كتب: الخبير الاقتصادي والدكتور في علم الاقتصاد “يوسف يخلف”
بالرغم من أن النظامين العالميين التجاري والنقدي نظامين متمايزين ويؤديان وظائف مختلفة، إلا أن أداة سعر الصرف والسياسة التجارية مترابطتان فيما بينهما بدرجة عالية، لذلك أصبح يتعين على أعضاء صندوق النقد الدولي والمنظمة العالمية للتجارة أن يعملا سوياً لحل المنازعات حول قناة سعر الصرف التي كانت سببا في نشوء حرب للعملات خاصة بين الصين والولايات المتحدة، والتي يمكن أن تنتشر تداعياتها وتخلف آثاراً سلبية على العلاقات التجارية الدولية ( Irwin, 2011).
ويؤكد الاقتصادي الامريكي “John Perkins” بإن المنظمات الدولية (World Bank & IMF, etc) دائما ماتسعى إلى العمل على تخفيض قيمة العملة للدول وخاصة النامية منها، فعندما تنخفض قيمة العملة تنخفض قيمة كل شئ قيم فيها، وهذا ما يجعل الموارد الاصلية متاحة للبلدان المفترسة بسعر بخس من قيمتها الاصلية (john perkins).وبإلقاء نظرة خاطفة على سجلات تاريخية للبنك الدولي، وهي المؤسسة التي تدعي علناً مساعدة الدول الفقيرة على التطوير والتخفيف من حدة الفقر، فتشير سجلات البنك الدولي الى انه لم يفعل شيئاً سوا زيادة الفقر وتوسيع فجوة الثروة، في حين تزداد أرباح الشركات.
ففي عام 1960 كانت فجوة الدخل بين خمس البشر في أغنى البلدان مقابل خمس البشر في أفقر البلدان مساوية لـ 1:30 وبحلول عام 1998، كانت مساوية لـ 1:74. وفي حين ارتفع الناتج القومي الاجمالي العالمي بنسبة 40% بين 1970-1985 ازداد الفقراء في العالم بنسبة 17%. بينما في الفترة من 1985 الى 2000 ارتفعت نسبة أولئك الذين يعيشون على أقل من دولار واحد يومياً بنسبة 18%.وحتى اللجنة الاقتصادية المشتركة للكونجرس الامريكي أعترفت بإن نسبة النجاح لجميع مشاريع البنك الدولي هي مجرد 40%. وفي أواخر عام 1960، اقرض البنك الدولي الاكوادور قروضاً كبيرة وخلال الـ 30 سنة، نمى الفقر من 50% إلى 70% نمت البطالة من 15% الى 70%، وارتفع الدين العام من 240 مليون دولار إلى 16 مليار دولار.
في حين أن حصة الموارد المخصصة للفقراء إنخفضت من 20% الى 6%. في الواقع بحلول عام 2000، كان لا بد من تخصيص 50% من الميزانية الوطنية للاكوادور لتسديد ديونه.وبالنظر إلى ما سبق، يلاحظ أن إضعاف الضعيف بغرض السيطرة على الاقتصاد العالمي هو ما تعكسه ضمنياً توصيات وشروط صندوق النقد الدولي. والذي ما انفكت عن إلزام الدول الأعضاء الخاضعة لبرامجه وتحديداً النامية منها، والتي تتمحور حول مجموعة من إجراءات وبرامج تهدف حسب منظريها إلى معالجة التشوهات التي تعاني منها اقتصادات دول العالم الثالث هذا الظاهر، “ولكن بالعودة إلى المادة (1) من الفقرة (4) من اتفاقية الصندوق، يلاحظ أنها تتضمن جملة من أهداف يأتي على رأسها (استقرار أسعار الصرف) للبلد العضو والخاضعة لبرامج التثبيت أو التصحيح التي تركز بالدرجة الأولى على أسلوب (تخفيض القيمة الخارجية لعملات الدول النامية) على اعتبار أن أغلبها أن لم تكن كلها مقومة بأعلى من قيمتها الحقيقية حسب زعم وتقديرات الصندوق”.
(السعيدي، 2013).ولكن بالرجوع لماهية صندوق النقد الدولي، يلاحظ أنه أنشئ كجزء من اتفاقية “Bretton Woods” سنة 1944م، والذي أصبح بموجبها يتدخل ويفرض قيود جريئة على الدول النامية، خاصة التي تعاني عجزاً هيكلياً في اقتصادها، والتي لجأت إلى تخفيض القيمة الخارجية للعملة كخيار حتمي لمعالجة الاختلالات الاقتصادية في ظل غياب شروط نجاح هذه العملية، وبذلك أصبحت السياسة النقدية غير فعالة في هذه الدول (الحبيب، 2012). وتؤكد الدراسات فشل أكثر من 82% من حالات التخفيض التدريجي لقيمة العملة الوطنية في تخفيض عجز ميزان المدفوعات وتحقيق استقرار الأسعار بالمقارنة مع برامج اقتصادية أخرى. كما تؤكد أن جميع البلدان تعرضت بعد تخفيض عملاتها إلى معاناة من ارتفاع أولي حاد في معدل التضخم، أقتضى لاستجابة انكماشية في مجال النقد والضرائب أدت إلى إضعاف النمو الاقتصادي بتلك الدول (بوعشة، 1999).ماذا فعل تخفيض قيمة العملة الليبية خلال الثلاث العقود الماضية؟ الإجابة لاشيء سوى إستنزاف الاحتياطيات الليبية وخروج أصوات بالداخل والخارج مما يسمون أنفسهم النخب بأنه لا يوجد حل إلا بالاقتراض. فمنذ سنة 1986م، أي نحو ثلاث عقود مضت من الزمن، بدأ استخدام إسلوب تخفيض قيمة العملة المحلية كأداة للاستقرار والاصلاح الاقتصادي بليبيا، تارة عبر صانع القرار الاقتصادي الليبي، وتارة أخرى عبر تدخل صندوق النقد الدولي ومؤخراً البعثات الدولية التابعة للامم المتحدة.
ويظهر التالي تداعيات خفض القيمة الخارجية للعملة المحلية الليبية: أولاً- تخفيض قيمة العملة المحلية سنة 2000م:في سنة 2000م، قام متخذ القرار الاقتصادي الليبي بتخفيض قيمة العملة المحلية من 2.77$ إلى 1.66$، ويعد هذا أول تخفيض كبير تقوم به الدولة الليبية، ويبدو أن صانع السياسة الاقتصادية عند اتخاذه هذا القرار كان يهدف إلى الحد من البطالة التي كان يعاني منها الاقتصاد الليبي سنة 1999م، وهذا ما يظهر الشكل (1). فبمجرد تخفيض قيمة العملة المحلية نهجت هذه الإدارة إمتصاص جزء من البطالة بالاقتصاد الليبي، ولكن ذلك التخفيض أدى لانخفاض الفائض برصيد الميزان التجاري ومعدلات النمو الاقتصادي، وتبرز مشكلة عدم استقرار المستوى العام للأسعار عبر ارتفاع ملحوظ في معدلات التضخم، في ظل استمرار تخفيض قيمة العملة وعدم إرجاعها لوضعها السابق ولو بشكل تدريجي، وغياب التخطيط التنموي السليم، أدى ذلك الواقع إلى تفاقم الوضع في سنة 2001م، فحدث تشوه بالاقتصاد الليبي عبر انخفاض كبير لمعدلات النمو، واختلال المستوى العام للأسعار الذي عكستها معدلات التضخم العالية، بالرغم من استمرار الحد من معدلات البطالة.
ثانياً- تخفيض قيمة العملة المحلية سنة 2002م:في سنة 2002م، قام متخذ القرار الاقتصادي مرة أخرى وفي فترة قصيرة من أحداث تخفيض كبير لقيمة العملة المحلية من 1.66$ إلى 0.79$، ويرجح أقدمه على هذه الخطوة هو لإحداث صدمة بالاقتصاد بهدف إعادة التوازن لمتغيرات الاقتصاد الكلي الليبي، وبالفعل استطاع في سنة 2002م عبر هذه الخطوة كما يظهر في الشكل (2) من إعادة رفع معدلات النمو الاقتصادي قليلا مع بقاء رصيد الميزان التجاري على وضعه لسنة 2001م دون إحداث أي زيادة في الفائض، ولكن بالمقابل زادت حدة ارتفاع معدل التضخم محدثاً إختلال في المستوى العام للاسعار، وكذلك ارتفع معدل البطالة. إلا أنه في سنة 2003م حدث انخفاض ملحوظ في معدل التضخم ومعدل البطالة مع ارتفاع في معدلات النمو الاقتصادي وزيادة رصيد الميزان التجاري، ولكن هذا التحسن الذي طرأ ليس بسبب فعالية أداة تخفيض قيمة العملة، بل نتيجة لارتفاع كبير حدث بأسعار النفط سنة 2003م (بسبب الحرب على العراق)، والذي انعكس في ارتفاع العائدات المتحققة من صادرات النفط الليبية والذي يعد المصدر الوحيد للدخل الليبي.حالا انزله ونراجعه ونبعتلك الرابط
ثالثاً- تخفيض قيمة العملة المحلية سنة 2018م:لم يشهد الاقتصاد الليبي تخفيض في قيمة عملته المحلية مثل التخفيض الذي حدث سنة 2018م، والذي قرره المصرف المركزي بتوصية من الـ “IMF” والبعثة الدولية بليبيا، حيث تم تخفيض قيمة العملة المحلية من 0.79$ الى 0.26$، ويلاحظ من الشكل (3) انه لم يطرأ أي تحسن على معدلات البطالة ورصيد الميزان التجاري بعد تخفيض العملة، بحيث بقيت المعدلات على حالها التي كانت عليها سنة 2017م، ولكن معدلات النمو انخفضت بشكل ملحوظ سنة 2018م، لتعود وترتفع بشكل بسيط سنة 2019م ولكن لم تعد لمستواها في سنة 2017م، أما فيما يخص معدل التضخم فقد انخفض بشكل تدريجي بعد تخفيض قيمة العملة، وهذا الانخفاض ليس لفعالية أداة تخفيض قيمة العملة وإنما بسبب تراجع المصرف المركزي جزئيا عن سياسة تضييق عرض النقد الاجنبي، عبر منع الجمهور من شراء العملات الأجنبية وإتاحتها لجزء من فئة معينة عرفها بـ (رجال الاعمال)، مما أنعش السوق السوداء وساهم في تدهور قيمة الدينار الليبي بها إلى مستويات متدنية جداً، وعند منح حصة أرباب الأسر والسماح مؤخراً للجمهور بشراء حصة من الدولار بلغت قيمتها (10 ألاف دولار سنويا للفرد الواحد) وبقيمة 0.26$ مقابل الدبنار الليبي، جعل معدلات التضخم تتراجع قليلا ولكن لم تصل إلى المستوى العام للأسعار التي كان عليه في 2014م، والتي سبقت سياسة منع الجمهور من تداول العملة الصعبة التي اتبعها المصرف المركزي كنهج له.
وتأكيدا على التحليل الوصفي لحقيقة جدوى فعالية تخفيض قيمة العملة المحلية، قدمت المؤسسات الرقابية الأسباب الحقيقية للخلل الهيكلي والتشوهات الاقصادية الذي يمر بها الاقتصاد الليبي خلال العقد الأخير، والتي بزوالها أو الحد منها يستقر الاقتصاد وليس بتخفيض القيمة المحلية للعملة،
ومن أبرز هذه الأسباب: 1- تدني نسبة نفقات التنمية، فمنذ 2013 حتى مطلع 2017م وصل الأنفاق التنموي إلى أدنى مستوياتها ولم يتجاوز نسبة 5%، بالمقابل ارتفع الإنفاق التسييري نحو 95%، بالمخالفة للقانون رقم 85 لسنة 1970م، والذي يقضي بتخصيص ما لا يقل عن 70% من إيرادات النفط لأغراض التنمية، (ديوان المحاسبة وهيئة الرقابة الإدارية، 2013، وديوان المحاسبة، 2017). في حين تعاني الدولة الليبية من الإنفاق التنموي في البنية التحتية، حيث أظهرت التقارير الرقابية المحلية النقص والتهالك في البنية التحتية، كما تبين عدم وجود خطط لتصميم شبكات المياه والصرف الصحي بما يتماشى مع حركة النمو السكاني المتواصل، هذا بالإضافة إلى إن شبكات الصرف الصحي المتوفرة حالياً لا تغطي كامل الأحياء السكنية في المدن، وإن شبكات المياه متهالكة ومتقادمة وهذا ما يتسبب في فقدان كميات كبيرة من المياه الصالحة للاستعمال، (ديوان المحاسبة وهيئة الرقابة الإدارية، 2013). هذا فضلا عن الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي وعجز الدولة عن توفيره، ويعزى ذلك لتأخر الصيانة ونقص إمدادات الغاز الطبيعي (ديوان المحاسبة وهيئة الرقابة الإدارية، 2013).
2- أظهرت مؤشرات (والتي تعد قرائن قوية) على أن الوضع الاقتصادي السيء الذي عاشته الدولة لليبية خلال 2017م غير حقيقي، وأنه كان بالإمكان أن تكون الأوضاع أفضل بانتعاش الاقتصاد كنتيجة طبيعية لتحسن إنتاج النفط وارتفاع إيراداته التي كانت أفضل من الأعوام السابقة، إلا إن هذا الأمر لم يحدث نتيجة سياسة التضييق التي تم انتهاجها من قبل المصرف المركزي في 2017م. فبعد أن آلت إدارة الموازنة الاستيرادية لوزارة الاقتصاد تبينت السياسة التوسعية (لفئة معينىة من رجال الأعمال) التي كانت متبعة في إنفاق النقد الاجنبي تحت إدارة المصرف المركزي مع التضييق (منع الجمهور من شراء النقد الاجنبي) في الأعوام 2013-2016م (ديوان المحاسبة، 2017). وهذا ما يفسر ارتفاع سعر النقد الأجنبي بالسوق السوداء مقابل الدينار الليبي ليصل إلى 9.5 دينار للدولار الواحد نهاية 2017، كنتيجة لانخفاض عرض النقد الأجنبي محلياً بشكل لم يسبق له مثيل (ديوان المحاسبة، 2017).
3- يعاني الكادر الوظيفي العام من تضخم غير متوازن (البطالة المقنعة) مع استمرار التعيين لوظائف لاتحتاجها مؤسسات الدولة وتفشي التسيب الإداري الذي تجاوز كل المؤشرات وتدني الخدمة العامة، كل ذلك في ظل ضعف الموارد المالية وارتفاع النفقات التسييرية دون أن يقابلها بناء مؤسسي أو تطوير لهيكل الدولة الأمر الذي كان له الاثر والعبء الثقيل على الاقتصاد الوطني المتمثل في الإنفاق دون عائد (ديوان المحاسبة، 2017، ديوان المحاسبة، 2015).
4- الفساد عبر التزوير والتلاعب بالاعتمادات المستندية برسم التحصيل والتوريدات لغرض الاستحواذ على العملة الأجنبية وتهريبها للخارج أو التهرب من سداد الرسوم الجمركية، الحق أضرار جسيمة بالاقتصاد الوطني واستتزف الاحتياطيات ورفع المستوى العام للأسعار بالدولة (ديوان المحاسبة، 2015)، تسبب بشح السيولة بالمصارف وزيادة مستويات الفقر وتدني خدمات النظافة والصحة، وعدم الاستقرار والانقسام السياسي والظروف الأمنية أهم أسباب تفاقم عدم الاستقرار الاقتصادي (ديوان المحاسبة، 2017).
5- تخبط وعدم وضوح في استخدام أدوات وقنوات السياسة النقدية من قبل المصرف المركزي الليبي، على سبيل المثال التعدد في أسعار صرف النقد الأجنبي الذي ينتهجها المصرف المركزي، حيث يمنح حصة للفرد (من 400$ الى 500$ سنوياً) ويمنح جزء من التجار الدولار بـ 1.42 د.ل، مع بيع حصة سنوية للافراد (10الاف دولا) يقيمة 3.9 د.ل للدولار والواحد لتخفض لاحقاً إلى نحو 3.7 د.ل، ويمنح الدولار لبعض الشركات الأجنبية العاملة في ليبيا بقيمة أقل من سعر الصرف الرسمي لسنة 1995م اي 0.28 درهم للدولار الواحد، (ديوان المحاسبة، 2015) وهذه السياسات تضعف الثقة في العملة الليبية وتسبب عزوف المستثمر الأجنبي عن الاستثمار في ليبيا، هذا فضلاً عن هجرة المستثمر المحلي لدول أكثر استقرار وثقة في عملاتها المحلية. مما تقدم يستنتج أنه على صانع ومتخذ القرار والسياسات الاقتصادية أن يعالج تلك المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد كخطوة أولى للاستقرار الاقتصادي، ومن ثم البدء في مسيرة الإصلاح الاقتصادي، وبالتالي فإن تخفيض قيمة العملة المحلية لن تؤدي إلى تحقيق أي استقرار أو إصلاح للاقتصاد الليبي بل قد تجره إلى فخ الدين الخارجي مما سيحدث هوة العجز الخارجي ويزيد من تشوه الاقتصاد الليبي ومعاناة المواطنيين بالبلد الثري بالموارد والمكلوم بسوء إدارتها.