كتب: الخبير القانوني “طه بعرة”
ألم يحن الوقت بعد لرسم استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد في ليبيا؟ ألم نعلم بعد بأن غول الفساد قد أضحى أكبر من أن يواجه بجهاز أو اثنين أو عشرة؟ ألم نسأم من أساليب السخط والسب في المقاهي وعبر مواقع التواصل الاجتماعي دون أي جدوى؟ أم أننا ننتظر أن تفرغ الخزائن حتى نبدأ في مكافحة الفساد؟ أو ننتظر ولادة دولة قانون من رحم الفساد؟ أم ننتظر فساد ما تبقى من صلاح؟
إذا ما اتفقنا على أن هذا الداء قد تسرطن وانتشر في كل أعضاء الجسم الإداري للدولة، فإننا سنعرف بأنه لا مجال لمكافحته إلا عن طريق جرعات مكثفة من الدواء تنتشر بحجم انتشار العلة وأكثر، في وقت واحد وبتركيز واحد.
وإذا ما اتفقنا على نشر ذلك العلاج فمن الضروري أن نعرف وصفة باسم الدواء ومقداراً لجرعاته وأوقاتاً لاستخدامه وزمناً لتقييمه وربما تحديثه.
تلك “الروشيتة” هي فحوى ما يسمى بالاستراتيجيات الوطنية لمكافحة الفساد، التي لم نفلح في رسمها أو حتى في استيرادها مثل استيرادنا لكل منتجات الفساد من كل أرجاء العالم، الاستراتيجية هي خطة تكفل (جبراً) تكامل كافة أجهزة ومؤسسات الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني والإعلام والمؤسسات الدينية والمواطن لتحقيق أهدافها الوطنية وعلى رأسها القضاء على غول الفساد أو كحد أدنى تقزيمه.
فإذا ما قررنا رسم تلك الخطة فإنه ينبغي علينا رصد أهم مظاهر الفساد وصوره في كل شبر من أقاليم الدولة في الداخل وما في حكمها في الخارج، وتحديد كافة الطرق الفنية لكشفه وسد أبوابه والعقاب عليه بإشراك كافة الجهات المعنية، وفي إطار مبادئ سيادة القانون والفصل بين السلطات، و الحوكمة، والمساءلة، والفاعلية في الرصد والتقييم، والشفافية والشراكة بين القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني، لخدمة الهدف المباشر في القضاء علي الفساد أو الحد من سطوته، وخدمة الأهداف غير المباشرة وأهمها تطوير الجهاز الإداري من خلال تقليص الفائض وتدريب الكادر وتحسين المقابل وتحفيزه، والرفع من جودة الخدمات العامة من خلال إنشاء قاعدة بيانات قومية مرتبطة بكافة وحدات الجهاز الإداري وتطوير نظام المدفوعات الوطني وميكنة الإجراءات، وتقوية آليات الشفافية والنزاهة من خلال إتاحة تقارير الجهات الرقابية للجمهور وإتاحة الميزانيات العامة وخطط الدولة التنموية، وتطوير البنية التشريعية لمواجهة الفساد من خلال جمع القوانين وتحسينها ورفع التعارض بينها وتطوير ما يكفل حماية الشهود وسهولة التبليغ وإمكانية النفاذ للمعلومة، ودعم جهات إنفاذ القانون من خلال تطوير البنية التحتية للجهاز القضائي ونظم الاتصالات والمعلومات ودعم الكادر الشرطي والقضائي بما يكفل سرعة التقاضي، ورفع الوعي المجتمعي بأهمية مكافحة الفساد من خلال المؤسسات التعليمية والدينية والتربوية والإعلامية ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص لنبذ الفساد والحث على الإبلاغ عليه، وتفعيل التعاون الدولي في مجال منع الجريمة ومكافحة الفساد من خلال تفعيل الاتفاقيات القائمة وتبادل المعلومات والتدريب.
لا شك بأن تلك الخطوات وما يصحبها من تدابير سوف تكون قاسية أو مؤلمة كثيراً بحجم تسرطن الفساد، فحتماً سوف تسفر عنها أعراضا جانبية كفقدان عدد كبير من الوظائف الوهمية، وخسارة عدد هائل من مكافآت العضويات غير المرئية، وتقلص حجم العمولات النقدية، وتقليل الرغبة في العمل والتوظيف بالأجهزة الحكومية، وامتلاء المحاكم بالقضايا الجنائية، والسجون بالمجرمين أو بالأغلبية، إلا أنها الشفاء من كل السقوط الذي نعيشه سوف يكون نتيجة حتمية.