أكبر أخطاء المصرف المركزي، حيث أظهرت تقارير المؤسسات الرقابية فساد هذا الأسلوب، فتم التزوير والتلاعب بالاعتمادات المستندية والتوريدات برسم التحصيل لغرض الاستحواذ على العملة الأجنبية وتهريبها للخارج أو التهرب من سداد الرسوم الجمركية، وهذا ألحق أضرارًا جسيمة بالاقتصاد الوطني واستتزف الاحتياطيات ورفع المستوى العام للأسعار بالدولة (ديوان المحاسبة، 2015)، وتسبب بشح السيولة بالمصارف وزيادة مستويات الفقر وتدني خدمات النظافة والصحة، وعدم الاستقرار والانقسام السياسي والظروف الأمنية أهم أسباب تفاقم عدم الاستقرار الاقتصادي (ديوان المحاسبة، 2017).
هذا فضلا عن التخبط وعدم الوضوح في استخدام أدوات وقنوات السياسة النقدية من قبل المصرف المركزي الليبي، فعلى سبيل المثال التعدد في أسعار صرف النقد الأجنبي الذي ينتهجها المصرف المركزي، حيث يمنح حصة للفرد (من 400$ الى 500$ سنوياً) ويمنح جزء من التجار الدولار بـ 1.42 د.ل، مع بيع حصة سنوية للأفراد (10الاف دولا) يقيمة 3.9 د.ل للدولار والواحد لتخفض لاحقاً إلى نحو 3.7 د.ل، ويمنح الدولار لبعض الشركات الأجنبية العاملة في ليبيا بقيمة أقل من سعر الصرف الرسمي لسنة 1995م اي 0.28 درهم للدولار الواحد، (ديوان المحاسبة، 2015) وهذه السياسات تضعف الثقة في العملة الليبية وتسبب عزوف المستثمر الأجنبي عن الاستثمار في ليبيا، هذا فضلاً عن هجرة المستثمر المحلي لدول أكثر استقرار وثقة في عملاتها المحلية.
مما تقدم يستنتج أنه على صانع ومتخذ القرار والسياسات الاقتصادية أن يعالج المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد كخطوة أولى للاستقرار الاقتصادي واختيار الأسلوب المناسب وقت الأزمات لإدارة اقتصاد البلاد، ومن ثم البدء في مسيرة الإصلاح الاقتصادي، وبالتالي فإن تخفيض قيمة العملة المحلية لن تؤدي إلى تحقيق أي استقرار أو إصلاح للاقتصاد الليبي بل قد تجره إلى فخ الدين الخارجي مما سيحدث هوة العجز الخارجي ويزيد من تشوه الاقتصاد الليبي ومعاناة المواطنيين بالبلد الثري بالموارد والمكلوم بسوء إدارتها.