كتب: محمد أحمد الخبير النفطي
يعتمد نجاح صناعة النفط على وجود نموذج تمويلي فعال لتغطية التكاليف الرأسمالية والتشغيلية في المدى المتوسط والطويل. هناك مشكلة في قرار إعادة الاستثمار في الدول النفطية.
السلطات العامة والرأي العام في هذه الدول يعتبرون أن الثروة النفطية هي عطاء رباني “وهي كذلك بالفعل” ولكن التفكير فيها هي كالأمطار بدون تكلفة حقيقية.
قد يكون الأمر كذلك سنوات طويلة خلت حين كانت التكاليف لا تشكل عبئا كبيرا في انتاج النفط خصوصا في المناطق البرية الصحراوية أو الخالية من السكان وكانت متطلبات الانفاق في مجتمعات تلك الدول منخفضة مقارنة بمستوى أسعار السلع المصنعة عالميا.
اليوم تكاليف الإنتاج ارتفعت بشكل كبير جدا بسبب ارتفاع أسعار المواد الأولية مثل الحديد وكذلك المصنعة مثل الكيماويات اللازمة لصناعات الحفر والنقل والتخزين، كذلك فأن تطبيق المعايير الدقيقة للأمن والسلامة والبيئة لمنع التسربات والكوارث البيئية رفع من التكلفة بشكل كبير وأخيرا فأن زيادة أجور القوى العاملة في الصناعة كان له ظلا أيضا في ارتفاع التكلفة.
أخذا في الاعتبار هذه الزيادة الكبيرة في التكاليف فأن الصناعة نفسها أصبحت تنافس الجمهور في اقتسام عوائد بيع النفط وذلك أما للمحافظة على بنيتها التحتية أو تطوير عملياتها بما يتوافق مع الظروف الجديدة وكذلك متطلبات زيادة الإنتاج محليا وعالميا. النموذج الحالي والمطبق في الدول النفطية بسبب ملكية الدولة للثروة النفطية وهيكلة الصناعة على النسق الاحتكاري الذي يمنع الوصول إلى الموارد ألا عن طريق جهاز عمومي واحد أصطلح على تسميته “الشركة الوطنية للنفط”، يقوم على أن تمويل هذا الجهاز مسؤولية خالصة للدولة. هذا الوضع أثار قضية الاستمرارية حين تصبح الدولة عاجزة عن تمويل الجهاز ومن ثم تمويل صيانة وتوسعة الصناعة النفطية.
اتجهت بعض الدول النفطية ذات الإنتاج الصغير أو التكاليف الإنتاجية العالية التي لم تسمح بالتأميم الكامل للصناعة النفطية وفقا لهيكل الصناعة النفطية العالمية إلى نموذج اتفاقيات تقاسم الإنتاج النفطي Production Sharing Agreement PSA التي تضمن للشركة النفطية المستثمرة عائدا مضمونا من النفط عينيا مقابل استثمارها في الصناعة النفطية في الدولة.
هذه الاتفاقيات تضمن دخلا بالعملة الصعبة للشركة المستثمرة بعيدا عن مخاطر التعامل بالعملة المحلية في الدولة المنتجة. نجاح هذا النموذج يتوقف على عاملين الأول هو استقرار الأسعار النفطية والثاني هو استمرار تكتل الشركات النفطية العالمية. هذان العاملان كما هو معروف لم يستمرا أبدا نتيجة للمنافسة الحادة في أسواق النفط والطاقة العالمية.
فأسعار النفط شهدت صدمات كبيرة أعادت هيكلة الصناعة النفطية العالمية بصفة دورية أدت إلى اختراق شركات صغيرة لهذه الصناعة مما أدى إلى تفتيت العائد من عمليات الإنتاج وبالتالي ضعف القوة الاستثمارية لنموذج اتفاقيات مقاسمة الإنتاج وأصبحت ذات تكلفة إضافية للمنتج النفطي.
في ظل الصعوبات المالية والعجز في الموازنات في الدول النفطية فأن المنافسة مع الجمهور على التدفق القادم من صافي ناتج العائدات النفطية الوطني المطروح منه حصة الشريك الأجنبي، أصبح وسيصبح مشكلة معقدة في حين ستقوم السلطات السياسية بالانحياز إلى الاحتياجات العامة للجمهور القصيرة المدى والضغط على الصناعة النفطية الوطنية مما سيهدد استمراريتها وربما وقوعها تحت السيطرة الأجنبية من جديد من خلال توسيع أداة تقاسم الإنتاج كمصدر تمويلي حر.
الحل في هذا الخصوص يعتمد على تدبير التمويل من خارج الموازنة الحكومية أما بالاتجاه إلى الاقتراض من البنوك أو بطرح مساهمات تعتمد على قوة التدفق النقدي المتوقع في المستقبل.
صحيح هذا سيقتطع من الدخل لحكومي المستقبلي للدولة نفسها ولكنه سيحل معضلة التمويل في المدى القصير بدون اللجوء إلى حجز كميات إضافية من الاحتياطي للشريك الأجنبي.
هنا نتكلم أساسا عن الاحتياطات الموجودة في المناطق البرية وليست تلك الموجودة في المناطق المغمورة بحريا والتي تحتاج إلى تكنولوجيا متقدمة وتكاليف مرتفعة.
الحل الأول وهو الاقتراض هو حل معقول نسبيا بسبب انخفاض تكلفة الاقتراض عالميا الآن وانخفاض سعر الفائدة، ويحتاج إلى تقييم دقيق قبل اعتماده. وبينما يمتلك هذا الخيار مزايا عديدة منها المحافظة على استقلالية القرار الإنتاجي ومرونة السياسات والاستراتيجيات ألا أنه قد يعاب عليه الارتفاع النسبي للتكلفة مقارنة باتفاقيات تقاسم الإنتاج في بعض الأحيان كما هناك تهديد بارتفاع سعر الفائدة في مثل هذه الترتيبات ذات الاجل الطويل.
لا بد من التشديد هنا أنني أتحدث عن الواقع كما أراه يتطور وليس عن تفضيلاتي الشخصية التقليدية التي قد تميل إلى النموذج الحكومي التمويلي التقليدي. هناك طبعا الكثير من المحاذير في عملية اختيار البديل المناسب للتمويل تتعلق بتسرب القيمة خارج الاقتصاد الوطني في حال عدم موازنة الحاجة للتمويل الأجنبي بالعائد منه أو التأخر في التوسع بشكل مناسب مع النمو الصناعي الدولي مما يسبب ضياع الحصة السوقية.
في نهاية العام الماضي بتاريخ 11/12/2019 قامت شركة آرامكو السعودية بطرح أسهم 1.5% من قيمتها في السوق السعودية بالريال السعودي في البورصة السعودية “تداول” في توجه جديد يتحدى النموذج التقليدي للتمويل الذي كان يقوم على تمويل الدولة. الطرح أنتج 26 مليار دولار للشركة عند هذه القيمة وبذلك فأن شركة آرامكو تقيم سوقيا بـ 1.7 تريليون دولار (عشر سنوات من انتاج النفط عند 11 مليون برميل يوميا)، هذا بسعر 36.80 ريال للسهم أي 9.81 دولار.
ليس واضحا كيف سيتم قسمة هذا التمويل بين الدولة والشركة حتى الآن ألا أن الشركة ستكون ملتزمة برد 75 مليار دولار سنويا من الأرباح لحاملي الأسهم (الحكومة 98.5%+ المستثمرين 1.5%)، أي 73.8 مليار للحكومة و1.125 مليار للمستثمرين تقريبا.
في خلال التسعة أشهر الأولى التزمت الشركة بالوفاء بتوزيعها للأرباح تجاه حاملي الأسهم حيث حققت 33.5 مليار دولار من التدفق النقدي الحر في 9 أشهر الأولى أي أقل بـ 20 مليار من الأرباح الموزعة المستهدفة.
كان هذا نتيجة تراجع الأسعار النفطية بشدة وخارج كل التوقعات بسبب أزمة جائحة كوفيد في النصف الأول من السنة المراقبون في السوق ينتظروا حاليا كيف ستقوم الشركة بالإيفاء بالتزاماتها تجاه حملة الأسهم في الربع الأخير من السنة، علما بأن عدم الإيفاء قد يؤثر على سعر السهم ويقلص من فرص آرامكو في تحقيق تمويل إضافي بأسعار مناسبة.
ويمكن متابعة مؤشرات آرامكو خلال هذه السنة من الرسومات المرفقة:
P/E ratio 28.84 مقارنة بـ أكسون موبيل P/E ratio 16.25
Price to book ratio 6.68117
Price to sales ratio 7.7314
EPS 1.21
Dividends 4.03%
كيف يمكن أن نرى هذا من زاوية صناعة النفط في ليبيا؟
وفقا لحساباتي فأن المؤسسة الوطنية للنفط تستطيع إذا ما أتبعت النموذج السعودي أن توفر تمويل يصل إلى 9 مليار دولار أو 40 مليار دينار ليبي بسعر الصرف الجديد 4.48 دينار/دولار بطرح 2-3% من قيمتها السوقية والتي أقدرها بين 200-300 مليار دولار. في حال إدارة رشيدة لهذا المبلغ بهيكل إداري تجاري وليس حكومي يمكن للمؤسسة أن تستعمل هذا التمويل في توسيع الطاقة الإنتاجية للبلد لتصل إلى 2.5 مليون برميل يوميا وصيانة البنية التحتية الحالية بدون إدخال شريك أجنبي.
بالطبع سيكون هناك التزام للمؤسسة في رد هذا الاستثمار بتوزيع الأرباح ولا بد أن يكون هناك نموذج مغري للمستثمر “أعلى من سعر الفائدة على الدينار الليبي ويمكنه من رد قيمة السهم في أقل فترة ممكنة”.
هناك صعوبة كبيرة في حساب النسبة التي يمكن للمؤسسة أن تتحملها في استثمار مثل هذا ألا أنه يجب أن يقع ما بين المستحق من سعر فائدة يقدر اليوم 3.5% إلى 16% كمتوسط لكلفة اتفاقية شراكة الإنتاج. مبدئيا يمكن القول إن المؤسسة عليها أن تدفع في كل ربع سنة ما يقارب 300 مليون دولار كصافي أرباح موزعة لحصة 3% من الأسهم.
أعلم أن الكثير من الأصدقاء سيكون لديهم تحفظات كثيرة على مثل هذا النموذج وفي الحقيقة هي لدي شخصيا أيضا.
سأذكر تحفظاتي هنا ويمكن لأي صديق أن يضيف تحفظاته. أول هذه التحفظات هي هل يمكن تطبيق هذا النموذج في ظل الظروف السياسية الفوضوية السائدة في ليبيا اليوم.
الإجابة صعبة ولكني بحديث الأرقام أعطيها نسبة إمكانية 40%. التحفظ الثاني هو هل الإدارة الليبية قادرة على تنظيم مثل هذا الهيكل التجاري.
مرة أخرى الإجابة أصعب ولكني بحديث الأرقام أعطيها 30% مع شرط الاستعانة بخبرات دولية قادرة على ذلك وتجدر الإشارة أن السعودية نفسها استعانت ببنوك وشركات دولية للقيام بها.
التحفظ الثالث سيتعلق بأي عملة يمكن طرح الأسهم الدولار أم الدينار وهو سؤال عميق جدا واستلزم من السعودية وقت كبير للحزم بأن الطرح لا بد أن يكون بالعملة المحلية وألا سيكون هناك تسرب للقيمة إلى المستثمر الخارجي، في وضعنا الليبي وفي ظل عدم استقرار العملة المحلية ستكون الإجابة أصعب بكثير فأما أن تضطر الحكومة لتثبيت سعر صرف معين للأسهم أو فأنها لن تكون مغرية للمستثمرين ولن يمكن استجلاب التمويل الدولي على الأقل. التحفظ الرابع هو متى يمكن طرح خيار مثل هذا، طبعا هذا سؤال عملياتي ولكن لا أظن أن خيار مثل هذا يمكن طرحه فورا في سوق التمويل فالمؤسسة تحتاج إلى نشر حساباتها الختامية لمدة لا تقل عن 4 سنوات مثل ما حدث مع شركة آرامكو وهذا سيتطلب وقتا وجهدا كبيرا ولكنه ليس مستحيل.
أظن أن هذا نموذج نظري يساعد فقط على فتح الآفاق أمام متخذي القرار سواء السياسي أم الاقتصادي لحل معضلة تمويل الصناعة النفطية، توقعي الشخصي أنه لا آذان صاغية ولا تفكير في هذا الشأن، وسنشاهد تكرر المواجهة بين الصناعة النفطية ممثلة في المؤسسة الوطنية للنفط والسلطات النقدية والتنفيذية لفترات طويلة قادمة.