كتب: د. عبدالله ونيس الترهوني – أخصائي اقتصاديات النقل
بحسب بيانات معهد صناديق الثروة السيادية SWFI فإن صندوق التقاعد النرويجي والذي يُعد من أقدم الصناديق في العالم هو أكبرها من حيث قيمة الأصول والتي بلغت 1.18 تريليون دولار أمريكي بنهاية العام 2019، وهذا الرقم يُشكل أكثر من 13.5 % من إجمالي قيمة أصول الصناديق السيادية في العالم، وقد تأسس هذا الصندوق مطلع ستينات القرن الماضي، وتقوم فكرته على استثمار 75-85 % من عوائد النفط النرويجي، وقد جرى أوّل تحويل مالي إلى هذا الصندوق في العام 1996، في حين جاء صندوق شركة الصين للاستثمار والمملوك للحكومة الصينية في المركز الثاني عالمياً بنهاية العام 2019 وبأصول تقدر ب 940 مليار دولار أمريكي، في حين حل صندوق جهاز أبوظبي للاستثمار في المركز الثالث عالمياً بنهاية نفس العام، وهو الصندوق الذي تأسس في العام 1976 ويمتلك أصولاً تقترب في قيمتها من 700 مليار دولار أمريكي، في حين جاء صندوق هونغ كونغ والمعروف بأسم محفظة الاستثمار التابعة لمؤسسة النقد في هونج كونج في المركز الرابع عالمياً، وبأصول تزيد قليلاً عن 539 مليار دولار أمريكي، ومن بين أهداف إنشائه هو دعم دولار هونج كونج، أما أعرق الصناديق السيادية في العالم وهو الصندوق السيادى الكويتي والذي أنشأته دولة الكويت سنة 1953 تحت أسم الهيئة العامة للاستثمار فجاء في المركز الخامس عالمياً من حيث قيمة أصوله بنهاية العام 2019، وهو يمتلك أصولاً تقترب في قيمتها من 533 مليار دولار أمريكي، وهو مخصص بالكامل للأجيال القادمة، حيث أن الحكومة الكويتية لاتسحب منه أبداً.
لقد أصبحت الصناديق السيادية طرفاً في أسواق الأسهم العالمية، حيث أنها تمثل أقل بقليل من نسبة 10% من إجمالي هذه الأسواق، كما أن بعض الدول قامت بنقل احتياطات هامة من بنوكها المركزية إلى الصناديق السيادية بعد الأزمة الاقتصادية العالمية في العام 2008، الأمر الذي جعلها تستثمر في أصول محفوفة بمخاطر أكبر، وهذه الأخطار الناتجة عن تراكم الاحتياطات المالية في صناديقها السيادية وبأكثر مما هي لدى بنوكها المركزية، وبالتالي صار من الصعوبة بمكان الوصول لهذه الاحتياطات من قبل البنوك المركزية لاستخدامها في سياستها النقدية متى احتاجتها، ولكن يظل التحدي الحقيقي للصناديق السيادية هو تحقيقها للتوازن المناسب أو بالأحرى عملها في بيئة مثالية قدر الإمكان، وبعبارات أوضح يجب أن تكون صناديق الثروة السيادية مستقلة عن أي نعرات وبمعزل تام عن التجاذبات السياسية وعن التقلبات الاقتصادية (كلما أمكن ذلك)، وذلك من أجل الحفاظ على استثماراتها وعلى مصداقيتها، ثم لابد لها من أن تدير استثمارات متنوعة وبكل مهنية ودون أن يؤثر ذلك على جدواها الاقتصادية التي أُنشأت من أجلها.
في وقتنا الراهن كل الصناديق السيادية حول العالم تأثرت سلباً بجائحة فيروس كورونا المستجد، وسجلت ولازال تسجل خسائر في بعض مساهماتها واستثماراتها، والتي ستظهر جلية من خلال تقارير نتائج أعمالها بنهاية السنة المالية، ولذا صار من الواجب على الصناديق السيادية وبالأخص القائمة على إيرادات النفط والغاز الاحتفاظ بسيولة (إحتياطية) كافية تحسباً لاحتمال إنهيار أسعار المنتجات الهيدروكربونية أو حتى إنهيار أسعار الأسهم، وبالمناسبة وقبل أيام مضت اقتنصت المملكة العربية السعودية الفرصة وأشترت حصصاً في 4 من كبريات شركات النفط الأوربية وبقيمة إجمالية بلغت مليار دولار أمريكي مطلع أبريل 2020، وذلك بعد أن انخفضت قيمة أسهم هذه الشركات خلال شهر مارس 2020 بسبب جائحة فيروس كورونا، ويعزو هذا الانخفاض لسببين اثنين هما: وفرة المعروض من النفط الخام في الأسواق، بالتوازي مع انخفاض الطلب عليه بشدة، حيث أن عدداً كبيراً من المصانع حول العالم قد توقفت عن العمل تماماً وبالأخص في الصين، وفي المقابل ومع توصل منتجي النفط الخام لإتفاق على ضرورة خفض الإنتاج مطلع شهر مايو 2020، فمن الطبيعي أن ترتفع قيمة أسهم الشركات من جديد، وفي كل الأحوال فإن هذه الصفقة هي نقطة تحسب بكل تأكيد للاقتصاديين السعوديين الذين يديرون صندوقهم السيادي المعروف باسم صندوق الاستثمارات العامة.
في الأثناء وبعد مضي أكثر من 80 يوماً على تحول وباء كورونا الى جائحة فقد أتضح أن الصناديق مهما نوعت من استثماراتها فهي ليست بمعزل عن المخاطر والخسائر، وأنها ليست محصنة ضد الاختلالات الاقتصادية العالمية، كما أتضح أيضاً لمن يعتقدون أن الاستثمار في أوروبا وأمريكا الشمالية هو استثمار آمن ومضمون بأنه كلام عار عن الصحة، والدليل على ذلك (ومن باب الذكر لا الحصر) هو تهاوي سعر سهم شركة بوينغ العملاقة لأكثر من %80 من قيمته بنهاية الربع الأول من عام 2020، ناهيك عن تهاوي أسعار أسهم شركات النفط والطاقة بكل البورصات العالمية والذي تحول إلى تخوف لدى أغلب القائمين على كل الصناديق السيادية حول العالم، وبات من الضرورة استثمار بعض أصول الصناديق السيادية داخل حدود الدول المالكة لها، يأتي هذا بعد أن كانت المخاطر محصورة في الماضي في عدم تنوع الاستثمارات وتركزها في نشاط واحد، وهذا التغير في نمط الاستثمار وتوزيعه بين الداخل والخارج سيساهم بدوره في التنمية المحلية للدول المالكة للصناديق السيادية، ولكن بشرط أن تظل إدارات الصناديق السيادية تعمل بمهنية عالية، ودون أي تدخلات قد تضر بها أو تؤثر على أدائها.
وبالعودة مجدداً لتقرير صندوق النقد الدولي المشار إليه في الجزء الأول من المقال والموسوم بعنوان مستقبل النفط والاستدامة المالية لدول مجلس التعاون الخليجي نجد أنه قد استعرض أيضاً ثلاثة سيناريوهات (توصيات) تؤدي وبدرجات متفاوتة إلى الاستقرار المالي لدول الخليج العربي بناءاً على الفرضيتين اللتين بُني عليهما التقرير، وتقوم هذه السيناريوهات الثلاثة إجمالاً على تحويل الثروات الهيدروكربونية (البترول والغاز) إلى إيرادات مالية، وصرف جزء من إيراداتها على الاحتياجات الحالية لهذه الدول مع الاحتفاظ بجزء منها للأجيال القادمة، وفيما يخص السيناريو الأول فقد ( أوصي التقرير ضمنياً) بأن يكون حجم الصناديق السيادية لدول الخليج العربي كبيراً وإلى الحد الذي يجعلها تدُر عوائداً مالية معتبرة (Dividends)، وأن الغرض منها هي أن تحل هذه العوائد محل إيرادات النفط في المستقبل، وأما السيناريو الثاني فقد أسماه التقرير سيناريو إنتهاج السياسة المالية التدريجية (وهو بالمناسبة يتطابق الى حد كبير مع السياسة المالية التي تنفذها دول الخليج العربي حالياً) ولكنه سيؤدي إلى تآكل أصول وعوائد الصناديق السيادية لدول الخليج العربي وإلى حد أقصاه 50%، ورغم أن هذا السيناريو قد يُخفف العبء المالي عن الجيل الحالي لأنه سيؤدي إلى الاستقرار المالي إلا أنه سيكون على حساب الأجيال القادمة، وفيما يخص السيناريو الثالث فقد أسـماه معدو التقرير بسيناريو السياسـة المالية البطيئة التدرج (Extreme Gradualism) والذي قد يؤدي إلى تآكل الثروة السيادية لدول الخليج العربي ولكن إلى حد أقصاه 20% من أصول واستثمارات صناديقها السيادية، وبقدر ما في هذا السيناريو من إنصاف للأجيال القادمة إلا أنه غير منصف للأجيال الحالية، فمتى احتاجت الحكومات الحالية إلى مساهمة الصناديق السيادية في سد عجز ميزانية، أو مساهمتها في تعديل ميزان المدفوعات، أو مساهمتها في الاستقرار الاقتصادي للبلاد فإنها لن تُلبي طلبها بسهولة وفقاً لهذا السيناريو.
يتبع..
رابط الجزء الأول:
رابط الجزء الثاني: