كتب الخبير النفطي “محمد أحمد” مقالاً بعنوان “الاقتصاد الليبي بين النمو والركود: ملاحظات مبدئية من احصائيات المصرف المركزي وصندوق النقد الدولي” .
وجهة نظر للنقاش هل يوجد اقتصاد ليبي؟سؤال جدير بالمناقشة، البعض يقول إن ما يوجد في ليبيا ليس له علاقة بعلم الاقتصاد كما نعرفه في باقي العالم، بل هو أقرب إلى العشواء حيث لا يوجد أي أساسيات يمكن البناء عليها تتيح لنا بالتالي استنتاج أي اتجاهات علمية مفيدة سواء ما حدث سابقا أو ما يحدث الحاضر أم الاحتمالات التي قد تحدث في المستقبل، ويجادلون أن ما يحدث في ليبيا هو تصرفات فردية للسياسيين لا تستند إلى أي منطق علمي.
وهناك فريق آخر في المقابل يجادل إن القوانين الاقتصادية التي ترجمتها الأفكار الاقتصادية تبقى هي من يدير الحياة العامة حتى أثناء الفوضى، شخصيا أميل للرأي الثاني خصوصا إذا ما أخذنا في الاعتبار إن الحركة الاقتصادية في ليبيا من الصعب فصلها عن الحركة العالمية نتيجة كون البلد أحد المساهمين في الاقتصاد العالمي وهذا ما يعكسه عضوية ليبيا في منظمات اقتصادية دولية مثل صندوق النقد العالمي ومنظمة البلدان المصدرة للنفط والاتحادات الإقليمية مثل الجامعة العربية والاتحاد الافريقي.
وفي الواقع فإن ليبيا حافظت منذ استقلالها كدولة في الغالب على اقتصاد مستندي يستند إلى نظام تشريعي يقنن حركة التبادل الاقتصادي التي تشمل التبادل السلعي ضد التبادل النقدي وأرست كما هو واضح نظام متسلسل للقيمة قائم على عملة محلية وهو ميزة وجود نظام اقتصادي بالرغم من احتمال كونه ضعيف، ولكنه يعيش.
المثل الواضح هو إن ثقة المواطن الليبي لاتزال قائمة في نظام القيمة المحلي المقاس بالدينار للأصول الثابتة والأصول السائلة كذلك، هذا لا ينفي إحتمالية حدوث انهيار اقتصادي في أي وقت كما حدث في دول عديدة وهو أمر قد يقترب سريعا في حال إستمرار ممارسة السياسات الاقتصادية الخاطئة.
أحد هذه الأخطاء هو سوء تقدير الوضع الحالي للاقتصاد الليبي، حين يتم التقليل من أخطار الركود التضخمي على الاقتصاد أم ما يسمى بالاقتصاد الليبي في رأي البعض، دعونا نتكلم عن الحالة المعاكسة للركود.
جرت العادة في الفكر الاقتصادي على رصد النمو كظاهرة سنوية أو ما يسمى Year-On-Year بمعنى قياس التغير على الناتج المحلي الإجمالي بالنسبة للسنة السابقة، إذا كان التغير موجبا يقال عندئذ أن الاقتصاد نما أما إذا كان التغير سالبا فأن هذا يعتبر ركود أو كساد اقتصادي.
الدول تحتاج إلى النمو الاقتصادي لتثبيت مستوى المعيشة على أقل تقدير، زيادة عدد السكان بدون نمو يعني انخفاض مستوى الدخل الفردي وبالتالي مستوى المعيشة، تختلف مستويات النمو التي تحتاجها الدول، في بداية القرن على سبيل المثال كانت دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا تحتاج إلى مستوى نمو حقيقي لا يقل عن 5% سنويا للمحافظة على مستوى المعيشة في اقتصاداتها قياسا إلى النمو الديمغرافي.
ليبيا كانت تحتاج إلى نمو سنوي حقيقي يقدر بمعدل 3% بفرض ثبات أسعار مكونات الناتج المحلي الاجمالي. لذا يتم قياس النمو المثبت تسلسليا بمعنى إزالة أثر التضخم من أسعار المكونات، سنبدأ تحليلنا بالرسم الأول المرفق هنا بسنة 2005 وهي السنة التي إرتفعت فيها أسعار النفط فوق مستوى 50 دولار للبرميل كما خرجت ليبيا من الركود الذي أعقب الاضطراب النقدي بسبب تغييرات سعر الصرف.
وفقا لإحصائيات صندوق النقد الدولي عن تطور الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لليبيا باعتبار أن سنة 2007 هي سنة الاساس إذا ما ثبتنا الدخل من النفط بالسعر الحقيقي فأن النمو يحتاج سعر تصاعدي للنفط بداية من 2006 بمعدل 3% سنويا ليصل في سنة 2022 إلى متوسط 90.91 دولار للبرميل.
وبينما هذا لم يحدث على أرض الواقع سواء من ناحية السعر أو من ناحية مستوى الإنتاج إلا أن متوسط السعر المحقق للفترة كان 72.2 دولار للبرميل مقابل متوسط سعر مفترض بمعدل 71.5 دولار للبرميل وهذا يعني أنه بعمليات توازن كان يمكن لإدارة اقتصادية ليبية فعالة تحقيق دخل يصل إلى 126 مليار دينار حقيقي في سنة 2022.
المنحنى الأزرق الذي ينتهي بمعدل 31.65 مليار يعني أننا في مرحلة ركود مستمر منذ سنة 2007 أي أن الناتج المحلي الإجمالي لم يصل بعد إلى النقطة التي وصلها في تلك السنة وهي 85 مليار دولار حقيقي بأسعار سنة الأساس 2007، وللمفارقة على أساس سنوي سجل نمو في بعض السنوات مقارنة بالسنة التي سبقتها وصل في سنة 2021 إلى 177% وبالطبع فأن هذا المقياس لا يعكس الصورة الكاملة.
في هذه السنة 2022 يتوقع صندوق النقد الدولي أن ينمو الاقتصاد الليبي على أساس سنوي بمعدل 3.5% ولكن بهذا المعدل السنوي فإن الناتج المحلي الإجمالي لا يزال أقل بمعدل 58% من مستوى عام 2005 ويحقق 31.65 مليار دينار مقابل ما كان يفترض تحقيقه وهو 126 مليار دينار في حال أن الاقتصاد كان ينمو بشكل صحي 3% في السنة.
كما أشرنا أعلاه فأن معظم النمو ينبغي أن يأتي أساسا من ارتفاع أسعار النفط، إلا أن القطاع غير النفطي كان قد يساهم في النمو أيضا، لذا راجعت احصائيات الناتج المحلي الإجمالي المنشورة في النشرة الاقتصادية لمصرف ليبيا المركزي للفترة 2007 إلى 2019 وهو المتوفر.
تشير النشرة إلى أن النشاطات غير النفطية هي:الزراعة صيد الاسماك التعدين الصناعات التحويلية الكهرباء والغاز والمياه الانشاء تجارة الجملة والتجزئة والتصليحات الفنادق والمطاعم النقل والتخزين والاتصالات الوساطة المالية الانشطة العقارية والايجارية والمشاريع التجارية الدفاع والضمان التعليم الصحة والعمل الاجتماعي أنشطة آخرى يمكن ملاحظة أن هذه الأنشطة كانت تكتسب حصة متزايدة للمساهمة في الناتج المحلي الإجمالي بصفة مستقلة عن الدخل النفطي خلال الفترة 2005-2010 (بعامل ارتباط سالب -68%) إلا أن هذا الوضع انعكس في الفترة 2011-2019 حيث أصبحت العلاقة قوية بين الدخل من الأنشطة النفطية والأنشطة غير النفطية (بعامل ارتباط موجب 47%) مما يسحب معدلات النمو إلى أسفل كذلك.
وعلى الرغم من ارتفاع نسبتها في الناتج المحلي الإجمالي في الفترة 2014-2017 إلا أن هذا يعود أساسا لانخفاض الدخل النفطي نتيجة الاغلاقات في الموانئ النفطية ، ويمكن كذلك ملاحظة ارتفاع النسبة اللا إنتاجية لصنف الدفاع والضمان الاجتماعي حيث كان يشكل 17% من الأنشطة اللانفطية في الفترة 2005-2010 ليصبح 45% للفترة 2011-2019.
الأنشطة الإنتاجية غير النفطية معظمها انخفضت نتيجة توقف البرامج التنموية، في مقابل ارتفاع في الأنشطة غير الإنتاجية وهي الدفاع والضمان والوساطة المالية كما هو موضح بالرسوم.
الخلاصة أن الاقتصاد الليبي يعاني من ركود بداية من 2009 لم يستطيع بعده أن يستعيد المستوى السابق والذي كان مخططا أن يصله في 2012، الأخطاء الاقتصادية والنقدية بما فيها الاغلاقات النفطية وعدم تفعيل السياسات النقدية المناسبة والتمادي في الانفاق الحكومي أدت إلى حدوث تضخم في الأسعار بداية من سنة 2016 وإستمراره إلى 2019 حين إنخفض بفعل عوامل خارجية وعودة جزء كبير من الإنتاج النفطي في 2018. النمو المطلوب للخروج من الركود التضخميوحيث أنه من الصعوبة وفقا لهذا التحليل الوصول مجددا إلى مستوى دخل 2005 فأنه يمكن تحديد سنة 2012 كهدف للخروج من حالة الركود وبهذا فأن النمو المطلوب لنصل إلى مستوى الدخل في سنة 2012 يحتاج إلى نمو سنوي بمعدل 7%.
يتوقع أن يأتي نمو قدره 3% من ارتفاع محتمل لأسعار النفط أو ارتفاع مستوى الإنتاج بشرط تمويل هذا الارتفاع، أما باقي 4% يفترض أن تأتي من نمو الأنشطة غير النفطية خصوصا الإنتاجية منها، وهذا سيحتاج على الأقل لتخصيص ما لا يقل عن 20-30% للتنمية من الناتج المحلي الإجمالي الذي هو اليوم أقل من 5%.
الانفاق الحكومي على التنمية من عوائد النفط ينبغي أن يرتفع ويتم التقليل من الأبواب الأخرى، كما على القطاع الخاص المساهمة في الاستثمار بحصة معينة وعدم ترك الأمر على كاهل الحكومة فقط التي في أغلب الأحوال لن تستطيع مقابلة هذه الالتزامات وحيدة.
أما من ناحية التضخم فأنه يصعب التصور في كيفية وضع التضخم تحت السيطرة بدون تفعيل أي سياسات نقدية. الاستمرار في الاعتماد على سعر الصرف كسياسة نقدية وحيدة لمعالجة التضخم والاختلالات النقدية يقود سريعا للأسف إلى جولة جديدة من تخفيض الدينار.