كتب الخبير النفطي “محمد الشحاتي” في تدوينةٍ عبر صفحته الشخصية على فيس بوك تحت عنوان: أين يتجه التضخم في ليبيا.
قال فيها:” بتأثير الصدمة تتعثر الأجهزة الحكومية الليبية وعلى رأسها وزارة الاقتصاد لمواجهة موجة عاتية من تضخم الأسعار انفجرت مؤخراً. حيث تتعالى أصوات الناس المنزعجة في الفترة الأخيرة من الارتفاع السريع غير المتحكم به في الأسعار وخصوصا أسعار المواد الغذائية، ويبدو أن الأجهزة الحكومية المختصة تفاجأت من هذا التقلب الخطير. التعثر الحكومي والإجراءات السريعة المتخبطة تثير عدة أسئلة هنا فهل كان هذا الانفجار الأخير مفاجأة حقا أم أنه نتيجة منطقية للسياسات النقدية والمالية والتجارية وكان يمكن توقعه بسهولة. أما السؤال الأكثر إلحاحا فهو إلى أين قد يتجه التضخم في ليبيا وهل هناك طريقة للحد منه أو وضعه تحت السيطرة.
وأضاف: بالنسبة للمراقبين أو الاقتصاديين الذين تقع على مسئوليتهم توقع التضخم وتشخيص أسبابه ومحاولة التوصية بسياسات لتجنب انفجاره فهناك مسائل محورية متعلقة بموضوع التضخم في ليبيا، تقود في الأغلب إلى الانحراف في التحليل وعدم دقة النتائج.
وتتلخص هذه المسائل في:
أولا: غياب البيانات الحديثة من الأجهزة الحكومية المختصة (هيئة الإحصاء والتعداد) أو تأخرها بشكل يعقد التنبؤ باتجاهات الأسعار في الوقت المناسب.
ثانياً: تخبط السياسات النقدية والمالية بسبب تأثرها بالآراء والتوجهات الشخصية أكثر من كونها خيارات مؤسساتية مما يجعل من الصعب توقع اتجاهاتها.
ثالثاً: الفوضى السياسية الحالية التي تؤثر على مجريات الحياة الاقتصادية في الدولة خصوصاً على الصناعة النفطية التي تعتبر العنصر الأساسي في العملية الاقتصادية وبالتالي مصدر الدخل.
بالتالي فإن المنهج التقليدي المعتمد على السلاسل الزمنية لتحليل الظواهر الاقتصادية يفقد الكثير من قيمته نتيجة لعوامل التشتت الكثيرة التي تخرج الظاهرة عن المسار المركزي المتسلسل للتطور والذي تقوم عليه مناهج التحليل الاقتصادي.
التضخم في صورة مبسطة هو وضعية اقتصادية يكون فيها نقود كثيرة تلاحق سلع قليلة، وبالتالي فإن التضخم هو أزمة في العرض حيث لا يتكيف الإنتاج أو الاستيراد مع التوسع في عرض النقود.
ولنكن صرحاء فإن التكيف في الإنتاج المحلي لتعديل مستويات العرض هو مسألة خارج القدرات الليبية على الأقل في المدى القصير والمتوسط. وبعيداً عن التحكم في التضخم بآليات السياسة النقدية في الاقتصاد الحر والتي هي معطلة تماماً في ليبيا فأن الخياران الوحيدان أمام الأجهزة الحكومية للتحكم نسبياً في التضخم بدون المساس بمستوى معيشة المواطن هو أمّا الدعم المباشر على الأقل للسلع الضرورية أو تسهيل توريد السلع.
كلا الخيارين لديهما إيجابيات وسلبيات كردود فعل مؤقتة، ولكنهما لا يمثلان على الاطلاق سياسة حكيمة ومستدامة للتحكم في التضخم.
الخيار الثالث الأكثر فعالية هو محاولة تخفيض الانفاق الحكومي والاستهلاكي وهو خيار مؤلم وحقيقة لا أرى أن أي سياسي ليبي في مستويات صنع القرار قادراً على تبني هذا الخيار الصعب، بل أن العكس هو ما يحدث تماما.
ولأسباب عديدة تم دفع المصرف المركزي العاجز عن اتخاذ أي سياسات نقدية فعالة إلى تخفيض سعر الصرف الرسمي للدينار الليبي، وكان أحد التبريرات من رجال الأعمال (طبقة المستوردين) أن هذا التخفيض سيدفع الأسعار إلى الهبوط بمعدل 35-40% نتيجة لانخفاض قيمة الدولار في السوق السوداء. وبالرغم من تحذيرات اقتصاديين ليبيين معروفين بأن هذه الفرضية غير سليمة وأن التضخم لن يتراجع ألا بتفعيل سياسات إصلاحية في مقدمتها إصلاح السياسة النقدية وسياسة الانفاق الحكومي ألا أن هذه التحذيرات ذهبت ادراج الرياح.
الآن جزء كبير من الرأي العام الليبي يتهم طمع التجار الوسطيين في إحداث الموجة الحالية من التضخم، بينما أكاديمياً فإن ذلك لا يمكن ان يحدث هذا إلا في ظل الحلقات الاحتكارية والتي تتمثل في طبقة المستوردين.
المشكلة الجوهرية أن التضخم الحادث في ليبيا اليوم هو تضخم مستورد، بعكس ما كان يحدث خلال السنوات العشر السابقة. في السنوات السابقة فإن مصادر التضخم كانت محلية وتتمثل في ارتفاع سعر الصرف في السوق السوداء والعجز الحاد في الميزان الجاري نتيجة لاضطرابات انتاج النفط وأخيراً عجز المصرف المركزي عن التحكم في عرض النقود بآليات السياسة النقدية.
اليوم فإن انفلات التضخم في الدول الصناعية التي تستورد منها ليبيا في أغلب السلع الاستهلاكية وفي مقدمتها الغذاء أصبح يهدد مستوى الأسعار المحلية المرتفعة أساساً. أضف إلى ذلك سوء تنظيم وتنسيق سلاسل العرض والتخزين وتهالك اللوجستيات مما يخلق أزمة عرض حقيقية في الأسواق الحدية في ليبيا.
هذا يشير إلى تفاقم أزمة التضخم في ظل نقص في التمويل الاستثماري والتنموي الناتج عن انسحاب الحكومة من النشاط الاقتصادي وتقاعس القطاع الخاص عن ملء الفجوة.
وبينما تشير آخر الاحصائيات الليبية المنشورة حتى نهاية الربع الثاني من السنة إلى معدلات تضخم منخفضة لا تتجاوز 4% إلا أن صندوق النقد الدولي في تقريره عن الاقتصاد العالمي المنشور في شهر أكتوبر 2021 يتوقع أن يصل التضخم في ليبيا في سنة 2021 إلى 20.11% سنوياً.
التضخم المستورد تهديد إضافي جديد، وبالرغم من أن التحليلات الحالية تشير أن البنوك المركزية ستستطيع أن تعيد إحكام سيطرتها على التضخم إلا أن هناك الكثير يشكك في ذلك على الأقل في المدى القصير. هذا قد يضيف ما لا يقل عن 4-6% سنوياً كتضخم مستورد بفرضية أن آليات الإنتاج والاستثمار التنموي المحلي ستستمر متعطلة.
في هذا الادراج أركز على علاقة التضخم في ليبيا بالتضخم في دول أخرى.
كما تلاحظون من الرسوم فأنني أخترت الولايات المتحدة الامريكية، منطقة اليورو، الصين، فهرس فاو لأسعار الغذاء.
التضخم في الولايات المتحدة يتصاعد بصورة سريعة ليصل إلى 6.2 % في أكتوبر، وكذلك في أوربا ليصل إلى 4.1% بينما لا يزال تحت السيطرة في الصين بمعدل 1.5%. لا بد أن نلاحظ أن المستوى الصيني مرشح للارتفاع خصوصا بعد ارتفاع أسعار مصادر الطاقة مؤخرا والصين دولة منكشفة بشكل كبير على أسعار الطاقة عالميا.
العلاقة بين التضخم في الدول الثلاثة وليبيا موجودة في الرسم المخصص. الرسم يعين معامل الارتباط في عدة عقود بين التضخم في ليبيا والدول المختارة.
في المتوسط فإن علاقة التضخم بين ليبيا والولايات المتحدة هي الأضعف بينما هناك ارتباط قوي بين التضخم في ليبيا والتضخم في الصين يصل في المتوسط إلى 49%. وهناك أيضا تهديد كبير من التضخم في أوروبا على ليبيا حيث يصل معامل الارتباط إلى 21%.
وأخيراً فأن مؤشر أسعار المواد الغذائية الصادر عن منظمة فاو مؤخرا يشير إلى ارتفاع يفوق 15% وهو ما يعتبر مؤشر خطير بسبب ثقل وزن تصنيف الغذاء في فهرس أسعار المستهلك الليبية.
لنرجع لسؤالنا الأساسي أين يتجه التضخم في ليبيا؟
المؤشرات تدل على تزايد الضغط التضخمي في الفترة القادمة، ويجب التشديد على أن الإجراءات الحالية هي قاصرة جداً عن مواجهة هذه الموجة الكبيرة وتحتاج الأجهزة الحكومية الليبية إلى وضع تخطيط فعال يجمع في حزمة واحدة سياسات إصلاحية نقدية، مالية وتجارية للتكيف مع الظروف الطارئة والتخفيف قدر المستطاع على المواطن.