كتب الخبير و المهتم بالشأن الاقتصادي “نور الدين حبارات مقالاً بعنوان “حقيقة الخلاف بين وزارة المالية والمركزي بشأن عدم صرف مرتبات يناير 2020 “قراءة تحليلية قانونية مالية موجزة”.
تصاعدت مؤخراً حدة الخلاف بين وزارة المالية والمصرف المركزي وذلك بعد أن رفض الأخير تنفيذ أذونات صرف مرتبات شهر يناير الماضي رغم إحالتها إليه منذ 23 من الشهر ذاته وذلك بحجة عدم اعتماد الترتيبات المالية للعام 2020، في حين أكدت وزارة المالية في بيان لها صحة وقانونية إجراءاتها وأنها تمت وفقا لاعتمادات شهرية مؤقتة أي 1/12 من الترتيبات المالية للعام 2019، وأنها لديها التغطية المالية الكافية في حساباتها لدى المركزي بل وصل الخلاف بينهما إلى حد اتهام السيد وزير المالية للسيد المحافظ بالدكتاتور في حين التزم الرئاسي الصمت حيال ما جرى.
وبالنظر إلى الأهمية القصوى للموضوع سيما وأنه يتعلق بمرتبات مواطنين يعانون اليوم الأمرين؛ فهذه المرتبات في المتوسط لم تعد تكفي لسد الحد الأدنى من احتياجاتهم الأساسية فما بالك تأخرها لقرابة شهرين، و من ناحية أخرى أردت توضيح حقيقة ما يجري بعيدا عن ما تتناقله وسائل الإعلام وذلك من خلال تناول الموضوع بطريقة موضوعية ومهنية وحيادية وفي إطار القوانين والتشريعات النافذة ذات العلاقة وبعيداً أيضاً عن الجدل القانوني بشأن مدى دستورية وشرعية كافة أطراف الخلاف وما مدى قانونية الترتيبات المالية، ومن ثم فإن تناولنا للموضوع سيكون كما لو كانت الأوضاع طبيعية، كما أن اللعب بعواطف المواطنين والاستخفاف بعقولهم آن له أن يتوقف ويجب عليهم معرفة حقيقة كل ما يجري ليس اليوم فقط بل منذ سنوات ومن المسؤول الذي بدوره يجب أن يتحمل كافة مسؤولياته.
و قبل الخوض في جوهر الخلاف يجب التطرق و بشكل موجز للمهام و المسؤوليات الدستورية و القانونية لكل من الحكومة و المصرف المركزي و ذلك لإزالة الغموض و الالتباس الذي يكتنف غالبية عامة الناس بشأن وظيفة كل منهما و ذلك فيما يتعلق بالميزانية العامة و آليات تنفيذها ، فالمصرف المركزي وفقا للمادة (1) من القانون رقم (1) لسنة 2005 مؤسسة مستقلة تتمتع بالشخصية الاعتبارية و الذمة المالية المستقلة و أصوله و أمواله لا بجوز الحجز عليها و أكدت المادة (2) على تبعية المركزي للسلطة التشريعية فهي من تعين و تقيل المحافظ ونائبه و تقبل استقالاتهم و حددت المادة (3) مدينة طرابلس مقر رئيسي له مع جواز إنشاء فروع و وكلاء له داخل البلاد و خارجها في حين حددت المادة (4) رأس مال المصرف المرخص به بمليار دينار و لا يجوز زيادته إلا بقرار من السلطة التشريعية .
و من هنا يتضح و بما لا يدع مجال للشك ملكية المصرف ملكية كاملة للدولة أي للشعب و نوابه أي (السلطة التشريعية)، هم من لهم الحق في الإشراف و الرقابة على أعماله من خلال لجانهم البرلمانية و لهم حق مساءلة و إقالة المحافظ و نائبه و تعيين بديل عنهم، و عليه فإن المصرف المركزي مستقل استقلالية كاملة عن الحكومة و لا يخضع لها و لا يتلقى منها أي أموال في شكل دعم و يمارس وظائفه الموكلة له بالتنسيق معها و في إطار السياسة العامة للدولة و من أبرز الوظائف التي أوردتها المادة (5) إصدار النقد الليبي و المحافظة على استقراره في الداخل و الخارج، إدارة احتياطاته و احتياطات الدولة من الدخل و النقد الأجنبي، تنظيم السياسة النقدية و الإشراف على تحويل العملة داخل ليبيا و خارجها، تنظيم السياسة الائتمانية المصرفية والإشراف على تنفيذها، تحقيق أهداف السياسة الاقتصادية في استقرار المستوى العام للأسعار، إدارة السيولة النقدية في الاقتصاد الوطني، تقديم المشورة للدولة في المسائل المتعلقة بالسياسات الاقتصادية أي مستشارا لها، وفي سبيل تحقيقه للوظائف المذكورة للمركزي اتخاذ الوسائل الآتية:
التأثير في الائتمان من حيث حجمه ونوعه ومدته، التدابير المناسبة لمعالجة الاضطرابات الاقتصادية والمالية، مراقبة المصارف وشركات الصرافة والإشراف عليها، الإشراف على نظام المدفوعات الوطني بما في ذلك عملية المقاصة بين المصارف، ومن هنا فإن المصرف المركزي هو مصرف الحكومة فهو من يدير حساباتها المركزية ولا يملكها ولا يتصرف في دينار واحد إلا بإيعاز منها، كما أنه مصرف المصارف ومصرف المقاصة أو التسويات ومصرف الإصدار والإحتياطيات وقطعاً ليست وظيفة المركزي إقرار الرسوم والضرائب وجبايتها وعقد القروض وتشغيل النفط وتصدير إنتاجه فهذه الإختصاصات معقودة للحكومة دون غيرها ودوره فقط ينحصر في إيداع تلك الإيرادات في حسابات الحكومة كما ليس من اختصاصه إقرار الإنفاق لأن هذا الاختصاص معقود لها وفق القوانين والتشريعات المالية ذات العلاقة ودور المصرف ينحصر فقط في دفع ما تقره الحكومة من خلال اذونات صرف تخصم من حساباتها الجارية لديه.
ولمزاولة المركزي نشاطاته حددت المادة(9) العمليات التي يمكن له إجراءها منها على سبيل المثال شراء السبائك والنقود الذهبية وبيعها واسترادها وتصديرها والتعامل بها ، شراء العملات الأجنبية والتعامل بها، اعادة خصم الأوراق التجارية، شراء وبيع أذونات وسندات الخزانة التي تصدرها وزارة المالية أو تضمنها، شراء وبيع أذونات وسندات الخزانة التي تصدرها او تضمنها حكومات أجنبية ، اصدار الأوراق المالية والتعامل بها لأغراض عمليات السوق المفتوح ، وبالتأكيد كل هذه الأنشطة اهم مصادر إيرادات المركزي وأرباحه.
ولكن الأهم من كل ذلك هو ما تضمنته الماد(11) الفقرة(2) من القانون المذكور وهي بيت القصيد والتي تنص صراحتة على المصرف أن يقدم سلفيات مؤقتة لوزارة المالية لتغطية عجز وقتي في ايرادات الميزانية بالشروط التي يتم الإتفاق عليها بين المصرف ووزارة المالية على ان تتضمن الآتي.
أ: ألا تزيد هذه السلفيات على 1/5 مجموع الإيرادات المقدرة بالميزانية، ب: أن تسدد السلف في نهاية السنة المالية التي قدمت فيها ولا يجوز منح اي سلفة لوزارة المالية إلا بعد أداء السلفيات التي قدمتها خلال السنة المالية السابقة) وبالإمعان في نص هذه المادة يتضح لنا وبجلاء أن منح المركزي لهذه السلفة مسألة جوازية وليست إلزامية ومنحها لا يتم إلا بشروط واضحة ومحددة سلفاً وهي أن تكون مؤقتة وليست مزمنة ولتغطية عجز مؤقت وليس مزمن وبالشروط التي تم الاتفاق عليها بين المركزي والمالية ولا تزيد 1/5 الإيرادات المقدرة بالميزانية العامة وان تسدد في نهاية السنة المالية التي قدمت فيها بحيث لا تتراكم ولا يجوز منح وزارة المالية سلف مالية آخرى إلا بعد أداء السلف السابقة
وعملياً هذه المادة لم يعد لها وجود فالسلف المؤقتة أصبحت مزمنة وتراكمت إلى أن ناهزت تقريباً (120) مليار دينار للحكومتين وأرصدة الحكومة اليوم قانوناً لدى المركزي مدينة وليس دائنة و1/5 الإيرادات العامة لهذا العام في ظل الهبوط المتوقع للإيرادات النفطية لم تعد كافية أما الشروط المتفق عليها أصبحت حبراً على ورق.
ومن جانب آخر فإن قانون النظام المالي للدولة قد أوكل للحكومة مهمة الإعداد والتحضير للميزانية العامة من خلال وزارة المالية ومن ثم تنفيذها بعد المصادقة عليها من السلطة التشريعية وفق المواعيد المقررة قانوناً وعلى الحكومة في سبيل القيام بمهامها والتي تأتي في مقدمتها صرف المرتبات وبسط الأمن وحماية الحدود وتقديم الخدمات وسداد الدين العام ضرورة جباية الإيرادات والضرائب المقررة وعقد القروض كما لا يجوز لها الإنفاق من هذه الإيرادات إلا بإيجاز من تلك السلطة في شكل قانون (قانون الميزانية) فإذا كانت مهمة جباية الإيرادات إلزامية للحكومة فإن مسألة الإنفاق جوازية فلها ان توقف بعض المصروفات او الحد منها إذا ما تبين لها أن المصلحة العامة والحالة المالية للدولة تستلزم ذلك وفق ما نصت عليه المادة (12) من القانون المذكور.
كما نصت المادة (8) صراحة (إذا لم يتم إقرار الميزانية الجديدة قبل بدء السنة المالية تفتح بقرار من مجلس قيادة الثورة اعتمادات شهرية مؤقتة على أساس جزء من اثنيْ عشر من اعتمادات السنة السابقة) .
فمن ناحية مضمون هذه المادة لا يأخذ في الاعتبار تداعيات إيقاف تصدير النفط الممول الرئيس للميزانية ومن ثم لا يمكن إسقاط هذه المادة على الحالة الماثلة أمامنا فهذه المادة يعمل بها من قبل معظم دول العالم أثناء فترة حل البرلمانات أو في فترة عدم انعقادها لأي سبب ما، كما تم العمل بها في ليبيا قبل 2011 بشكل اعتيادي عندما كان انعقاد السلطة التشريعية حينها (مؤتمر الشعب العام) في مطلع آذار مارس في كل عام، ومن ناحية أخرى هذه المادة تجيز للحكومة الصرف كحد أقصى وبما لا يتجاوز اعتمادات السنة السابقة، فإذا كانت اعتمادات السنة المالية السابقة (2019) تقدر ب 46.800 مليار دينار فإن المبالغ التي يجوز الحكومة صرفها شهرياً خلال العام الحالي تقدر ب 4 مليار دينار في حين إيرادات النفط لشهر يناير الماضي وفق لبيانات المؤسسة الوطنية لا يتجاوز 1.768 مليار دولار اي ما يعادل 2.300 مليار دينار بينما ذكر المركزي في بيانه أن قيمة هذه الإيرادات 0 وذلك في رسالة تحذيرية واضحة للحكومة للاستعداد لما هو أسوء والتي غالباً ما اعتادت على تجاهلها أو التقليل منها.
والسؤال هو كيف ومن أين لوزارة المالية تدبير المبالغ المالية لتمويل نفقات الحكومة مع العلم أن أرصدة حساباتها مدينة وليس دائنة؟؟؟ وإذا كانت لديها مبالغ كافية لتغطية مرتبات يناير الماضي كما تدعي فماذا عن مرتبات فبراير الجاري وماذا عن فاتورة الدعم؟؟؟
والآن وبناءً على ما تقدم وبالعودة إلى جوهر الخلاف القائم فإننا نرى حجج وزارة المالية بشأن الصرف بموجب اعتمادات شهرية مؤقتة على أساس 1/12 من اعتمادات السنة المالية السابقة في غير محلها حيث ذلك يعني أننا أمام ميزانية أو ترتيبات مالية بحجم 46.800 مليار دينار وهذا لا يتأتى في ظل الهبوط المتوقع لإيرادات النفط التي كانت تشكل قرابة 70% من إيرادات 2019 كما أن إيرادات النقد الأجنبي التي اعتادت الحكومة على استخدامها في تمويل الميزانية العامة وتغطية العجز بدلاً من إطفاء الدين العام معرضة أيضاً للانخفاض وبشكل كبير فهي مرتبطة مباشرة بالإيرادات النفطية ومن ثم فإن رفض المركزي له ما يبرره لأن موافقته تضعه أمام مسؤليات قانونية أكثر تعقيداً تتمثل في كيفية تدبيره للأموال اللازمة لتغطية العجز المتوقع في الترتيبات المالية 2020 م وذلك بعد أن تخلت وزارة المالية عن الإيفاء بالتزاماتها إزاء السلف المالية الممنوحة لها والتي تناهز اليوم أكثر من (120) مليار دينار للحكومتين في شكل دين عام دون تشريع قانوني يُجيزه.
عليه فإننا نرى لا مناص من إنهاء وحل الخلاف القائم إلا باعتماد المجلس الرئاسي لترتيبات مالية لعام 2020 تكون مغايرة تماما لترتيبات 2019، على أن يتم التشاور بشأنها مع المركزي وأن تأخذ في الاعتبار تداعيات توقف إنتاج وتصدير النفط وعلى أن يراعى في تقدير المصروفات الاقتصاد والترشيد في الإنفاق وأن تعطى فيه الأولية لصرف المرتبات ونفقات الدعم والخدمات الأساسية، كما يجب التوقف عن سياسة الهدر والإسراف في الإنفاق التي أرهقت كاهل المواطنين بالديون فهم وحدهم دون غيرهم من سيتحمل تبعاتها فالحكومات تأتي وتذهب ولكن الشعوب باقية.