Skip to main content
عبد الله الترهوني يكتب عن "البعد الاقتصادي للتنمية"
|

عبد الله الترهوني يكتب عن “البعد الاقتصادي للتنمية”

كتب: د.عبد الله ونيس الترهوني

التنمية في اللغة تعني الزيادة، والنماء، والكثرة، والوفرة، والمضاعفة، أما اصطلاحاً فلها عدة تعريفات أرى أن التعريف الآتي هو الأشمل والأنسب لها:

وهو أن التنمية عبارة عن التغيير الإرادي الذي يحدث في المجتمع سواءً اجتماعياً، أو اقتصادياً، أو سياسياً، بحيث ينتقل من خلاله المجتمع من الوضع الحالي الذي هو عليه إلى الوضع الذي ينبغي أن يكون عليه، وذلك بهدف تطوير وتحسين أحوال الناس من خلال استغلال جميع الموارد والطاقات المتاحة الاستغلال الأمثل، وفي الغالب فإن هذا التغيير يتم بمشاركة وإرادة أفراد المجتمع أنفسهم ..

أما التنمية المستدامة (وهي مصطلح مختلف تماماً عن مصطلح التنمية) فقد عرفتها الأمم المتحدة بأنها عملية تطوير الأرض والمدن والأعمال التجارية والمجتمعات بشرط أن تلبي احتياجات الحاضر بدون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية حاجاتها، ويواجه العالم اليوم خطورة التدهور البيئي والذي يجب التغلب عليه مع عدم التخلي عن حاجات التنمية الاقتصادية وكذلك المساواة والعدل الاجتماعي، أي أن التنمية المستدامة تتعلق بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للمجتمعات في يومها الحاضر ومدى علاقتها بالمستقبل.

ومن جانب آخر فقد استعرض قبل أيام الخبير الليبي الدكتور محمد أبوسنينة أهداف التنمية المستدامة بالقول إن الأمم المتحدة قد أعلنت في يناير 2016 عن البدء في تنفيد أهداف التنمية المستدامة خلال الألفية الثالتة ، والتي كان قد اعتمدها قادة العالم في سبتمبر 2015 في قمة أممية عُقدت لهذا الغرض، وفي المجمل فأهداف التنمية المستدامة تتكون من سبعة عشر هدفاً ستعمل مختلف الدول حتى عام 2030 على تحقيقها وبشكل طوعي، وذلك للقضاء على الفقر بأشكاله المختلفة ، والرفع من مستوى رفاهية المجتمعات والمحافظة على البيئة، و بالتالي سيكون لزاماً على حكومات البلدان المختلفة وضع أطر وبرامج لتحقيقها في حال ما تبنتها، أضف إلى ذلك أن الأمم المتحدة قد وضعت 169 غاية متلازمة للأهداف السبعة عشر والتي سيتم متابعتها ورصدها من خلال مجموعة من المؤشرات العالمية.

مما سبق يتضح أن للتنمية المستدامة جانب اقتصادي إلى جانب كل من الاجتماعي (الإنساني) والبيئي، وفي مقامي هذا سأستناول بشئ من التفصيل البعد الاقتصادي للتنمية ..

بدون أدنى شك فإن الحديث عن الاقتصاد يعني بالضرورة التحدث بلغة الأرقام، وبالتالي فلا غرو أن يكون النمو الاقتصادي والمتمثل في نسبة نمو الناتج المحلى الإجمالي GDP هو أساس التنمية الاقتصادية ، كما أن النمو التشغيلي بهدف خفض نسبة البطالة يعتبر تالياً وملازماً لنمو الناتج المحلي ، فلا فائدة من الكلام عن زيادة في الناتج المحلى الإجمالي دون أن يصاحبه خفض في أعداد البطالة ، وتحقيق عدالة في توزيع الدخل القومي على كل أفراد المجتمع شيبه وشبابه، رجاله ونسائه، ولن يتحقق هذان الهدفان إلا باتباع سياسات اقتصادية ناجحة وفقاً لرؤية واضحة المعالم واستراتيجية دقيقة، وفي كل الأحوال يجب أن يكون النمو الاقتصادي مساوٍ أو أكبر من النسبة المئوية لمعدل الزيادة السنوية لعدد السكان في ظل وجود سياسة مالية مناسبة ومرتكزة على أدوات صحيحة، وبالمثل مع النمو التشغيلي والذي يجب أن يتساوى مع أو يفوق نسبة المنخرطين في سوق العمل سنوياً.

إن الاستقرار النقدي هو بُعد آخر للتنمية الاقتصادية، فالحفاظ على المستوى العام للأسعار عند مستويات منخفضة أو كما نسميه مستوى التضخم هو بلا شك هدف رئيسي من أهداف التنمية ، وبالتالي فإن الدول تسعى جاهدة للحفاظ على مستوى التضخم عند حد معين، ويتم هذا بالتوازي مع الحفاظ على سعر عملتها الوطنية ثابتاً أمام  سلة العملات الأجنبية وإلا لفقد المواطنين قيمة مدخراتهم وتلاشت الطبقة الوسطى وزاد عدد الفقراء، ولنا في الأزمة التي عصفت بليبيا في آخر السنوات خير مثال، حيث لامس سعر صرف الدولار الأمريكي سعر 10 دنانير، وأصبح ما يتقاضاه بعض المتقاعدين والذي لا يتجاوز مبلغ 450 دينار ليبي (وهو الحد الأدنى للأجور المعلن في ليبيا) ما يعادل فقط 45 دولارا أمريكيا شهرياً، وهذا الرقم لا بيتعد عن الرقم الذي حددته الأمم المتحدة لمستوى الفقر المدقع (40 دولار شهرياً) ، والذي سبق وأن نشرت مقالاً بالخصوص قبل بضعة أشهر من الآن.

إن النمو الاقتصادي والاستقرار النقدي سيقودان حتماً إلى الاستقرار المالي للدولة، أي الشق المتعلق بالموازنة العامة للدولة ، حيث أن الهدف الأسمى للتنمية الاقتصادية في هذا الجانب هو الحفاظ على وجود فائض في الميزانية أو على الاقل تخفيض نسبة العجز سنوياً إلى أن يصبح صفراً ثم يتحول تدريجياً مع مرور الوقت إلى فائض، وهذا لا يتم إلا بتوفر شرط هام جداً وهو عدم وجود دين عام، وبالإسقاط على الحالة الليبية مرة أخرى نجد أن الانقسام السياسي والهيكل الاقتصادي الحالي للاقتصاد الليبي المبني على الريع، قد ساهما في زيادة نسبة التضخم الى أرقام غير مسبوقة، وقد كسر هذا الحاجز رقم المائة مليار دينار ليبي كدين عام ..

وفي مقابل ذلك وعلى الرغم من بيع الدولار الامريكي بسعر جديد في ليبيا منذ سبتمبر 2018 من خلال فرض رسوم على كل دولار يتم بيعه، إلا أن وجود سعرين للدولار قد فاقم من الأزمة، بل الأدهى والأمر أن بعض الحذاق قد رأوا في عوائد بيع الدولار فرصة ذهبية لنهب هذا المبلغ تحت بند إعادة الإعمار ، وقد تناسى هؤلاء أن البلد لا تزال في مرحلة مخاض، وأن السلاح منتشر في كل شبر من ليبيا، وبالتالي فالحديث عن الإعمار الآن هو نوع من الهراء، وعليه أرى من الضرورة أن يتم فتح حساب خاص بهذه العوائد تُودع فيه الأموال، ومن ثم يتم استخدامها في إطفاء جزء من الدين العام ، وصرف جزء من علاوة الأبناء والمتوقفة منذ سنوات، فالليبيون ليسوا في حاجة ليتكبدوا عناء السفر كل عام ليسحبوا أرصدتهم من بطاقات الفيزا في الخارج ثم يرجعوا لأرض الوطن ليبيعوا الدولار بسعر السوق السوداء، ومن غير المقبول ولا المعقول أن يعيش شعب على فرق سعر بيع العملة رغم قلة عدده وكثرة ثرواته، أما الحديث عن البناء والإعمار أو حتى مجرد الدعوة لهما الآن هي دعوات لا طائل منها ، وأن الموضوع برمته سابق لأوانه كما كنت قد نوهت إليه مراراً وتكراراً.

إن الهيكل القطاعي للاقتصاد وجغرافيته هو بعد آخر للتنمية الاقتصادية ، وبعبارات أوضح فإن لكل اقتصاد خارطة اقتصادية ، هذه الخارطة مبنية على تحديد ووصف دقيق لمناطق الخامات والموارد المتاحة للبلد، وبالتالي فإنه وفقاً لهذه الخارطة سيتم توطين المشروعات أيا كان نوعها (زراعية .. صناعية .. خدمية .. إلخ) مع الأخذ في الاعتبار ضرورة تشجيع الهجرة من المدينة إلى الأرياف أو إلى المناطق والمدن الأقل كثافة سكانية بهدف خلق توازن جغرافي، حتى وإن اضطرت الدولة إلى إقامة وإنشاء مدن جديدة متكاملة ولكن ضمن الخارطة الاقتصادية المشار إليها، وبتطبيق ذلك على الحالة الليبية فإننا بكل أسف سنجد ما هو على الواقع عكس ذلك تماماً ، فالمناطق التي يستخرج منها النفط هي من أقل الأماكن في ليبيا من حيث الإعمار أو حتى من حيث سلامة البيئة، ناهيك عن أن أكثر من 30% من سكان ليبيا يتركزون في طرابلس الكبرى ، وأن حوالي 65% من سكان ليبيا يتمركزون في الشريط الساحلى الواقع شمال جبل نفوسة والممتد بين تاورغاء والحدود التونسية بالرغم من أن هذه المنطقة لا تكاد تمتلك أي موارد طبيعية باستثناء الزراعة المنتشرة في سهل جفارة جنوب العاصمة طرابلس، وهذه دعوة مني مجدداً لكل المتخصصين بضرورة العمل في المرحلة القادمة على تحديد هوية الاقتصاد الليبي أولاً ، ثم رسم الخارطة الاقتصادية للموارد المتاحة  ثانياً ، ثم الانطلاق في رسم الخطط الكفيلة بتحقيق رخاء اقتصادي واجتماعي للبلد.

بكل تأكيد فإن كل دولة تقع ضمن محيط إقليمي وقاري وتربطها علاقات جوار، وبالتالي فإن للتنمية الاقتصادية بُعد يمتد خارج حدود البلد، يُكمل بدوره الدور السياسي ويعزز الأمن القومي، فتعزيز الصادرات وغزو الأسواق العالمية بمنتجات محلية سيكون له أثر إيجابي على كل نواحي الحياة في البلاد، وفي بلادنا العزيزة ليبيا حيث لا حديث إلا عن النفط فإن هناك موارد طبيعية أفضل وأهم منه نذكر منها زيت الزيتون والتمور والخضر والفواكه، فهذه المنتجات قابلة للزيادة من سنة إلى أخرى ومن موسم لآخر ، بعكس النفط الذي يتناقص كل يوم ، كما أن سعره يحدده كبار المستهلكين وأباطرة المال العالميين، ناهيك عن أن الساحل الليبي المنسي والذي لو تم استغلاله لخلق عشرات آلاف فرص العمل، ولأدخل المليارات للخزينة العامة كل سنة ، فالمزارع السمكية والصيد البحري والسياحة الشاطئية والمناطق اللوجستية والمناطق الصناعية والموانئ الجافة وخدمات العبور إلى إفريقيا عبر المواني والطرق الليبية هي أنشطة مفقودة في ليبيا اليوم ، وبالإمكان الشروع فيها فور استقرار الأوضاع الأمنية وتجميع السلاح.

ختاماً هذه أهم الأبعاد الاقتصادية للتنمية في أي بلد يريد أن ينهض بسواعد أبنائه، وهي ليست في حاجة لخبراء من وراء الحدود ، وليست في حاجة لتدخل صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي ، وكل ما ذكرته في عرضي هذا يعتبر من البديهيات بل من الأبجديات عند خبراء الاقتصاد في أي دولة من العالم ، ولكن الفارق الوحيد هو وجود أو انعدام إرادة حقيقية ونوايا خالصة للنهوض بالبلاد، وهنا يكمن الفارق بين الأمم ويكون التمايز بينها.

مشاركة الخبر