كتب الخبير المصرفي والمهتم بالشأن الاقتصادي “عادل الكيلاني” مقالاً عن حوكمة المؤسسات والشركات العامة (المملوكة للدولة الليبية)
تعتبر الحوكمة (الحكم الرشيد) من الآليات المهمة لمكافحة الفساد والرفع من أداء المؤسسات الخاصة والعامة والذي اعتمدت عليه العديد من المؤسسات الدولية كمعيار لتقييم أداء المؤسسات والحفاظ عليها وحمايتها من الفساد والضياع.
إن غياب أبسط معايير الحوكمة عن المؤسسات والشركات المملوكة للدولة الليبية، كان سببا في كثير من التجاوزات واستفحال الفساد وتوظيف الشركات المملوكة للدولة لتحقيق مصالح شخصية لمن يديرونها ، وضياع مصلحة المجتمع الليبي صاحب المصلحة الحقيقية في هذه المؤسسات.
ونظراً لغياب الممثل الحقيقي للملاك الطبيعيين لهذه الشركات العامة، فقد غابت الرقابة الفعالة والناجعة والتي من المفترض أن تكون حارسا لحماية أموال الشعب الليبي من الهدر والفساد من قبل مجالس الإدارات، والإدارات التنفيذية والأجهزة الرقابية.
إن تفرد وزارة المالية بحق إدارة وتسيير العديد من المؤسسات المالية والتجارية الليبية، واختيار مجالس الإدارات والمدراء التنفيذيين، وعدم قيامها بدورها في وضع السلطة التشريعية والمتمثلة في البرلمان في صورة الوضع الحقيقي لهذه المؤسسات أدى إلى تدني كفاءة هذه المؤسسات بالنظر لهيمنة الاعتبارات السياسية على حساب الاعتبارات الاقتصادية في تسييرها. كما أن عدم خضوع المؤسسات المالية والاستثمارية الليبية لرقابة البرلمان أدى إلى عدم وجود رقابة مستقلة على هذه المؤسسات، وبالتالي التقليل من فرص خضوع الحكومة للمساءلة.
كما نعلم؛ فإن الاقتصاد الليبي يتميز بوجود الكثير من المؤسسات التجارية والاستثمارية المملوكة للدولة، والتي تم تخصيص أموال كثيرة لها كانت من الفوائض المالية الناتجة عن الارتفاع في أسعار النفط خلال السنوات السابقة، والتي كان الهدف منها توظيف هذه الفوائض في شكل شركات استثمارية ومحافظ استثمارية للاستثمار في الأسهم والشركات الدولية، من أجل تحقيق أرباح نقدية خارج إيرادات النفط، وتكون أداة لتعويض أي نقص أو عجز ناتج عن تقلبات أسعار النفط السلبية. إلا أن هذه الشركات والمؤسسات ورغم ما تم ضخه من أموال طائلة، هي من حق الشعب الليبي، إلا أنها لم تكن في المستوى والطموحات المأمولة، وتعرضت الكثير منها لخسائر متتالية، وضياع الكثير من هذه الاستثمارات، وإهدار الأصول والاستيلاء عليها من قبل من تم تكليفهم بإدارتها وحمايتها وتنميتها.
كل هذا ما كان أن يحدث لو توفرت أبسط شروط الرقابة والحوكمة والإشراف والمتابعة من قبل العديد من المؤسسات التي يمكن أن نعتبرها أجهزة تمثل إلى حد ما الشعب الليبي لمتابعة أداء هذه المؤسسات. إن تفرد الحكومة المتثملة في وزارة المالية وغيرها من الوزارات في الإشراف والمتابعة على هذه الشركات جعل من هذه الشركات المملوكة للدولة عرضة للفساد وعدم خضوع الحكومة للمساءلة من قبل الجهات التشريعية والرقابية العليا.
هذا القصور في إدارة أموال الشعب الليبي المتمثلة في الشركات والمؤسسات والمحافظ الاستثمارية، كان نتيجة لضعف معايير الحوكمة والشفافية، وعدم وجود ممثل حقيقي للشعب الليبي يعبر عن مصالحه وطموحاته في هذه الشركات. بل وأصبحت الكثير من الشركات والاستثمارات الخارجية والمحلية وكأنها إقطاعية لعائلات معينة أو لمجموعة من الأشخاص تجمعهم أفكار أيديولوجية معينة. بل وبلغ الأمر ببعض هؤلاء أن تأمر على هذه المؤسسات من أجل الاستيلاء عليها وتصفيتها صورياً.
فمثلاً؛ لم يتم مساءلة المسؤولين عن المحافظ الاستثمارية، أو شركة الاستثمار الوطني، أو شركة الاستثمارات الخارجية، والاستثمارات الداخلية، ومصرف الساحل والصحراء، والمصرف الليبي الخارجي …. إلخ، داخل البرلمان التشريعي باعتبار أنه الممثل للشعب الليبي ومن حقه أن يعرف كل صغيرة وكبيرة عن هذه الشركات والمؤسسات، ويضع حدا لأي عملية تلاعب أو تضارب للمصالح بين المستفيدين من هذه المؤسسات. فكان من المفترض أن تخضع هذه المؤسسات لرقابة صارمة قبل البرلمان الذي يعتبر الجهة الوحيدة المخول لها صلاحية إصدار وتعديل القواعد والقوانين المنظمة لنشاط هذه الشركات، كما أن استغلال وزارة المالية لأموال هذه المؤسسات من المفترض أن يكون مرهون بموافقة مسبقة من البرلمان، وأن تقوم وزارة المالية وغيرها بإحاطة البرلمان بتقارير نصف سنوية عن أداء هذه المؤسسات، والتغييرات المطلوبة لتطويرها في شكل جلسات علنية إحقاقاً لمبدأ الشفافية.
من هنا؛ وجب أن تتم إعادة هيكلة المؤسسات المملوكة للدولة والمتمثلة في الشركات والمحافظ الاستثمارية والمؤسسات المالية والمصرفية بحيث تكون تحت رقابة البرلمان مباشرة، بحيث يكون دور البرلمان على النحو التالي:
• إصدار القوانين والتشريعات المحددة لإهداف ومهام هذه المؤسسات.
• مراقبة ومساءلة كل وزارة تتبع لها هذه المؤسسات باعتبارها الجهات المالكة لهذه المؤسسات، وإجبارها على تقديم تقارير نصف سنوية حول أداء هذه المؤسسات.
• وضع ضوابط اختيار مجالس الإدارات لهذه المؤسسات وفق معايير وشروط يتم اعتمادها، ومساءلة أعضاء مجالس الإدارات عن أدائهم ودورهم في قيادة الشركات التي يديرونها.
• تكليف لجنة خاصة داخل البرلمان الليبي تختص بمتابعة مساهمات الشعب الليبي في هذه المؤسسات. وتقديم تقاريرها في جلسات علنية منقولة على الهواء مباشرة.
• أن ينسق البرلمان مع مصرف ليبيا المركزي فيما يتعلق بالجوانب الفنية، مثل تحديد المخاطر المتوقعة، والتشكيلة المناسبة للمحافظ الاستثمارية، وتطبيق المعايير الدولية في تقييم الأداء وتحديد الخارطة الاستثمارية.
إن موضوع حوكمة الشركات والمؤسسات المملوكة للدولة، تحتاج لوقفة جادة من قبل المسؤولين والنواب، وأصحاب العلاقة والمصالح، لحماية هذه المؤسسات والحفاظ على ما تبقى منها، ومحاولة تصحيح الاختلالات، ووقف الصراعات داخل هذه المؤسسات، والتي تستند إلى معيار واحد وهو المصالح الشخصية.