
| مقالات اقتصادية
“غسان عتيقة” يكتب: الدينار الليبي بين السياسات النقدية والتحديات الاقتصادية.. قراءة تحليلية سريعة 2015 – 2025
كتب الخبير المصرفي “غسان عتيقة” مقالاً بعنوان : الدينار الليبي بين السياسات النقدية والتحديات الاقتصادية: قراءة تحليلية سريعة 2015-2025
شهد الاقتصاد الليبي خلال العقد الماضي تقلبات حادة نتيجة تداخل العوامل السياسية والاقتصادية، وتعدد مراكز القرار النقدي والمالي، وسط غياب استراتيجية تنموية متكاملة، وقد تركز الضغط الأكبر على الدينار الليبي، الذي فقد جزءًا كبيرًا من قيمته نتيجة سياسات نقدية غير متوازنة، وغياب الإصلاحات البنيوية، وتراكم الأزمات الداخلية والخارجية.
-الجذور التاريخية للاختلالات الاقتصادية:
تعود أبرز ملامح الأزمة النقدية الحالية إلى ترسّبات سياسات اقتصادية امتدت لعقود، اتسمت بتعظيم الاحتياطيات من النقد الأجنبي على حساب الإنفاق التنموي. فقد ركزت الدولة لسنوات طويلة على تجميع الفوائض المالية الناتجة عن صادرات النفط دون استثمارها في بناء قاعدة إنتاجية محلية، مما رسّخ نموذج الاقتصاد الريعي القائم على التصدير والاستيراد الكامل للسلع والخدمات، هذا النهج أضعف قدرة الدولة على امتصاص الصدمات، وحوّل الاحتياطي الأجنبي من أداة دعم نقدي إلى غاية في ذاته، ولو على حساب قيمة العملة الوطنية.
-مرحلة خلق النقود وتفاقم الأزمة (2015–2020):
بدأت معالم التوسع النقدي تتضح منذ منتصف العقد الماضي، من خلال اعتماد سياسة خلق النقود عبر التوسّع في طباعة العملة أو عبر قيود مصرفية دون مقابل إنتاجي، وقد استمر هذا النهج لعدة سنوات، بالتوازي مع الانقسام المؤسساتي، ما أدى إلى تضخم الكتلة النقدية وفقدان السيطرة على أدوات السياسة النقدية.
ورغم أن الدولة سجلت خلال الفترة عجزًا واضحًا في الميزانية العامة، إلا أنها تمتعت في الوقت نفسه بفائض في ميزان المدفوعات، وهو ما يفسّر المفارقة بين العجز في الدينار والفائض في الدولار، لكن بدلاً من معالجة الاختلالات الهيكلية، تم التركيز على تنمية الاحتياطيات من النقد الأجنبي، مما ساهم في تآكل قيمة الدينار بنسبة تقارب 79% خلال تلك الفترة.
-الأزمات المتكررة وتوقف تصدير النفط:
شكلت أزمة إيقاف تصدير النفط في منتصف العقد الماضي، ثم لاحقًا في عام 2020، نقطة تحول في المسار النقدي، حيث أدت إلى تراجع حاد في تدفقات النقد الأجنبي، واضطر المصرف المركزي إلى تعويض ذلك بالتوسّع في خلق النقود، ما ساهم في مفاقمة أزمة السيولة ورفع معدلات التضخم.
ورغم محاولات معالجة التشوهات عبر فرض رسوم على بيع النقد الأجنبي بنسبة 185% عام 2018، إلا أن تطبيق تلك الإجراءات كان انتقائيًا، حيث استثنيت منها بعض الجهات، ما خلق بيئة غير متوازنة ساهمت في تصعيد سياسي واقتصادي، بلغ ذروته في توقف تصدير النفط من جديد عام 2020.
-توحيد السياسات النقدية وتغيير سعر الصرف (2021):
مثّل قرار توحيد المصرف المركزي وسعر الصرف مطلع عام 2021 خطوة إيجابية باتجاه الاستقرار النقدي، حيث ساهم تعديل سعر صرف الدينار في توفير سيولة أكبر للدولة، وزاد من مواردها المالية بالدينار بنسبة تقارب 300% مقارنة بالسابق.
تزامن ذلك مع تراجع النزاع على الاعتمادات، ووفّر هامشًا ماليًا للحكومة لتمويل نفقاتها دون الحاجة إلى طباعة جديدة للنقود. غير أن هذه المعالجة بقيت سطحية، ولم تُرافقها إصلاحات هيكلية في الاقتصاد الحقيقي.
-عودة الضغوط النقدية (2022–2024):
من نهاية عام 2022 حتى مارس 2024، شهد عرض النقود نموًا ملحوظًا من 110 مليار دينار إلى 150 مليار دينار، بزيادة بلغت 40 مليار. وفي نفس الفترة، ارتفعت القاعدة النقدية من 64.4 مليار إلى 98.8 مليار دينار، أي بزيادة قدرها 34.4 مليار. الفرق بين الزيادتين، البالغ 5.6 مليار دينار، ناتج عن التوسع في الإقراض التجاري، بينما تم خلق الجزء الأكبر (34.4 مليار) من النقود دون غطاء إنتاجي، فيما يمكن اعتباره “أموالاً من العدم”.
تشير هذه البيانات إلى أن أكثر من 31% من الكتلة النقدية الجديدة تم خلقها دون أساس اقتصادي، ما دفع السلطات إلى فرض رسوم بنسبة 27% في محاولة لامتصاص هذه السيولة والحد من التضخم.
-النتائج الاقتصادية العامة:
رغم نمو الاحتياطيات الأجنبية بحوالي 20 مليار دولار بين عامي 2016 و2020، فقد الدينار 79% من قيمته. وفي الفترة بين عام 2023 والربع الأول من 2024، نمت الاحتياطيات مجددًا بنحو 8 مليارات دولار، لكن الدينار خسر 27% من قيمته خلال نفس الفترة.
-خاتمة:
تُظهر التجربة الليبية خلال السنوات الماضية أن التركيز المفرط على تعظيم الاحتياطيات دون إصلاح اقتصادي حقيقي، يؤدي إلى نتائج قصيرة المدى على حساب الاستقرار النقدي. ولا يمكن حماية الدينار الليبي واستعادة الثقة فيه، ما لم تُعالج الأسباب الهيكلية للأزمة، وفي مقدمتها الاعتماد المفرط على النفط، وعجز السياسات الاقتصادية عن خلق تنمية إنتاجية مستدامة.