كتب: د. عبدالله ونيس الترهوني أخصائي اقتصاديات النقل
أما فيما يخص ليبيا من منظور الأمان الاجتماعي، فعلى الرغم من وجود منظومة للأمان الاجتماعي في البلاد، إلا أن دورها مُقيد وغير مرن لأنها عامة بطبيعتها Public، وبكل أسف فقد غاب دورها في السنوات الأخيرة عندما كان المجتمع في أمسّ الحاجة إليها، حيث لامس سعر الدولار الأمريكي حاجز العشرة دنانير للدولار الواحد، وبالتالي فإن الفئات صاحبة المعاشات الأقل في ليبيا وهي فئات الأرامل والمتقاعدين والعاجزين صارت تعادل أقل من 50 دولارا أمريكيا شهرياً أو 1.7 دولار/ لليوم تقريباً، أي أنها أقل من مستوى الفقر المدقع الذي حددته الأمم المتحدة عند 1.9 دولار/ لليوم أو 57 دولار شهرياً، كما غاب دورها أيضاً في معالجة موجات النزوح في طول البلاد وعرضها منذ العام 2011 وحتى اليوم.
وفي مقابل ذلك فإن الجهاز الإداري في ليبيا المترهل والمثقل بعدد كبير من الموظفين المعطلين جبراً والذي وصل إلى 1.8 مليون موظف، أضف إليهم جيوش العاملين بالخارج في السفارات والبعثات الدبلوماسية والاستثمارات الليبية قد حولهم إلى ما يشبه المضمونين اجتماعياً، وبالتالي تحولت خزينة الدولة الليبية إلى ما يشبه منظومة ضمان اجتماعي كبيرة (إن صح التعبير)، وهذه الحالة هي حالة دائمة وليست عارضة بكل أسف، فالحكومات الليبية المتعاقبة منذ الاستقلال وإلى يومنا الحاضر تركزت (تمحورت) سياساتها حول شراء أو كسب السلم الاجتماعي، وذلك من خلال إنفاق الإيرادات النفطية في صورة مرتبات وأجور وإعانات ودعم مباشر، عوضاً عن العمل على تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة، وبذلك صارت الدولة الليبية دولة ريعية أو (دولة مُرضعة للجميع) عوضًا عن أن تكون دولة رفاهية، وعليه فقد صار الحديث عن الترشيد في بند المرتبات وحده لا يكفي (حسب وجهة نظري) وأعتبرها خطوة منقوصة حتى وإن حصلت، بل وقد تأتي بنتائج عكسية ما لم تكن ضمن حزمة إصلاحات متكاملة.
وأود التذكير مجدداً أنه قبل الكلام عن الإصلاح الاقتصادي علينا أولاً تحديد هوية الاقتصاد الليبي وبكل وضوح، وبالتزامن مع ذلك لابد وأن يتم تحديد الحدين الأعلى والأدنى للأجورفي ليبيا، وتحديد عدد العضويات (للشخص الواحد) في مجالس الإدارات المختلفة بالداخل والخارج، وفقاً لقاعدة بيانات مركزية تُنشئها الحكومة لهذا الغرض، وأن القطاع الخاص المُقنن والمضبوط هو من يقود قاطرة التنمية في أغلب دول العالم، يتلو ذلك الانطلاق في عملية الإصلاح والتي يجب أن تشمل (ومن منظورالأمان الاجتماعي) استئناف صرف علاوة الأسر ومنذ تاريخ توقفها وإلى تاريخه، وهي بالمناسبة ليست مِنّة من أحد بقدر ما هي حق أقره القانون وتقاعصت الحكومات المتعاقبة في صرفها منذ العام 2013، يعقبها فرز القوى العاملة الحقيقيةً في ليبيا، والتي تحتاجها الإدارة العامة فعلاً، على أن تكون هذه القوى ذات إنتاجية عالية وفق معايير مهنية وسياسات توظيف منضبطة، وأن تضمن أن فائض الموظفين سيتم تسوية أوضاعهم ضمن منظومة الأمان الاجتماعي الوطنية، دون أن نغفل عن الأعداد التي تلج لسوق العمل سنوياً، والتي هي بحاجة إلى خلق وظائف وباستمرار، وبالتالي صار من الواجب أن تكون مؤسسات (شبكة) الأمان الاجتماعي الوطنية وقياداتها على إطلاع كامل على التقارير الرسمية لسوق العمل في ليبيا وبما تحتويه من إحصاءات ومؤشرات، كي تتمكن منظومة الأمان الاجتماعي الوطنية من القيام بدورها استناداً لهذه الإحصاءات والمؤشرات، كما أرى أنه من الحكمة أن يكون رفع الدعم كلياً أو جزئياً هو آخر خطوات (إجراءات) الإصلاح الاقتصادي في ليبيا.
ختاماً… مما تقدم أرى ضرورة اتخاذ حزمة من الإجراءات الصحيحة والعاجلة للرفع من مستوى خدمات منظومة الأمان الاجتماعي الوطني (رأسياً وأفقياً)، كما تقتضي الضرورة أيضاً أن يتم على الأقل رسم خارطة طريق يكون هدفها تحسين قدرة مؤسسات الحكومة المسؤولة عن الإنفاق الاجتماعي في المستقبل، وذلك بأن يُضمن دور مؤسسات الأمان الاجتماعي في استراتيجية متوسطة المدى، أو أن يكون دور هذه المؤسسات ضمن رؤية تنموية شاملة للبلاد (رؤية تنموية لعشر سنوات أو عشرين سنة) وهو الأفضل بكل تأكيد.
رابط الجزء الأول من المقال:
رابط الجزء الثاني من المقال: