عانت الكثير من الدول حول العالم من ويلات الحروب والتي أثرت سلباً على اقتصادها الوطني ، مثل ما حدث في ليبيا ، حيث ومع انتهاء الحرب وجدت العديد من الدول نفسها تقترب من حافة الإفلاس المالي والذي يهدد كيان الدولة الاقتصادي ، وهذه القصة رويت عن العديد من الدول الكبرى التي وصلت الآن إلى أكبر اقتصاديات العالم بعد أن مرت بحروب عظيمة .
فرنسا مثلا ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية فكرت بإعلان إفلاسها على العلن ولكنها الآن وصلت إلى درجات عظيمة من التقدم الاقتصادي ، حيث كانت سادس أكبر اقتصاديات العالم في عام 2016 .. والمقصود هنا أن الحروب فرضت على العديد من الدول ولكن العديد منها تعاملت مع أزماتها بشكل إيجابي وبأفكار حديثة أنقذت بها نفسها .
وهذا الإنقاذ ليس ببعيد أو صعب عن ليبيا والتي تختزن العديد من الخيرات في بواطن أرضها ، ولم تصل إلى حافة الإفلاس ، بل تحتاج إلى تدابير شبيهة بما فعلته معظم دول العالم بعد الحروب التي عصفت بها ، مع بعض التعديلات التي تتناسب مع طبيعة كل أرض أو دولة .
اليابان على سبيل المثال فقدت بعد فترة الحرب العالمية الثانية والتي بدأت مع عام 1939 وانتهت في عام 1945 ، الكثير من بريقها وقوتها الاقتصادية حيث سقط اقتصاد البلاد في فترة ركود طويلة ، ولكن وبعد انتهاء الحرب تبنت اليابان سياسة شاملة للتحديث في مسعى للحاق بركب الغرب الصناعي تحت شعار (تنمية القوة الاقتصادية والعسكرية للبلد) .
ألمانيا :
بعد الخسائر الفادحة التي تلقتها ألمانيا في الحرب العالمية الثانية ، انتقلت ألمانيا سريعاّ إلى مرحلة إعادة الإعمار والتي بدأت فعلياً في عام 1950 أي بعد انتهاء الحرب بخمس سنوات تقريباً ، أطلق على ما حدث في ألمانيا بالمعجزة الاقتصادية الألمانية ، وهي جملة قيلت لمحاولة وصف إعادة الإعمار والتطور الاقتصادي الرهيب الذي شهدته ألمانيا بعد الخروج من حرب دامية .
خسرت ألمانيا في الحرب بشرياً فقط حوالي خمسة ملايين شخص ، وشكل النساء 75% مما تتبقى ، ما يشير إلى فقدان كبير في القوى العاملة والتي تعد أساس نهوض أي دولة ، ناهيك عن الخسائر المادية والخسائر في الممتلكات البشرية ، ومن أولى المشاكل الاقتصادية التي واجهت ألمانيا هي الكتلة المالية الضخمة ، والتي عملت الدولة على حذفها .
عملت السيدات على تسليف المصارف كل ما لديهنّ من ذهب ومجوهرات حتى ينقذنَ دولتهنّ من شبح الإفلاس ، ثم عمل المسئولون على التأسيس لفكرة تعرف بالاقتصاد الاجتماعي والوعي المصرفي ، حيث قاموا بالترويج لفكرة وضع النقود في المصارف ، حتى أصبح 95 % من الشعب الألماني يمتلك حسابا مصرفيا في فترة وجيزة .
أسست ألمانيا لفكرة ( السوق الحرة ) وكذلك لفكرة إعلاء السياسات الرأسمالية والترويج لها ، رغم وجود سلبيات لها ومن بينها الاحتكار الكامل للإنتاج من قبل كبريات الشركات في الدولة وأهمهم شركات السيارات مثل ( فولكس فاجن ) و( مرسيدس ) و ( بي إم دبليو ) .. إلخ .. لكن من أهم مميزاتها أن هذه الشركات ساعدت كثيراً في الحركة التنموية للبلد .
وقامت الحكومة أيضا بتشجيع إنشاء المشروعات الصغيرة ، وقامت بتوفير قروض صغيرة ومتوسطة للشباب والراغبين في إنشاء مشاريع بشرط أن تكون مدروسة ودقيقة ، وشهدت المشروعات نجاحا باهرا في ظل 16 مليون عاطل من المطرودين من ألمانيا الشرقية بسبب انتمائهم السياسي ، وخططت الدولة للتنمية تخطيطاً إقليمياً بهدف رفع مستوى معيشة الفرد وتقليص الفوارق ، وانتهجت ألمانيا نهج أن تضع كل مدينة أو منطقة خطط التنمية لنفسها بإشراف كامل منها ومنهج إداري من الدولة .
ولا ننكر منح أمريكا لقروض لألمانيا حتى تساعد على نهضتها ، ولكن ألمانيا بغض النظر عن سياستها الإصلاحية قامت باستغلال هذه القروض في تطوير التعليم فقط والذي يعد من أهم مقومات بناء دولة ناجحة ، وهذا أدى إلى تمكن ألمانيا من الوصول وفي فترة بسيطة إلى عدد 30 ألف باحث و110 ألف شركة إبداعية وقدر عدد البراءات المسجلة في المكتب الوطني الألماني سنوياً ما يقارب 60 ألفا .
وتدريجياً وبعد أن توحدت ألمانيا بدأت في النمو الاقتصادي بشكل أكبر ، حيث اعتمدوا على التعاون الاقتصادي وأسسوا شركات كبرى مثل الإيرباص وغيرها، وما ساعد ألمانيا على النهوض أيضاً اعتمادها على الخدمات بشكل كبير بعمالة محلية حيث قدر عدد العاملين في هذا القطاع ب 29 مليون ( 12 مليون يعملون في مجال الضيافة بالمطاعم والفنادق والنقل و10 مليون في الخدمات التجارية و7 مليون في التمويل وخدمات الشركات .
اليابان :
لا يختلف المشهد الاقتصادي بعد الحرب في اليابان عن ألمانيا في شيء ، حيث عانت هي الأخرى من تبعات الحرب بشكل كبير جداً ولكنها عملت على تطوير نفسها شيئاً فشيئاً ، والعمل على إعادة الإعمار والتقوية الاقتصادية .
حيث وبالرغم مما تعرضت له اليابان من كوارث عظيمة أولها الكارثة النووية عام 1945، عندما ألقت أميركا قنبلة ذريّة على هيروشيما أكبر مدن التجارة اليابانية ودمرت 90% من المدينة، وتلتها إلقاء القنبلة الثانية بعد ثلاثة أيام على ناغازاكي (أكبر الموانئ البحرية وأكثرها نشاطاً صناعياً وإنتاجاً للذخائر والسفن والمعدات العسكرية والمواد الحربية) ، إلا أنها استطاعت النهوض من جديد.
فقد دمرت الحرب 40 % من البنية التحتية، وتم تدمير كثير من المصانع والمنشآت الحيوية، إلا أن اليابانيين اتبعوا سياسة ذكية جدا، فبعد أن أخضعوا للهيمنة العسكرية الأمريكية، قرروا تحويل الهزيمة العسكرية إلى نصر اقتصادي .
النهوض الياباني بعد كل هذه الظروف الاقتصادية السيئة ، وظروف الحرب ، فقد كان لعدة أسباب وسياسات انتهجتها الحكومة ، حيث شكلت اليابان في البداية مجموعات اقتصادية مترابطة عرفت بمجموعات الأعمال وترتكز على التعاون بين المصنعين والموردين والموزعين والبنوك في جماعات مترابطة يطلق عليها اسم “كيرستو” ، واتحادات الصناعات القوية “وشانتو” .
والمدهش في الاقتصاد الياباني هو استغلال الظروف لصالح الاقتصاد في كل مرة مهما كانت صعبة وشديدة ، حيث ومع اندلاع الحرب الكورية ورغم قربها الشديد من اليابان استغلت اليابان هذه الحرب في زيادة الإنتاج للسلع المختلفة ، ومع ظروف الحرب زاد الطلب على هذه السلع ، مما خلق حركة قوية جداّ في السوق اليابانية ، واستغلت هذه الأرباح بطريقة مثلى حيث وجهت لتطوير وتجديد المشروعات الصناعية وكذلك إعادة بناء البنية التحتية .
كما استغلت اليابان قرار العرب بإيقاف النفط عن الغرب وقرار أوبك برفع الأسعار بشكل إيجابي ، حيث أنه ورغم اعتماد معظم الصناعات والمشاريع اليابانية على النفط ، اتجهت اليابان إلى الصناعات الأقل طلباً للبترول لغرض التوفير ، حيث اتجهت لصناعة الالكترونيات وغيرها من الأجهزة المنزلية ، وهذا يثبت المرونة الكبيرة الذي كان عليها الاقتصاد الياباني ، ثم اتجهت الحكومة لتطوير قطاع الخدمات بهذا الدخل ، لذا استمر الاقتصاد الياباني بالتطور رغم الفترة الصعبة وظروف الحروب المحيطة .
ووجهت اليابان قوتها الصناعية لتقوية الصناعات حتى البعيدة نسبياً عن مجال إنتاجها، فرغم أنها من أفقر دول العالم بالموارد الطبيعية، إلا أنها في الوقت نفسه من أكبر دول العالم في تصدير الصلب ،حيث تقوم اليابان باستيراد الصلب من دول بعيدة جداً عنها ، بواسطة أسطولها في النقل ، تم يتم تحويلها عن طريق معامل ومصانعِ الصلب الضخمة مِن مواد خام إلى أنواعٍ مختلفة مِن سبائك الصلب، بأنواع وأشكال مختلفة، بعد ذلك يتمّ شحْنها وتصديرها لدول بعيدة وبأسعار منافسة ، الى أن أصبحت اليابان الدولة الثانية بعد الصين في تصدير الحديد والصلب .
فاليابان رغم فقرها من الموارد الطبيعية إلا أنها استطاعت أن تستغل الموجود في خدمة والنهوض بالدولة شيئاً فشيئاً ولم تتوقف عن العمل على تقوية اقتصاد الدولة ، فمعظم الدخل إلى حد الآن يوجه إلى التنمية ، أي أن عجلة التنمية لا تتوقف .
وهذا يعني أن معاناة الدولة من ظروف صعبة ، لا يعني أنها ستتجه إلى الانحدار الاقتصادي، بل أن استغلال الظروف ممكن في جميع الأوقات ولكنه يحتاج إلى سياسات سليمة ورشيدة، فالدول استطاعت بناء نفسها وهي لا تملك أي مقدرات اقتصادية أو موارد تذكر .. وذلك يعني أن ليبيا تستطيع الوقوف على قدميها لأنها تكتنز في باطنها ثروات عديدة، أي أن النهوض في ليبيا أسهل وأبسط من النهوض في هذه الدول، إلا أنه يحتاج سياسة سليمة .
ولا يوجد شيء مستحيل فالإرادة تجعل من المستحيل شيئا ممكناً ….