Skip to main content
نصية يكتب: المُرَتَّباتُ بَيْنَ آفَةِ الفَسادِ وَمُتَطَلَّباتِ الحاجَةِ
|

نصية يكتب: المُرَتَّباتُ بَيْنَ آفَةِ الفَسادِ وَمُتَطَلَّباتِ الحاجَةِ

كتب الخبير الاقتصادي “د. عبد السلام نصية” مقالاً بعنوان: المُرَتَّباتُ بَيْنَ آفَةِ الفَسادِ وَمُتَطَلَّباتِ الحاجَةِ.

المُرَتَّبُ يُعْتَبَرُ تَجْسِيداً مادِّيّاً لِلجُهْدِ الَّذِي يَبْذُلُهُ العامِلُ أَوْ المُوَظَّفُ، وَعادَةً ما يُحَدِّدُ وِفْقاً لِمَبْدَأِ الأَجْرِ مُقابِلَ العَمَلِ.

تَضَعُ مُعْظَمَ الدُوَلِ الحُدُودَ الدُنْيا لِلأُجُورِ، سَواءٌ لِمُقابِلِ العَمَلِ أَوْ لِكُلِّ ساعَةِ عَمَلٌ، خُصُوصاً فِي القِطاعِ الخاصِّ، مِمّا يُتِيحُ لِأَرْبابِ العَمَلِ حُرِّيَّةَ تَحْدِيدِ طَبِيعَةِ العَمَلِ وَساعاتِهِ المَطْلُوبَةِ، وَيُؤَدِّي ذٰلِكَ إِلَى تَشْكِيلِ ما يُعْرَفُ بِسُوقِ العَمَلِ فِي البِلادِ. فِي الأَحْوالِ جَمِيعُهُمْ، تَسْعَى الدُوَلُ لِتَحْقِيقِ مُقابِلَ العَمَلِ كَوَسِيلَةٍ لِضَمانِ حَياةٍ كرِيمَةٍ لِلفَرْدِ، بِهَدَفِ الحِفاظِ عَلَى السُلَّمِ الاِجْتِماعِيِّ وَالأَمْنِ القَوْمِيِّ وَتَحْقِيقِ العَدالَةِ الاِجْتِماعِيَّةِ.

فِي العَدِيدِ مِن الدُوَلِ، ما عَدا الدُوَلِ النَفْطِيَّةَ العَرَبِيَّةَ، تَكُونُ مُساهَمَةُ الحُكُومَةِ فِي سُوقِ العَمَلِ ضَئِيلَةً وَمَحْصُورَةً فِي عَدَدٍ قَلِيلٍ مِن العامِلِينَ فِي القِطاعِ العامِّ، بَيْنَما يَتْرُكُ الجُزْءُ الأَكْبَرُ لِلقِطاعِ الخاصِّ الَّذِي يَنْبَغِي عَلَيْهِ اِسْتِيعابُ مُعْظَمِ القُوَى العامِلَةِ. وَتَقْتَصِرُ تَدَخُّلاتُ الدَوْلَةِ عَلَى تَقْدِيمِ مَنَحٍ لِلباحِثِينَ عَنْ العَمَلِ، حَتَّى يَتَمَكَّنُوا مِنْ العُثُورِ عَلَى فُرَصِ عَمَلٍ مُناسِبَةٍ.

أَمّا فِي مُعْظَمِ الدُوَلِ العَرَبِيَّةِ الغَنِيَّةِ بِالنَفْطِ، فَإِنَّ الدَوْلَةَ تَسْتَحْوِذُ عَلَى الحِصَّةِ الكُبْرَى مِنْ سُوقِ العَمَلِ، بَيْنَما يَظَلُّ دَوْرُ القِطاعِ الخاصِّ مَحْدُوداً أَوْ شِبْهَ مَعْدُومٍ.

تُعَدُّ لِيبْيا أَحَدَ البُلْدانِ الَّتِي تَتَرَبَّعُ فِيها الدَوْلَةُ عَلَى عَرْشِ سُوقِ العَمَلِ، حَيْثُ شَهِدَتْ بَعْضُ الفَتَراتِ غِياباً تامّاً لِمُساهَمَةِ القِطاعِ الخاصِّ، مِمّا أَدَّى إِلَى أَنْ تَكُونَ الدَوْلَةُ هِيَ المَشْغَلَ الأَوْحَدَ. وَهٰذِهِ الحالَةُ قادَتْ إِلَى تَضَخُّمٍ هائِلٍ فِي فاتُورَةِ المُرَتَّباتِ، سَواءٌ مِنْ حَيْثُ العَدَدُ أَوْ القِيِّمَةُ، مِمّا اِنْعَكَسَ سَلْباً عَلَى المَوارِدِ المُخَصَّصَةِ لِبَرامِجِ التَنْمِيَةِ وَمَشارِيعِها، وَأَدَّى بِدَوْرِهِ إِلَى تَأَخُّرِ صَرْفِ المُرَتَّباتِ.

تُعَدُّ مُشْكِلَةُ تَأَخُّرِ صَرْفِ المُرَتَّباتِ فِي لِيبْيا قَضِيَّةً مُزْمِنَةً تَعُودُ جُذُورُها إِلَى أَعْوامٍ عَدِيدَةٍ مَضَتْ، وَلَيْسَ وَلِيدَةَ الظُرُوفِ الراهِنَةِ فَحَسْبُ. لَقَدْ تَجَلَّتْ هٰذِهِ المُشْكِلَةُ فِي عِدَّةِ أَشْكالٍ عَلَى مَرِّ الزَمَنِ، وَيُمْكِنُنا تَصْنِيفُ أَسْبابِها إِلَى فِئَتَيْنِ رَئِيسِيَّتَيْنِ. الأُولَى، الأَسْبابُ المُزْمِنَةُ الَّتِي تَتَجَسَّدُ فِي تَحْرِيمِ القِطاعِ الخاصِّ، مِمّا أَدَّى إِلَى زِيادَةِ تَكَدُّسِ العَمالَةِ فِي القِطاعِ العامِّ، الأَمْرُ الَّذِي أَثْقَلَ كاهِلَ المِيزانِيَّةِ العامَّةِ لِلدَوْلَةِ. إِضافَةً إِلَى ذٰلِكَ، اِعْتِمادُ البِلادِ عَلَى مَصْدَرِ وَحِيد لِلدَخْلِ وَهُوَ النَفْطُ، مِمّا يَجْعَلُها عُرْضَةً لِتَقَلُّباتِ الأَسْعارِ وَالكَمِّيّاتِ، تِلْكَ الَّتِي تُؤَثِّرُ سَلْباً عَلَى دَخْلِ البِلادِ؛ وَبِالتّالِي تَنْعَكِسُ عَلَى المُرَتَّباتِ مِنْ حَيْثُ قِيمَتُها وَتَوْقِيتُ صَرْفِها.

أَمّا الفِئَةُ الثانِيَةُ مِنْ الأَسْبابِ، فَقَدْ بَرَزَتْ خِلالَ السَنَواتِ القَلِيلَةِ الماضِيَةِ، حَيْثُ تَمَثَّلَتْ فِي ضَعْفِ قُدْرَةِ القِطاعِ الخاصِّ عَلَى الاِسْتِجابَةِ لِمُتَطَلَّباتِ السُوقِ وَاِسْتِقْطابِ العَمالَةِ؛ نَظَراً لِاِنْعِدامِ الثِقَةِ بِهِ وَاِرْتِفاعِ قِيمَةِ المُرَتَّباتِ فِي القِطاعِ العامِّ، وَكَذٰلِكَ التَوَسُّعُ الكَبِيرُ فِي التَعْيِيناتِ بِالقِطاعِ العامِّ وَقَراراتِ زِيادَةِ المُرَتَّباتِ العَشْوائِيَّةِ، وَالَّتِي لا يُقابِلُها زِيادَةً فِي الدَخْلِ، وَإِنَّما دافِعُها التَنافُسُ بَيْنَ الحُكُوماتِ وَالأَفْرادِ لِكَسْبِ الوَلاءاتِ. بِالإِضافَةِ إِلَى زِيادَةِ سِعْرِ الصَرْفِ نَتِيجَةَ التَوَسُّعِ فِي الإِنْفاقِ الناتِجِ عَنْ الاِنْقِسامِ المُؤَسَّساتِيِّ.

شَهِدَت الدَوْلَةُ مُؤَخَّراً زِيادَةً مَلْحُوظَةً فِي عَدَدِ العامِلِينَ، مِمّا أَدَّى إِلَى اِرْتِفاعِ فاتُورَةِ المُرَتَّباتِ الَّتِي باتَت تُشَكِّلُ أَكْثَرَ مِنْ 65% مِنْ إِجْمالِيٍّ دَخْلِ البِلادِ. كَما بَرَزَتْ سِياساتٌ مالِيَّةٌ غَرِيبَةٌ، أَبْرَزُها ما يُعْرَفُ بِالإِفْراجاتِ، الَّتِي تُعانِي تَفَشِّيَ الفَسادِ، إِلَى جانِبِ اِزْدِواجِيَّةِ العَمَلِ وَتَدْمِيرِ الدَوْرَةِ المُسْتَنَدِيَّةِ لِلإِيراداتِ، حَيْثُ قامَت المُؤَسَّسَةُ الوَطَنِيَّةُ لِلنَفْطِ بِحَجْبِ الإِيراداتِ وَالتَصَرُّفِ بِها قَبْلَ تَوْرِيدِها. كُلُّ هٰذِهِ العَوامِلِ أَسْهَمَتْ وَسَتُسْهِمُ فِي تَفاقُمِ أَزْمَةِ المُرَتَّباتِ الَّتِي تُعانِيها البِلادُ.

إِنَّ مُعالَجَةَ هٰذِهِ الأَزْمَةِ باتَت مِن الأَوْلَوِيّاتِ المُلِحَّةِ لِلإِصْلاحِ المالِيِّ، خاصَّةً فِي ظِلِّ التَوَقُّعاتِ القاتِمَةِ بِشَأْنِ تَراجُعِ أَسْعارِ النَفْطِ، حَيْثُ إِنَّ أَيَّ تَأْخِيرٍ فِي هٰذا الاِتِّجاهِ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى تَعْمِيقِ الأَزْمَةِ الاِقْتِصادِيَّةِ. بِلا شَكٍّ، تَتَطَلَّبُ المُعالَجَةُ حُزْمَةً مِنْ الإِجْراءاتِ وَخُطَّةَ إِصْلاحٍ واضِحَةً.

مشاركة الخبر