| مقالات اقتصادية
محمد أبوسنينة يكتب عن “الميزانية العامة للدولة 2021 .. الاعتبارات الاقتصادية والمحاذير”
كتب: الخبير الاقتصادي “محمد أبوسنينة”
انصب الاهتمام والتركيز في مطلع السنة المالية 2021 على سعر الصرف، ما له وما عليه ، والآثار المحتملة لتخفيض سعر الصرف الرسمي للدينار الليبي على مختلف المتغيرات الاقتصادية خلال العام 2021 ، وفي مقدمتها الاثر على المستوى العام للأسعار.
وقد طغى هذا الاهتمام على ما يستوجب اتخاذه من سياسات اقتصادية مكملة لسياسة تخفيض سعر الصرف أو ما يعرف بالسياسات المصاحبة التي تناولها برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي ، والتي لم تحظى بالاهتمام الكافي ولم يتم تسليط الضوء عليها بالرغم من أنها الضامن الأساسي لنجاح سياسة سعر الصرف من خلال التخفيف من الآثار السلبية لتخفيض سعر الصرف وتعظيم الآثار الإيجابية المترتبة عليه.
وقد يعود ذلك لغياب التنسيق المطلوب بين مؤسسات الدولة المعنية، أي بين المصرف المركزي والحكومة والانقسام الذي تعرضت له مؤسسات الدولة.
وفي اقتصاد مشوه يعاني من عديد المشاكل والعلل الاقتصادية ، ليس أقلها الدين العام الذي تتجاوز نسبته 220٪ من الناتج المحلي الإجمالي، والاعتماد الكامل على إيرادات النفط في تمويل الميزانية العامة للدولة والطبيعة الريعية للاقتصاد والدولة، وعدم مرونة القطاع الإنتاجي غير النفطي، وهشاشة وانقسام الموسسات السيادية، والتوقف شبه التام لمشروعات وبرامج التنمية الاقتصادية والتي لم يتجاوز حجم الإنفاق عليها 5% من إجمالى الإنفاق العام، وحجب إيرادات النفط في حسابات مصرفية خارج مصرف ليبيا المركزي ، في ظل هذه الأوضاع ينبغي أن ياْتي الاهتمام بحجم الميزانية العامة للدولة المتوقعة للسنة المالية 2021 ، والتي تمثل برنامج عمل الحكومة خلال السنة، على رأس سلم الأولويات وأن تحظى بما تستحقه من الدراسة والتحليل ، وألاّ توضع تقديراتها جزافاً، في إطار السياسة المالية المعتمدة بعد تخفيض سعر الصرف الرسمي للدينار وكسياسة مصاحبة له.
ذلك باعتبار أن تعديل سعر الصرف وإقرار ميزانية عامة للدولة مصاحبة له، يشكلان نقطة تحول فى الاقتصاد الليبي وينبغي الاستعداد والتحوط لما بعدها.
وفي تقديري أن حجم الإنفاق العام وكيفية تحديده والأسلوب الذي سيتبع في تنفيد اعتمادات الميزانية خلال السنة المالية 2021 هي العوامل التي سيكون لها بالغ الأثر على الاقتصاد الوطني، فالإنفاق العام يمثل المحرك الرئيسي للطلب الكلي والمصدر الأساس للطلب على النقد الأجنبي في ظل الأسلوب التقليدى المتبع في إعداد الميزانية في ليبيا، أو ما يعرف بميزانية الأبواب، وباستثناء المرتبات ( الباب الأول من الميزانية ) فإن كل بنود الميزانية العامة للدولة بها مكون بالنقد الأجنبي وسوف ترتفع تقديراتها في الميزانية بالدينار الليبي بنسبة الارتفاع في سعر صرف النقد الاجنبي، وحتى المرتبات نجدها تنتهي إلى طلب استهلاكي على السلع والخدمات المستوردة من الخارج ، لهذا وجب مراجعة مختلف بنود الميزانية وتخفيض نفقاتها واتباع أساليب مختلفة في تحديد تقديراتها، وقد يؤدي إقرار ميزانية عامة مبالغُ في تقديراتها ( inflated budget ) إلى إجهاض النتائج المرجوة أو الإيجابية من سياسة تخفيض سعر صرف الدينار الليبي.
وفي معرض الحديث عن ضوابط إعداد الميزانية العامة للدولة والمحاذير المصاحبة لتضخم حجمها والمبالغة في تقدير مصروفاتها المتوقعة، ينبغي ألاّ يغيب عن أذهان معدي تقديرات الميزانية العامة للدولة ما يعرف بالطاقة الاستيعابية للاقتصاد الليبي، ويقصد بالطاقة الاستيعابية للاقتصاد قابلية الاقتصاد وقدرته على توظيف الموارد الاقتصادية بكفاءة وزيادة معدل النمو الاقتصادي، كما تعني بأنها مجموعة الفرص الاستثمارية التي يمكن استغلالها بنجاح خلال فترة زمنية معينة.
وبالنظر لتضخم عدد العاملين في القطاع العام الذي يتجاوز اثنين مليون موظف وغياب أي تطور تكنولوجي ملحوظ داعم للتنمية الاقتصادية ، والفساد المستشري في مختلف القطاعات ، وعدم مرونة القطاع الإنتاجي غير النفطي ، فإن الطاقة الاستيعابية للاقتصاد الليبي تبدو محدودة جدا ، ولا يمكن السيطرة على معدل التضخم في الاقتصاد أو التنبؤ بمعدلاتها في حال تجاوزت معدلات الإنفاق الطاقة الاستيعابية الممكنة.
ومما يعزز هذا التخوف غياب أدوات السياسة النقدية التي يمكن أن يطبقها المصرف المركزي للتحكم في عرض النقود، ومن هذه الزاوية يمكن القول بأن الطاقة الاستيعابية للاقتصاد الليبي تمثل حجم الموارد الاقتصادية التي يمكن توظيفها دون تعرض الاقتصاد لمعدلات تضخم عالية، أو التي يتحقق في ظلها معدل تضخم مقبول.
ولتفادي محاذير تجاوز الطاقة الاستيعابية الممكنة للاقتصاد ينبغي مراعاة أسس ومبادئ إعداد الميزانية العامة للدولة والتي من أهمها :
مبدأ وحدة الميزانية؛ أي إدراج كل الإيرادات والنفقات في وثيقة واحدة كدليل على وحدة الدولة ووحدة الموارد، ومبدأ الشمولية؛ أي تسجيل كل الإيرادات والنفقات العامة في وثيقة الميزانية دون إجراء مقاصة بينها. كما ينبغي أن تكون الميزانية وفقاً لما يعرف بميزانية الأداء ، حيث يتم التركيز على وسائل القيام بالعمل المطلوب إنجازه ، أي تحديد الأهداف التي ترصد لها اعتمادات الميزانية والتي قد تكون مشروعات محددة ( مشروعات وطنية تستفيد منها مختلف المناطق بشكل جماعي ) أو برامج موجهة لتحقيق أهداف معينة في مختلف المناطق ( تنمية مكانية )، وتحديد تكاليف البرامج المقترحة للوصول إلى تلك الأهداف ، وألاّ تكون الميزانية مجرد تجميع لميزانيات قدرت أرقامها على أسس مجزاة ، مما يساعد على توزيع الموارد المالية المتوفرة لدى الدولة بشكل أفضل بالمقارنة بأسلوب الميزانية التقليدية (ميزانية الأبواب ) كما تسهل عملية الرقابة على التنفيذ لوجود معايير مسبقة للاداء.
ولما كان سعر الصرف الجديد للدينار الليبي يعني أن الدولار الواحد المتأتي من إيرادات النفط يساوي 4.48 دينار فإن موارد الميزانية المتأتية من إيرادات النفط سوف تزداد بنسبة 220 %. مما قد يدفع مُعدي تقديرات الميزانية العامة الجديدة إلى تضخيم حجم الانفاق العام المستهدف بحجة توفر موارد مالية إضافية كافية والعمل على استنفاذها بالكامل، وأن بنود الميزانية التى يتم الانفاق عليها بالنقد الأجنبي سوف تزداد قيمتها بنسبة الزيادة في سعر صرف النقد الاجنبي . ويأتي هذا التوجه امتداداً لأثر مسايرة أو محاباة الحكومة للاتجاهات أو التقلبات الدورية ( pro cyclical ) عوضا عن مواجهة التقلبات الدورية ( counter cyclical ) وعدم مسايرتها ، أي الخضوع للتقلبات في الدخل المتأتي من إيرادات النفط.
وقد يدفع البعض بأن الالتزام بالأسس والمبادئ التي تحكم إعداد الميزانية يتطلب وجود حكومة راتبة، وأن الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد ، ولمجابهة كل الطلبات ، تستوجب إقرار أقصى حد ممكن للميزانية مهما بلغ حجمها، ومن محاذير هذا التوجه أنه سيرسي قاعدة يصعب التخلي عنها وصعوبة تخفيض أو تقليص حجم الميزانية في السنوات اللاحقة عندما تتولى إدارة الدولة حكومة راتبة مستقرة أو التكيّف مع ميزانيات أصغر حجماً في المستقبل ، فضلا عن عدم القدرة على تنفيذ الميزانية بالكفاءة المطلوبة ، في ظل الأوضاع الاقتصادية المترهلة، إذ العبرة ليس بحجم الميزانية بقدر ما هي القدرة على تحقيق كفاءة المصروفات وإدارة الموارد على أسس اقتصادية.
وفي هذا المقام يتردد في الأوساط وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، إن صح ما تم تداوله، أن حجم الميزانية العامة التي يجري إعدادها للسنة المالية 2021 يتراوح بين 60 و 70 إلى 80 مليار دينار ليبي. وبالرغم من أن إعداد ميزانية موحدة للدولة الليبية يعتبر خطوة إيجابية وفي الاتجاه الصحيح ، وتمثل أول مطلب لتوحيد البلاد وأكثر ما تحتاج إليه حكومة الوحدة الوطنية، إلا أن إعداد ميزانية تتراوح بين 60 إلى 80 مليار دينار يستوجب التوقف عنده والتنبيه إلى المحاذير التي ستترتب عليها في حالة الاقتصاد الليبي.
إن إقرار ميزانية بهذا الحجم ، أيًّا كانت الأسباب والخلفيات التي تقف وراءه ، حتى وإن توفر لها التمويل اللازم ، سيؤدي إلى تعرض الاقتصاد لموجة تضخمية مصحوبة بمعدلات مرتفعة من البطالة بسبب محدودية الطاقة الاستيعابية للاقتصاد وتدني مستوى الإنتاجية وعدم توفر القدرات الإدارية والفنية الكفيلة بتنفيذ اعتمادات الميزانية بالكفاءة المطلوبة ، فإصلاح المالية العامة يعتبر شرطا ضروريا لتنفيذ الميزانية. و عندما تتجاوز المرتبات 50 % من إجمالى الإنفاق العام ، ويشكل الانفاق التسييري والدعم أكثر من 25 %, ولا يتجاوز الانفاق التنموي 10 % من إجمالى الانفاق العام فإن جل الانفاق العام سيوجه في أغراض استهلاكية بعيدا عن الاستثمار وتكوين رأس المال الثابت اللازم لدعم النمو الاقتصادي.
ولعل من أشد المحاذير المصاحبة لإقرار ميزانية عامة متضخمة، كما أوضحت في مقدمة هذه المقالة، تولّد ضغوط على سعر الصرف الجديد مما قد يحول دون المحافظة عليه أو صعوبة اللجوء إلى رفع قيمة الدينار الليبي والحدّ من فرص مراجعته بهدف رفع سعر صرف الدينار الليبي وصولا إلى سعر الصرف العادل أو السعر التوازني المنشود في أسرع وقت ممكن، ذلك لأن حجم الطلب على النقد الأجنبي المترتب على الإنفاق العام، في إطار الميزانية العامة للدولة يقدر في المتوسط بحوالي 80٪ من حجم الإنفاق العام نظرا للاعتماد شبه الكامل على الاستيراد في توفير السلع والخدمات.
كما أن إقرار ميزانية عامة مضخمة يشير، بقصد أو بدونه، إلى عدم تعويل الحكومة على القطاع الخاص وإعطاءه دورًا مهمًا في النشاط الاقتصادي، وعدم تذليل الصعاب التي تحول دون قيامه بدوره.
وحيث أن الإنفاق العام، في إطار الترتيبات المالية الموحدة غرباً وشرقا، (الإنفاق الفعلى) قد انخفض من 56 مليار دينار خلال عام 2019 إلى 48 مليار دينار (حجم الإنفاق الكلي المقدر شرقا وغرباً خلال عام 2020) ولم يتجاوز حجم الإنفاق العام الفعلى خلال العام 2020 مبلغ 37.319 مليار دينار وفقا لبيانات مصرف ليبيا المركزي في طرابلس ، فمن الصعوبة بمكان قبول وتبرير تقديرات لحجم الإنفاق، ضمن ميزانية عامة موحدة خلال عام 2021 تتجاوز 60 مليار دينار بمعنى زيادة حجم الميزانية بنسبة تتجاوز 100%.
ولتبسيط الموضوع وبالنظر إلى أن عدد السكان في ليبيا في حدود 6.5 مليون نسمة فإن إقرار ميزانية عامة يقدر حجمها ب 80 مليار دينار ، على سبيل المثال ، يعني ان متوسط الانفاق الشهري سيكون في حدود 6.6 مليار دينار ، وأن متوسط الانفاق اليومي سيكون في حدود 220 مليون دينار . فهل تمتلك الحكومة والمؤسسات والاجهزة التابعة لها القدرة على إنفاق 220 مليون دينار في اليوم بالكفاءة المطلوبة وبشفافية كاملة ، أي ما يعادل 50 مليون دولار يوميا ، وهل يستوعب حجم الاقتصاد هذا القدر من الإنفاق دون أن ينتهي إلى تضخم المستوى العام للأسعار وهدر الموارد الاقتصادية؟
ولتمويل هذا الحجم من الإنفاق ، هل توجد ضمانات لتحقيق إيرادات نفطية تقدر بحوالي 18 مليار دولار في السنة ، أي ما يعادل 1.5 مليار دولار شهرياً على أسس مستدامة ودون توقف؟ وينطبق نفس القول نسبيا فيما لو تم إعداد ميزانية عامة يقدر حجم الانفاق المتوقع فيها ب 60 أو 70 مليار دينار.
لذلك فإن العبرة ليس بتضخيم رقم الميزانية العامة بقدر ما هي القدرة على الصرف بكفاءة لميزانية يتناسب حجمها مع حجم الاقتصاد الوطني.
وبصفة عامة يلاحظ ميل الحكومة إلى إقرار ميزانيات عامة تتضمن إنفاقا عاما تتجاوز نسبته كل المعايير القياسية وبالمقارنة بالدول الأخرى ذات الظروف المشابهة ، إذ تجاوزت هذه النسبة 121% من الناتج المحلى الإجمالى عام 2020 ، وفقا لبعض الدراسات حول الاقتصاد الليبي ، ومن المتوقع أن تتجاوز هذه النسبة 150% من الناتج المحلي الإجمالي خلال عام 2021 ، مما يشير إلى التدني الشديد في الإنتاجية وهدر الموارد في الاقتصاد الليبي.
وإذا كان الهدف من إقرار ميزانية ضخمة هو العمل على سداد كافة الالتزامات المترتبة في ذمة الخزانة العامة، بما في ذلك الديْن العام والمرتبات المتأخرة وعلاوة الأطفال وربات الأسر ، فإنه ليس من الحكمة استهداف سداد هذه الالتزامات دفعة واحد خلال السنة، والأجدى اتباع برمجة مالية كفيلة بسداد هذه الديون على دفعات بحيث يمكن سدادها كاملة، على سبيل التوضيح، خلال ثلاث سنوات.
والأجدى بالحكومة أن تستغل فرصة توفر إيرادات إضافية ، خلال عام 2021 في إنشاء شبكة حماية اجتماعية فعالة تستهدف ذوي الدخل المحدود ومن هم عند خط الفقر أو دونه والفئات الهشة من المجتمع وبالتالي الحفاظ على العدالة الاجتماعية والمساواة بين أفراد الشعب.
كما ينصح بأن توجه نسبة مهمة من الإيرادات لتوسيع الاستثمار العام في البنية التحتية في مختلف المناطق كوسيلة لتعزيز النمو الاقتصادي ولانتشال الاقتصاد من حالة الركود التي يعاني منها وتعزيز نمو القطاع غير النفطي بشكل مباشر، وإتاحة الفرصة للقطاع الخاص للمساهمة في حلحلة المختنقات التي يعاني منها الاقتصاد واستيعاب نسبة من الباحثين عن العمل ورفع مستوى الإنتاجية، ومن ناحية أخرى ينبغي العمل على تقليص عدد العاملين بالسفارات والقنصليات الليبية، ومعالجة دعم المحروقات بمنح دعم نقدي كافٍ ومناسب لليبيين بدلا من دعم سلع البنزين والديزل والكيروسين التي يهرب معظمها للخارج.