قال عضو مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي سابقًا “مراجع غيث” إن طرح الخبير الاقتصادي “محمد الصافي” مقترحًا لتحديد سقف الموازنة للجهات مسبقًا، وعلى هذه الجهات أن تتحرك في حدود هذا السقف، كما اقترح أن يتم ربط بعض أبواب الموازنة بالإيرادات غير النفطية، وهذا نوع من تخصيص إيرادات معينة لاستخدامها في الإنفاق على أبواب معينة في الموازنة. وقد تعددت ردود الفعل بين مؤيد لهذه الفكرة وبين منتقد لها وطرحت أسئلة حول الجدوى منها.
وأوضح “غيث” أنه لفهم ما طرحه “الصافي” يجب فهم آلية إعداد تقديرات الموازنة في ليبيا، حيث إن إعدادها يبدأ من أسفل، من الجهات الممولة من الخزانة (في ما عدا البنود المركزية مثل الدعم)، وتحوَّل التقديرات إلى وزارة المالية حيث تتم مناقشتها مع الجهات للوصول إلى الرقم المناسب. وكممارسة عامة، فإن كافة الجهات تبالغ في تقديراتها حتى إذا خُفضت لا تؤثر عليها فعليًا، وهذه ممارسة مستمرة، وأحيانًا التقديرات غير مبنية على أسس سليمة، وأخص هنا بالذكر الباب الثاني “المصروفات التسييرية”، حيث إن الباب الأول من الممكن التحكم فيه بقدر من الموضوعية، لأن بيانات العاملين غالبًا متوفرة. لا يعني ذلك عدم وجود مبالغة، ولكن تكون محصورة في غير المرتبات مثل الإعاشة.
وأضاف “غيث” أن ما طرحه الأستاذ “محمد” هو أن تقوم وزارة المالية بوضع سقف للإنفاق من الباب الثاني خاصة، وإلزام كافة الجهات بتوزيع هذا السقف على بنود الباب الثاني، ويتم تحديد السقف بناءً على بيانات الإنفاق الفعلي للمدة من ثلاث إلى خمس سنوات ماضية، حيث إن مصروفات الباب الثاني هي مصروفات متكررة تتغير بتغير عدد العاملين بها أو بتغير الأسعار وهكذا.
وتابع “غيث” بأن البعض يقول إن الموازنة أصلًا سقف محدد، وهذا صحيح، ولكن من يحدد هذا السقف هو مقترحات الجهات الحكومية، وتعتمد بعد نقاشها. ولكن يظل الأصل في اقتراحها هو الجهات الحكومية. ما يريده المقترح هو سيطرة الدولة، ممثلة في وزارة المالية، على الإنفاق بتقديره من جانبها. هذا لا يعني عدم وجود تجاوزات أو ظروف معينة تؤدي إلى تعديل هذا السقف.
كما أضاف “مراجع غيث” أنه فيما يتعلق بالباب الثالث، مع التحفظ على التسمية حيث إن الصحيح هو “موازنة التنمية”، والتي يحكم إعدادها حاليًا قانون التخطيط، فإن تحديد السقف يتم بشكل كلي، أي أن الدولة تحدد المبلغ المخصص لإنفاقه على المشروعات هذه السنة، ثم يتم بعد ذلك تحديد أولويات المشروعات التي يمكن تنفيذها بهذا المبلغ المحدد.
وأشار “غيث” إلى أن هناك خطأ في موازنة التنمية، وهو إدخال المبلغ الكلي للمشروع ضمن موازنة السنة القادمة بالكامل، بينما الصحيح هو إدخال المبلغ المتوقع إنفاقه في السنة القادمة، وليس تكلفة المشروع الكاملة، الذي قد يستمر تنفيذه لمدة أطول من سنة. وهذه الممارسة تؤدي إلى تضخيم الموازنة بأرقام من المستحيل إنفاقها.
كما قال “غيث”: أما فيما يتعلق بتخصيص الإيرادات (توسيم الإيرادات) معينة للإنفاق منها على باب أو أبواب معينة، وعدم تجاوز الإنفاق على هذه الأبواب للإيرادات المحددة، فهو نوع من الرقابة على الإنفاق، وكذلك الحث على تحصيل تلك الإيرادات. مثلًا، يُحدد الإنفاق على الباب الثاني بمقدار الإيرادات المحصَّلة من الموارد غير النفطية فقط. هذا الإجراء يشجع على تحصيل الإيرادات غير النفطية، مثل الرسوم والضرائب وحصة الدولة في أرباح بعض المؤسسات والشركات العامة، وإيرادات بيع المحروقات المحلية. ولكي يؤدي التخصيص (التوسيم) دوره، يجب إسناد أغلب الخدمات إلى أدوات الحكم المحلي ونقلها من الوزارات المركزية، وعندها ستبذل هذه الجهات الجهد لتحصيل الموارد المحلية إذا أرادت الإنفاق.
وأوضح “غيث” أن هذا المقترح قد يعتبر خطوة في طريق الإصلاح، والذي أعتقد أن إصلاح المالية العامة هو أول خطواته. لا أقول إنه نهايته، ولكن إصلاح الإنفاق الحكومي وتحسين جباية موارد الدولة يُعدان من الخطوات المهمة في الإصلاح الاقتصادي الشامل. وبالتالي، فإن هذه الخطوات وأي خطوات أخرى في مجالات السياسة النقدية والتجارية والمالية يجب اتخاذها لتكون في النهاية إصلاحًا شاملًا، لأنه لا يمكن إجراء إصلاح شامل بخطوة واحدة، بل يتم بخطوات صغيرة وعلى مراحل. يتم التركيز دائمًا على سعر الصرف، ويتجاوز الحديث عنه أي مظاهر إصلاح أخرى، ونتناسى أنه بدون إصلاح السياسات المالية (نفقات وإيرادات ودَين عام)، من الصعب أن يتم إصلاح نقدي لمجرد تعديل سعر الصرف صعودًا أو هبوطًا.
وأشاد “غيث” بوجود وثائق إصلاح المالية العامة منذ سنوات، سواء إعداد موازنة متوسطة الأجل لمدة ثلاث سنوات، أو تطبيق حساب الخزانة الموحد، أو تعديل اللوائح والقوانين، وإصلاح الضرائب وغيرها من مكونات السياسة المالية. وأن تسقيف الموازنة يؤدي إلى الحد من الموارد المتاحة للإنفاق، حيث تم وضع سقف يمثل الإنفاق الفعلي إلى حد ما، وبالتالي يؤدي إلى محاربة الفساد والهدر في المال العام، حيث لا توجد موارد فائضة نتيجة لسوء التقدير. لا نقول إنه يقضي على الفساد، ولكن يُخفّض من معدّله.
واختتم “غيث” حديثه قائلًا: كل ما طرحه الأستاذ محمد الصافي وما طرحناه في هذا التعليق متوقف على وجود إرادة سياسية للإصلاح المالي، ورغبة في محاربة الفساد والهدر في المال العام، وليس استخدام المال العام للرضا أو كسب الود والخضوع لسياسات قصيرة الأجل لإرضاء الناس على حساب سياسات اقتصادية مناسبة