كتب “أحمد زاهر”: ليبيا ونقمة النفط، الاقتصاد حين يبتلع المجتمع
الثروات الكبيرة لا تُنتج دائمًا أممًا عظيمة، أحيانًا تُنتج فسادًا أعظم، لأن الوفرة إذا سبقت الوعي تحوّلت من نعمة إلى نقمة.
عندما انتقلت ليبيا من النظام الإقطاعي إلى الرأسمالية، لم تُعالج تداعيات هذا التحوّل بما يليق بعمقه وخطورته. فقد انفتحت البلاد على اقتصاد السوق دون بنية مؤسسية، أو طبقة وسطى ناضجة، أو ثقافة إنتاجية مستقرة.
كانت البنية الاجتماعية التقليدية ـ القائمة على علاقات القرابة والأرض والعمل اليدوي ـ لا تزال تهيمن على المجتمع، فيما بدأ المال يتدفّق من الخارج لا من داخل دورة الإنتاج، ما ولّد اختلالًا عميقًا بين البنية الاقتصادية الصاعدة والواقع الاجتماعي المتخلف عن ركبها.
وقد كان اكتشاف النفط في خمسينيات القرن الماضي لحظة فارقة، ليس فقط اقتصاديًا، بل مجتمعيًا وفلسفيًا، فقد أتاح للدولة موارد ضخمة دون الحاجة إلى إنتاج أو فرض ضرائب، فانهارت العلاقة التعاقدية بين الدولة والمجتمع، وولدت دولة ريعية خالصة، تقوم على التوزيع لا الإنتاج، وعلى الولاء لا الفعالية، لم يكن النفط مجرد ثروة؛ بل كان “كائنًا سياسيًا” جديدًا غيّر شكل الدولة ووظائفها وحدودها الاجتماعية.
قبل النفط، كانت الأرض هي مركز الثقل الاقتصادي والاجتماعي، ملاك الأراضي الخصبة، والفلاحون الكبار، ورجال الجباية، كانوا في موقع اليد العليا، لأنهم يملكون مصادر العيش ويغذّون خزينة الدولة، لكن النفط أطاح بهذا التوازن.
لم تعد الدولة تستمد مواردها من المجتمع، بل أصبحت توزّع عليه الريع، فتحوّل المواطن من منتِج إلى منتفِع، ومن شريك اقتصادي إلى تابع ريعي، تآكل نفوذ الفلاحين وملاك الأراضي، وتراجعت وظائفهم الاجتماعية، وظهر بديلهم في شكل طبقات طفيلية، ظهرت فجأة في المدن، تعيش على التوظيف العمومي أو العقود الحكومية أو الامتيازات الريعية، دون مساهمة فعلية في التنمية.
تحوّلت ليبيا بذلك إلى مجتمع ريعي قبل أن تكتمل بنيته الاقتصادية، لم نمر بتجربة صناعية، ولا عرفنا طبقة عاملة ناضجة، ولا رأسمالية إنتاجية، كانت الدولة الحديثة تحمل شكلًا رأسماليًا في أدواتها ومؤسساتها، لكنها كانت مفرغة من مضمون السوق وتوازناته، ما جعل الاقتصاد الليبي يميل دومًا إلى التشوّه والانكفاء، عاجزًا عن تكوين طبقات مستقرة أو علاقات إنتاج طبيعية.
في هذا السياق الهش، جاء العقيد معمر القذافي ليحاول بناء مشروع “اشتراكي”، وفق منطق ماركسي مقلوب. افترض أن التحوّل إلى الاشتراكية هو الخطوة التاريخية التالية بعد الرأسمالية، لكنّه لم ينتبه إلى أن ليبيا لم تعبر بعد التجربة الرأسمالية نفسها، كانت البلاد ما تزال خارجة لتوها من الإقطاع، وتعيش على ريع آتٍ من باطن الأرض لا من دورة العمل، ومع ذلك، قفز بها القذافي قفزة إيديولوجية كبرى.
هكذا جاء التحوّل الاشتراكي أشبه بهروب إلى الأمام. لم يلتفت القذافي إلى الجراح التي خلّفها التحول النفطي والاجتماعي، بل راكم فوقها أزمة جديدة، حين دفع نحو الاشتراكية دفعة واحدة، دون جاهزية مجتمعية أو زمن كافٍ للنضج السياسي والاقتصادي، فكانت النتيجة ولادةً مبكرة لكيان مشوّه: لا هو رأسمالي ولا هو اشتراكي، بل كائن هجين، مرتبك ومفكك، لا يملك قدرة الحياة الطبيعية ولا أدوات الموت السريع.
ورغم وضوح العطب، استمرّ القذافي في محاولة “إنعاش الجنين”، فبنى مؤسسات شكلية، وضخ موارد الدولة في شعارات نظرية، وأنتج خطابًا معزولًا عن شروط الواقع. كانت الاشتراكية التي بشّر بها مجرّد تعبئة إيديولوجية فوق اقتصاد ريعي محكوم بمنطق الزبونية والتوزيع، لا بمنطق التخطيط والإنتاج. وهكذا استمرّ الجسد المحتضر يتنفس اصطناعيًا لعقود، حتى انتهى إلى موته السريري، ثم إلى انهيار كامل في 2011.
لكن المأساة أن “نقمة النفط” لم تنتهِ بسقوط النظام. لقد استمرّت الدولة الليبية، بعد الثورة، في نفس النمط الريعي: توزيع الموارد، شراء الولاءات، توظيف عمومي غير منتج، اقتصاد هش مرتهن للتقلبات العالمية، ومجتمع يتآكل من الداخل بفعل فقدان المعنى والعمل معًا، تحوّل الريع النفطي من أداة للسلطة إلى أداة للفوضى، حيث باتت كل جماعة تسعى للاستحواذ عليه لا لبناء اقتصاد وطني جامع.
نحن اليوم لا نحتاج إلى محاولة إحياء جثة الريع القديمة، ولا إلى أوهام اشتراكية أو ليبرالية معلبة.
نحن بحاجة إلى ولادة جديدة، ولادة تتأسس على فهم عميق لمسارنا، وعلى نقد اجتماعي جذري للتحولات التي عصفت بنا، وعلى تخطيط اقتصادي لا يقوم فقط على تنويع الموارد، بل على إعادة تشكيل العلاقة بين المواطن والدولة، بين العمل والكرامة، بين الثروة والعدالة.
إن نقمة النفط لا تُعالج بإدارته فقط، بل بتجاوز منطقه ذاته: بناء دولة تملك مشروعًا إنتاجيًا، ومجتمعًا قادرًا على العمل لا على الانتظار، ومؤسسات تفرض العلاقة التعاقدية لا الرعوية.
دون ذلك، سنظل نعيش في دوامة “الريع والانتظار”، حيث يُستبدل الإنتاج بالولاء، والتنمية بالمساومة، والدولة بالظلّ.
لن تُشفى ليبيا من نقمة النفط إلا إذا تجاوزت وهم الثروة إلى حقيقة العمل، وتخلّت عن الدولة التي توزّع، لتبني الدولة التي تُنتج.