كتب: د. عبدالله ونيس الترهوني – أخصائي اقتصاديات النقل
تناولتُ خلال العامين الماضيين نماذج لبعض الدول التي نهضت من تحت الركام، واستشهدت بسغافورة وألمانيا كمثالين للنهضة في القرن العشرين، بالرغم من أن الأولى لا تعدو كونها مدينة في شكل دولة، وقد أوضحتُ في حينه أنها قد اعتمدت على قطاع الخدمات في نهضتها لتصبح الرقم الأصعب في قارة أسيا من حيث معدل الدخل ومستوى رفاهية الفرد، متفوقةً على جميع دول أسيا بما فيها الدول النفطية، والثانية هي البلد الصناعي الأول في أوروبا، وصاحب العلامة الأكثر ثقة وجودة في التصنيع حول العالم (صنع في ألمانيا) متفوقةً على الولايات المتحدة واليابان والصين من حيث جودة منتجاتها، وهي التي اعتمدت في نهضتها على التعليم التقني وعلى الصناعات الكبرى.
كما تناولتُ أيضاً في مقال سابق مطلع العام الجاري تجربة رواندا كمثال للنهضة في القرن الحادي والعشرين، وفي الحقيقة فتجربة رواندا أو كما يحلو للبعض تسميتها بالنموذج السنغافوري في إفريقيا هي تجربة تستحق الإشادة بكل المقاييس، حيث أنها بلد أفريقي مغلق لا يملك منفذاً على البحر، وقد عانت من حرب أهلية مدمرة غذاها المستعمر، ولكنها نهضت وبوتيرة أسرع من كل الدول التي نهضت قبلها في القرنين العشرين والحادي والعشرين، وفي المقال التالي سأحاول تسليط الضوء على دول شرق أفريقيا والقرن الافريقي، والتي حققت نسب نمو اقتصادي ممتازة في السنوات الاخيرة.
تُقاس قوة (حجم) الاقتصاد الكلي للبلد بالناتج المحلي الإجمالي (GDP)، فيما يُعد معدل النمو السنوي هو أهم مؤشر لقياس الحالة الصحية للاقتصاد الكلي للدولة أو(إلى أين يسير الاقتصاد العينى)، في حين أن كلاهما ليس مقياساً لمستوى المعيشة على الإطلاق، أو بعبارة أوضح فلا الناتج المحلي الإجمالي ولا معدل النمو السنوي يعبران عن مستوى رفاهية الفرد أو المجتمع ، ولا عن عدالة توزيع الدخل القومي.
إن غير المتابع لموضوع الاستثمار في البنية التحتية في قارة أفريقيا قد يجد صعوبة في فهم أو حتى تصديق الأرقام الرسمية المنشورة عن اقتصادات القارة وبالأخص دول شرق القارة منها، فدول هذه المنطقة حققت معدلات نمو اقتصادي ملحوظة كنتيجةً مباشرة لجذبها لاستثمارات ضخمة من الخارج، وبالأخص من المارد الصيني والذي حولها إلى ورشة عمل ضخمة في قارة كبيرة المساحة وقليلة السكان، فسكان القارة السمراء يتجاوزون المليار نسمة بقليل، وحجم التجارة الافريقية الخارجية كان في حدود 3.5 تريليون دولار بنهاية العام 2017، والقارة تساهم بكل أسف بأقل من 3% من الناتج الإجمالي العالمي، وبالتالي فهذه الارقام مُجتمعة هي أقـل بكثير من حجم اقتصادات بعض الدول منفردة كالولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا على سبيل المثال، وبالمناسبة فإن اقتصاد الولايات المتحدة والصين لوحدهما يُمثل أزيد بقليل من 35% من إجمالي الاقتصاد العالمي، ومن جانب آخر فإن حجم التجارة البينية الأفريقية ضعيف هو الآخر وفي حدود 15% من إجمالي تجارة القارة مقارنةً بالتجارة البينية لدول أوروبا والتي تقترب من 59% ، ومع التجارة البينية لدول آسيا والتي تقترب من 69% ، كما أن أكبر اقتصادات في القارة الافريقية من حيث الناتج المحلي الإجمالي بنهاية العام 2017 أيضاً كانت لدول تقع إما في الشمال أوالجنوب، وأن ما يميز هذه الدول هو تذبذب نسب نموها وعدم ثباته، وهي على الترتيب: نيجيريا والتي احتلت الصدارة ب 400 مليار دولار، تليها جنوب أفريقيا ب 366 مليار دولار، ثم مصر ب 250 مليار دولار، تليها الجزائر ب 180 مليار دولار، ثم المغرب ب 118 مليار دولار، وأنجولا ب105 مليار دولار ..
أما من حيث معدل النمو الاقتصادي السنوي لبلدان القارة السمراء فالقصة مختلفة تماماً، فمع نهاية العام 2018 حققت أثيوبيا الواقعة في شرق القارة نمواً مؤكداً وبنسبة 8.5% وأصبحت تتصدر القارة السمراء من حيث معدل النمو السنوي، والذي تميز بأنه عالي وثابت وعلى مدار عدد من السنوات، في حين كان نموها الصناعي وحده بين 11% و13.9% في آخر عشر سنوات، تلتها ساحل العاج الواقعة في غرب القارة والتي خرجت من حرب مدمرة قبل سنوات قليلة خلت، وسجلت نمواً بنسبة 7.4% معتمدة على نشاطها الزراعي بحكم موقعها الجغرافي القريب من خط الاستواء، تلتها رواندا الواقعة في شرق أفريقيا، والتي سجلت نمواً قريباً جداً من نسبة نمو ساحل العاج وبنسبة 7.2% ، وذلك بالاعتماد على قطاعي الزراعة والخدمات، ثم السنغال الواقعة في غرب القارة وبنسبة نمو بلغت 7% ، وهي المعتمدة على طيف متنوع من الأنشطة الاقتصادية ، تلتها جيبوتي الدولة الصغيرة في القرن الافريقي، والتي تعتمد على موانئها في كل شئ تقريباً، وقد سجلت نسبة نمو بلغت 6.7 %، تلتها تنزانيا والتي لا تبعد كثيراً عن جيبوتي، والتي حققت نسبة نمو 6.4% ، معتمدةً على أنشطة السياحة ومدعومة بالاستثمارات الصينية في قطاعات الثروة المعدنية وقطاعي النقل والزراعة، ويتضح جلياً أن الدول الأفريقية سالفة الذكر قد حققت أرقاماً مهمة من النمو الاقتصادي وهي تشق طريقها نحو التنمية الشاملة، وذلك بالاعتماد على الاقتصاد الأصيل (الزراعة والصناعة) وإقتصاد الخدمات، ودون الاعتماد على الريع.
لقد أطلقت الصين قبل ست سنوات من الآن مشروع طريق الحرير بشقيه البري والبحري، والذي سيربط 68 دولة تمثل أكثر من 60% من سكان العالم، وبكلفة مبدئية تصل إلى تريليون دولار أمريكي، وبدون أدنى شك فقد كانت دول شرق أفريقيا من أهم طرقه ومحطاته البرية والبحرية على حد سواء، والجدير بالذكر أن المارد الصيني كان قد وضع أقدامه في القارة السمراء منذ مطلع القرن الحالي، وبمرور الوقت نما وتمدد في الاتجاهات الأربعة، ولا نُبالغ إن قلنا أن الشركات الصينية في منطقة شرق أفريقيا وحدها تُعد بالآلاف، كما أن عددها في إثيوبيا وحدها قد تجاوز 600 شركة بنهاية العام 2016، على الرغم من أن الاهتمام الصيني كان مُنصباً فقط ومنذ مطلع القرن الحالي على الاستثمار في النفط في جنوب غرب القارة وبالتحديد في أنجولا، وعلى الاستثمار في مناجم النحاس في جارتها زامبيا، ثم تحولت أنظاره تدريجياً إلى دول شرق القارة لسببين: الأول وهو موقعها على المحيط الهندي والمُطل مباشرةً على القارة الصفراء، أما الثاني فهو الاستقرار السياسي والأمني الذي تتمتع به هذه الدول، إلى جانب سهولة ممارسة الأعمال بهذه الدول وبالأخص في إثيوبيا وكينيا ورواندا، والذي يُعد المفتاح لضخ استثمارات ضخمة.
وفي هذا الإطار فقد احتلت رواندا المركز الـتاسع والعشرين عالمياً من بين 190 دولة في آخر تقرير لسهولة ممارسة الأعمال التجارية، والذي يصدر سنوياً عن البنك الدولي، وبذلك تكون رواندا قد تقدمت على اليابان وعلى بعض الدول الأوروبية مثل إسبانيا وفرنسا وهولندا في سهولة ممارسة الأعمال التجارية، هذا برغم بعض القيود المفروضة على صرف العملات الأجنبية في أغلب دول شرق أفريقيا، أما فيما يخص تأسيس الشركات فيمكن لأي شخصين اثنين فقط وخلال دقائق تأسيس شركة خاصة ذات مسؤولية محدودة في إثيوبيا، بينما يتطلب تأسيس شركة مساهمة وجود خمسة مؤسسين كحد أدنى، إلى جانب منح إعفاء من الضرائب لمدة خمس سنوات من تاريخ استئناف النشاط أو المشروع، وفي المقابل فإن إثيوبيا وهي بالمناسبة دولة مغلقة ولا تمتلك منفذ بحري وتعتمد في تجارتها الخارجية على موانئ جيبوتي تشترط أن يتم توزيع جميع الواردات من خلال مواطنين إثيوبيين مسجلين لدى الحكومة كوكلاء استيراد أو وكلاء توزيع رسميين، وبالتالي فإنه من السهولة بمكان حصول القاصدين للبلدان سالفة الذكر سواء للزيارة أو الاستثمارعلى تأشيرات الدخول إلى جانب سهولة تحركهم داخل هذه البلدان، وكل هذا قاد بدوره لنمو في حركة المسافرين، وهذا ما يفسر تحول الخطوط الجوية الاثيوبية إلى الرقم الأصعب في القارة السمراء وبعدد 108 طائرة (حتى نهاية شهر أبريل 2019) وهذا الرقم في تزايد بكل تأكيد، بل وصار مطار عاصمتها أديس أبابا أشبه بخلية نحل بسبب تزايد أعداد المسافرين أو العابرين من خلاله ليصبح في المركز الرابع من بين المطارات الأكثر ازدحاماً في قارة أفريقيا بنهاية العام 2017.
أما الاستثمار في مجال النقل البري في دول شرق القارة الأفريقية فحدّث ولا حرج، فالعملاق الصيني قد شرع في مدّ العديد من خطوط السكك الحديدية، وإن كان ما أُنجز منه حتى الآن هو مد خط مومباسا – نيروبي كأحد مراحل الحزام والطريق البري رغم وقوعه بالكامل ضمن حدود دولة كينيا، بالإضافة إلى شق آلاف الكيلومترات من الطرق في تنزانيا وكينيا، ويُمنّي المارد الصيني النفس في تنفيذ فكرة خط السكة الحديدية من موانئ جيبوتي(موانئ أغلبها تحت الإنشاء) في أقصى شرق القارة وحتى داكار عاصمة السنغال على شاطئ الأطلسي في أقصى غرب القارة، مروراً بعدد من الدول الافريقية المغلقة، وبرغم كل الصعوبات التي ستواجه التنفيذ إلا أنها تبقى فكرة عبقرية تُضاهي إلى حد كبير حسب اعتقادي فكرة قناة السويس قبل شقها، وهذا الخط سيغير بدون أدنى شك من شكل التجارة الدولية في حال إنجاره، بل وسُينعش اقتصادات الدول التي يمر بها المشروع، وستسفيد منه الدول المجاورة له ومن بينها بلادنا ليبيا: حيث ستكون ليبيا بحكم موقعها الجغرافي وعمقها الأفريقي هي حلقة الوصل بين دول البحر المتوسط ودول أفريقيا جنوب الصحراء.
وبالحديث عن الموانئ البحرية في دول شرق القارة، فميناء مومباسا في كينيا وموانئ جيبوتي تُعد أهم موانئ القارة الافريقية ضمن مشروع طريق الحرير البحري، والذي يمتد شمالاً عبر قناة السويس في اتجاه حوض المتوسط وموانئ دول غرب أوروبا، وتجدر الإشارة إلى أنه وقبل أعوام قليلة خلت كانت جيبوتي تمتلك ميناءً واحداً فقط تتقاسمه مع إثيوبيا في تجارتهما الخارجية، وها هي اليوم تمتلك جيبوتي أربع موانئ حديثة والبقية تأتي، ومن الملاحظ أيضاً أن إثيوبيا قد قامت بتطوير عدد من المجمعات والمناطق الصناعية واللوجستية، وبعبارة أوضح فقد تم تكليف شركة تطويرالمجمعات الصناعية المشتركة (شركة مساهمة) ببناء 11 مجمعًا صناعيًا في الفترة بين 2015 و2020، كما تخطط إثيوبيا أيضاً لبناء 20 مجمعًا صناعيًا إضافياً في الفترة بين 2020 و 2025، لأجل تنويع مصادر الدخل القومي.
ختاماً .. يُعد معدل النمو الاقتصادي هو أهم المؤشرات الاقتصادية للدول، ومقياساً لمعرفة صحة الاقتصاد الكلي لها، وبالتالي يمكننا القول أن دول شرق القارة الافريقية وهي ذات اقتصادات غير ريعية من الأساس وقد سجلت أعلى معدلات نمو في القارة خلال السنوات الأخيرة وبوتيرة تصاعدية هي دول رائدة، ويعود الفضل في المقام الأول للاستثمارات الأجنبية المباشرة التي استقطبتها، وقد ساعد هذا النمو بعض الدول (وليس كل الدول) في تحقيق تنمية مكانية وبشرية، والذي بدوره انعكس إيجاباً على حياة مواطنيها، دون أن نغفل عن حقيقة ساطعة كالشمس وهي أن انتهاج الدول المذكورة لأنظمة حكم رشيدة وبرامج حوكمة صحيحة قد دفع باقتصاداتها لتحقيق هذا النمو.