كتب : د. محمد أبوسنينة
سبع سنوات مند عام 2011 لم ترسُ سفينة ليبيا على بر ، تتقاذفها الأمواج وتعصف بها الرياح ، اختلافات وتباين فى المواقف ووجهات النظر حول كل شىء ، حتى على البديهيات والمسلًمات ، كانت المشكلة فى بدايتها مشكلة سياسية بعد انتخاب مجلس النواب وأصبحت اليوم مشكلة مركبة سياسية واقتصادية وأمنية فى آن واحد.
قضايا تجاوزها العالم وانتهى حولها الجدل لازالت فى ليبيا تشكل محورا للحديث فى كل محفل وفضاء وملتقى ، تجارب مستفادة فى تاريخ الأمم والشعوب لم يستفاد منها ولم يلتفت إليها ، حتى تجربة قيام ليبيا كدولة مستقلة فى تاريخها المعاصر لم يستفاد منها ، قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تزداد تعقيدا وتتجه كل يوم نحو الأسوء ، نتيجة لهذا الاختلاف فى وجهات النظر والتعصب للرأي وعدم قبول الآخر ، السلم المجتمعي فى خطر، الأمن المائي والغدائي فى خطر، الأمن الاقتصادى فى خطر ، المصالح العليا للدولة الليبية فى خطر.
لم ينتبه الليبيون بعد وما زالوا غافلين . والكل ينتظر ويعلق آمالا على جهود المبعوث الأممى إلى ليبيا ، وكأنه فى ليبيا منذ الاستقلال لم يتعلم أحد من الليبيين ولم يمارس العمل السياسى أو المالى أحد ولم يتقلد وظائف تنفيذية واستشارية أحد ، ليس بداخل ليبيا فحسب بل فى الخارج أيضاً فى دول ومؤسسات ومنظمات دولية وإقليمية.
كيف يؤول حال ليبيا إلى ما آلت إليه رغم تعدد جامعاتها ومراكز أبحاثها وخبرائها فى مختلف المجالات ، ومنهم من عمل فى مؤسسات ومنظمات دولية وإقليمية ومنهم من يعمل مستشاراً لدى دول وحكومات تعد فى مصاف العالم المتقدم ، كيف يمكن أن تتدهور الأحوال المعيشية لليبيين رغم الإمكانيات المادية والطبيعية التى وهبها الله لهذا الوطن.
هل هى أكذوبة ووهم يعيشه الليبيون أن الإنجازات العلمية والفكرية بل وكل التراث الإنسانى لا تصلح للرجوع إليها والاستفادة منها أو يقتدى بها ؟ ، أم أن ليبيا حالة خاصة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ولا ينطبق بشأنها ولا يصلح لها أية أنموذج أو وصفة طبقت فى أية دولة أخرى ؟ أليست ليبيا مجرد دولة نفطية ( تعتمد على إنتاج وتصدير النفط والغاز ) اقتصادها صغير وعدد سكانها محدود ولا يتجاوز السبعة ملايين نسمة ، كيف استطاعت الدول النفطية الأخرى إدارة شؤونها وتغلبت على أزماتها وما يعترضها من مشاكل بينما لم يتمكن الليبيون من التغلب على مشاكلهم والخروج من الأزمة التى يمرون بها ؟
لا زال الجدل فى ليبيا قائما حول قضايا تجاوزها الزمن و لم تعد تشغل بال المختصين فى الدول الاخرى ، ومشاكل أكتر تعقيدا من المشاكل التى تشهدها الحالة الليبية عولجت وحسمت ولم تعد محل نقاش ، تجارب صربيا ، رواندا ، جنوب أفريقيا ، لبنان ، العراق ، أفغانستان ، الدول المستقلة عن الاتحاد السوفيتى سابقا ، وحتى فى تونس ومصر ، كلها تقدم دروسا مستفادة ، بل حتى الدول النفطية التى تعرضت لصدمة تدني أسعار النفط استطاعت أن تتكيف مع الموقف وأقرت السياسات الاقتصادية المناسبة وطبقتها دون أن يثار حولها جدال أو نقاش فى مستوى النقاش والجدال الذى لا زال دائرا فى الأوساط الليبية.
ومن أهم المسائل التى تقع ضمن القضايا العامة والتى لم يستطيع الليبيون حسمها فى حواراتهم المتعددة ولقاءاتهم على كافة المستويات والصعد، على سبيل المثال ما يلى :
– أيهما يأتى أولا تحقيق الأمن واستقراره أم تحقيق التنمية ؟
– أيهما يأتى أولا الاستقرار السياسى أم الاستقرار الاقتصادى ؟
– هل قيام الدولة يأتي أولا أم يمكن القيام بوظائف الدولة حتى فى غيابها ؟
– هل خلق فرص العمل والإنتاج أولا أم تعيين كل من يبحث عن عمل فى القطاع العام ؟
– هل يكتفى بتشكيل حكومة مصغرة لإدارة الأزمة أولا أم تشكيل حكومة تتكوًن من كل الوزارات مهما كان عددها ، أساسها المحاصصة ، رغم عدم إمكانية تحقيق الاستفادة القصوى منها ورغم ما ترتبه من تكاليف وأعباء لا تتناسب مع الموارد المتاحة و الظروف الاقتصادية التى تمرً بها البلاد ؟
– هل نقيم محطات جديدة لتوليد الكهرباء أم نقوم باستكمال القائم منها وصيانة الوحدات المتوقفة عن الإنتاج ؟
– هل إعادة بناء مراكز الشرطة وتفعيل دور الأجهزة الأمنية يأتي أولا أم بناء المحاكم والسجون والنظر فى القضايا وتطبيق القانون ؟
– هل نعد دستوراً للبلاد ونعتمده أولاً أم ننتخب رئيساً للبلاد ومجلس تشريعى حتى فى غياب الدستور ؟
– هل وضع رؤية للبلاد والعمل على تحقيقها وفقا لاستراتيجية محددة كفيلة بإخراج الوطن من المأزق الذى يعيشه هو المطلب الأول أم تقنين الأمر الواقع ( اقتصاديا واجتماعيا ) واعتباره أنموذجا يمكن أن تتطور من خلاله البلاد يعتبر الخيار الأفضل ؟
إن ما يجرى فى ليبيا اليوم دليل على أن الخيارات التى تم تبنيها لم تكن صائبة ، وأن الأولويات لم تكن فى تراتبيتها الصحيحة ، إن أداء المؤسسات والأساليب المتبعة فى إعداد برامج الإنفاق السنوية ، والسياسات الاقتصادية المطبقة ، وكيفية التعامل مع ما يستجد من مشاكل ومختنقات يدل على غياب الرؤية الواضحة و عدم اتباع أساليب إدارة الأزمة واللجوء الى اتخاذ بعض القرارات العشوائية لمعالجة المشاكل المتجذرة فى الاقتصاد الوطنى ، وغياب التنسيق بين مؤسسات الدولة بل عدم استيعاب وتقدير حجم المشكلة التى تمر بها البلاد وتداعيات ما يتخذ حيالها من سياسات وإجراءات على مستقبل الأجيال القادمة.
أكثر من 300 مليار دينار تم إنفاقها وأكثر من 180 مليار دولار تم صرفها منذ عام 2011 لم تولد أية قيمة مضافة تذكر للاقتصاد الوطنى ، وتم تمويل نسبة كبيرة منها بالاقتراض من المصرف المركزى ، التزامات كبرى تم ترتيبها هى في الواقع عبء على كل مواطن ودين فى عنقه وعلى حساب مستقبل الأجيال القادمة.
إن الترتيبات التى اعتمدت أثناء المراحل الانتقالية التى شهدتها ليبيا ، والصراع الذى شهده الهلال النفطى وما صاحبه من إضاعة فرصة تحصيل أكتر من 100 مليار دولار وما ترتب عليه من استخدام الاحتياطيات ثم اللجوء إلى خلق مؤسسات سيادية متوازية فى ظل الانقسام السياسي والأساليب والأنماط التي اتبعت في إدارة المال العام ، وعدم تحديد المركز المالي العام للدولة لعدة سنوات ، وتهريب الوقود والسلع , وعدم السيطرة على الحدود ، وتعاظم دور اقتصاد الظل ، هي أمور أرهقت الاقتصاد الوطنى ، وزادت من حدة المعاناة التى يعيشها المواطن فى كل مكان وضيعت فرصا كثيرة على الاقتصاد الوطني ولا زالت ترتب التزامات تؤدي إلى المزيد من الانكماش الاقتصادى ، وولدت تركة ثقيلة سترهق كاهل الاقتصاد وتعيق آفاق التنمية الاقتصادية والاجتماعية فى المستقبل.
ليبيا غنية بالموارد الطبيعية ، هذا صحيح ، ولكن عندما يساء تخصيص هذه الموارد ويستمر الاقتصاد غير متنوع تصبح هذه الموارد نقمة ، وعلى نطاق أضيق نجد تباين فى الاّراء ، وخلافات قائمة بين المؤسسات فى المجال الاقتصادي والمالي وتخبط فى الإجراءات والأفعال وردود الأفعال وجدل حول السياسات الاقتصادية المقترحة ، هناك ميل كبير لزيادة الباب الأول من الميزانية العامة للدولة سنة بعد أخرى ليصل نسبة 65% من إجمالى الميزانية ، وتباين فى المواقف ووجهات النظر حوله ، حتى بين بعض الاقتصاديين أنفسهم ، وكأنه لا توجد معايير ولا نظريات ولا منهجيات ولا تجارب ولا خبرات تحكم هذا المجال وتنظم أساليب البحث فيه منذ ظهور كتاب ثروة الأمم ومقدمة ابن خلدون إلى يومنا هذا وما عرفه وخبره علم المالية العامة والاقتصاد من تطور فى مدارسه الفكرية والوقائع التى عرفها تاريخ اقتصادات مختلف الدول القديمة منها والمعاصرة وكيف تعاملت مختلف الدول مع مشاكلها الاقتصادية والأزمات التى مرت بها بما فى ذلك التجارب المعاصرة التى خبرتها بعض الدول التى تمت الاشارة اليها والتى مرت بظروف مماثلة للحالة الليبية وبالرغم من الدراسات التي نفذت وورش العمل حول مختلف الموضوعات التي نظمت تحت إشراف برامج بعثة الأمم المتحدة للدعم فى ليبيا والبنك الدولى.
لا بأس أن تتباين وجهات النظر ولا عيب فى أن نجتهد أو نختلف بهدف التطوير وإثراء البحت والنقاش ، ولكن دائماً يجب أن تكون هناك مرجعية يحتكم إليها ودراسات معتمدة لدى مؤسسات الدولة يتم اللجوء إليها و تطبيق ما تحتويه من سياسات وتوصيات التى يعدها الخبراء والمختصون وبيوت الخبرة و التى يجب أن ترجح على غيرها من الاّراء ووجهات النظر غير الناضجة أو تلك التي تعكس مصالح شخصية ضيقة ، وأن تتحمل المؤسسات مسؤولياتها عن ما تطبقه من سياسات، وهو ما لا يحدت فى ليبيا !
ولا بأس فى توجيه انتقادات للسياسات والبرامج المقترحة بهدف تطويرها وإثراءها ، ولكن من غير المقبول وغير مجدٍ ولا ينبغي أن تكون المقترحات والانتقادات متأثرة بالمواقف المسبقة لأصحابها والاتجاهات السياسية والمشاكل الشخصية والإحباطات التى يتعرض لها من يدلى بها ، أو تكون بعيدة عن الحياد والموضوعية ، وفى الغالب تَكُون البرامج والدراسات التى تعدها المؤسسات و مراكز الأبحاث هى نتاج لجهود جماعية ومبنية على بيانات ومعلومات موثقة ويمكن تداولها بين الحكومات المتعاقبة ولا ترتبط بشخوص من قام بإعدادها أو القائمين عليها ، فالمؤسسات باقية والشخوص متغيرون ، وهى أيضا لا ينبغى أن تكون جامدة أو مرتبطة بفترة زمنية محددة بل يمكن تطبيقها والاستفادة منها في فترات زمنية لاحقة بعد تحديث بياناتها طالما كانت منهجيتها صحيحة ومتى ما توفرت متطلبات التطبيق وطالما ظلت المشاكل الاقتصادية التى تستهدفها قائمة.
والملاحظ أيضا عدم الاستفادة من الدراسات الاقتصادية السابقة والمعرفة المتراكمة حول مختلف الموضوعات والمشاكل التى يتم بحثها ، حيث نجد أن كل من يعد دراسة حول موضوع معين أو مشكلة اقتصادية محددة يبدأ من الصفر ولا يعير كثير اهتمام لنتائج وتوصيات الدراسات السابقة ، وبالرغم من كل ذلك لا نجد مقترحات إضافية أو سياسات جديدة أو بديلة يقدمها أولئك النقاد والمعلقون فى تناولهم للسياسات والبرامج المطروحة اليوم ، كما نلاحظ تداخل كبير وتجاوز واضح في المهام وازدواجية فى الإجراءات على مستوى المؤسسات ، وتنازع غير مقبول حول هذه المهام والاختصاصات ، فكل مؤسسة تلقى المسؤلية على غيرها وتدعي سلامة إجراءاتها وحرصها على المصلحة العامة! ، حتى التناول الإعلامي لهذه الموضوعات لا يخلو من التوظيف المستهجن لما يقال ويكتب ، باستثناء بعض الجهود الفردية المحدودة المخلصة التى تحاول التوفيق وسبر أغوار بعض القضايا وتسليط الضوء عليها بشكل محايد ، وتضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار ، الكل يدعي وصلا بليلى .. وليلى لا تقر لهم وصالا ، ولو علمت بما يحكيه عنها .. لشقت صدرها وأتت وبالا.
هناك آراء تقول بأن المشكلة فى ليبيا هى مشكلة سياسية بامتياز وليست اقتصادية ولا مجال للتغلب على المشكلة الاقتصادية إلا بعد الوصول إلى حل للمشكل السياسى فى ليبيا ، وهناك من يرى عكس ذلك ، وهناك من يقدم برنامجا متكاملا للإصلاح كفيل بالتغلب على المشاكل الرئيسية والخروج من الأزمة ويأخذ فى الاعتبار كل المتغيرات الاقتصادية ، وهناك من يطالب ببرنامج جزئي صغير بغض النظر عن التشابك القائم بين مختلف المتغيرات الاقتصادية ! كمن يدعو إلى الاستمرار في وصف المسكنات ويستمر فى تعاطيها لمرض عضال يستوجب إجراء جراحة سريعة لإنقاذ المريض من الموت! ، حلول تلفيقية تغض النظر عن أصل المشكلة وتهتم بالأعراض والمضاعفات فقط ، بل صار ديدن البعض الاستهزاء والسخرية مما يعرض من مقترحات وبرامج حتى التوافقية منها دون أن يقدم بديلا مقنعا قابلا للتطبيق ، وهناك من يوظف السياسات المقترحة والمعلنة للنيل من خصومهم ، وبشكل غير مسؤول وفى تناول غير مسبوق للقضايا على درجة كبيرة من الأهمية والتى يهتم بها ويتأثر بها الجميع.
ومن الأمثلة على القضايا التى لا زالت تشغل بال الكثيرين وتختلف وجهات النظر حولها، بالرغم من تناولها فى برنامج الإصلاح الاقتصادى والمالى المنوه عنه ، تلك القضايا والمشاكل الاقتصادية والمالية والتجارية القائمة اليوم والأسئلة المطروحة حولها والحلول أو السياسات المقترحة حيالها ، ومن بينها ما يلي :
– هل تغيير سعر صرف الدينار الليبي يأتى أولا ام معالجة دعم المحروقات هو الأولى بالاهتمام والمعالجة ؟
– هل نقوم بتغيير سعر صرف الدينار الليبي أو تصحيحه أم نقوم بتعويم الدينار الليبي ؟
– هل طباعة المزيد من العملة الورقية يفاقم مشكلة التضخم أم أنه إجراء عادي يمكن القيام به دون أن يرتب اَية تبعات ، فى إطار نظرية الغاية تبرر الوسيلة .
– هل يتم تغيير سعر الصرف ومعالجة الدعم دفعة واحدة أم أن هناك تسلسلا معينا فى تطبيق هذه السياسات يجب مراعاته ؟
– هل الأفضل رفع الدعم أم الأفضل استبدال الدعم ؟
– هل مشكلة السيولة القائمة اليوم هى مشكلة نقدية أم مشكلة مالية ، وهل هى سبب أم نتيجة ؟
– هل الأفضل استيراد السلع باستخدام الاعتمادات المستندية أم الأفضل استيرادها باستخدام المستندات برسم التحصيل ؟
– هل ندعم قطاع النفط ونعمل على زيادة معدلات إنتاجه والابتعاد به عن الصراعات والخلافات السياسية ولو مرحليا ، أم نوقف إنتاج النفط إلى أن نصل إلى الوضع الذي يضمن توزيعا عادلا لإيراداته ، يرضى عنه الجميع ؟
– هل يتوقف القطاع العام عن ممارسة كافة أوجه النشاط الاقتصادي والتجاري ويترك هذا بالكامل للقطاع الخاص ؟ أم الأفضل أن تكون هناك شراكة استراتيجية وطنية بين القطاعين حتى يمكن التغلب على مختلف المختنقات التى تواجه الاقتصاد الوطنى ولو مرحليا ؟.
– هل نستمر فى إقرار ميزانيات عامة للدولة بالعجز دون التفكير فى كيفية تمويل هذا العجز ، أم أن الصرف يكون على قدر المتاح من الموارد ؟
– هل نستمر فى ترجيح كفة النفقات الجارية على حساب الإنفاق التنموي الاستثماري فى الميزانية العامة للدولة وعلى نحو مضطرد أم نعيد النظر فى أسس وسياسات إعداد هذه الميزانية أولا ؟
– هل نصلح حال المؤسسات ونعيد بنائها ونصلح من التشريعات المنظمة لأعمالها أولا أم أن الأهم هو تغيير القائمين عليها ؟
– هل التصرف واتخاذ القرارات التي تهدف إلى معالجة المشاكل والمختنقات في ظل الظروف الاستثنائية التى تمر بها البلاد يمكن قبوله وتبريره حتى وإن تم بالمخالفة للقانون ؟ أم أن الالتزام والتقيد بتطبيق القانون هو الأهم حتى وإن أدّى ذلك إلى إعاقة تطبيق بعض الحلول المطروحة للحد من هذه المشاكل وتفاقمها ؟
– هل نرجح كفة المصلحة العامة عندما تصطدم ببعض المصالح الخاصة أم أن المصالح الخاصة دائماً فوق كل اعتبار أو العكس ؟
– هل ينبغى توجيه الجهود للبدء في بناء اقتصاد إنتاجي متنوع يقوم فيه الأفراد الخواص وقطاع الأعمال الخاص بدور أساسي يساهم فى تمويل الميزانية العامة للدولة وتنمية مصادر الدخل من خلال تقديم التسهيلات اللازمة للقطاع الخاص وإزالة المعوقات التى تحد من نشاطه ؟ أم يتم تسخير كل الموارد المتاحة في المحافظة على استمرار نمط النشاط التجاري الاستهلاكي وإن كان ذلك على حساب مدخرات المجتمع وتدهور احتياطياته ؟
– هل نستخدم سياسة تغيير سعر الصرف كوسيلة لتمويل الإنفاق بالميزانية العامة وسد العجز القائم بها ، ولو تطلب ذلك تغيير سعر الصرف من سنة إلى أخرى بل من فترة زمنية إلى أخرى حسب أحوال إنتاج النفط وأوضاع الميزانية العامة للدولة ، فى مخالفة صريحة لما أجمع عليه من أفضل نظم الصرف للاقتصادات التى تعتمد على تصدير سلعة واحدة مثل النفط ، ووفقا لأفضل الممارسات وما تمليه اعتبارات الاستقرار الاقتصادي ، وبصرف النظر عن آثار مثل هذه السياسة على المتغيرات الاقتصادية الكلية ؟ أم الأجدى استخدام السياسة المناسبة لعلاج المشكلة المناسبة ؟
– هل يمكن أصلا رسم وتطبيق أية سياسة اقتصادية ( مالية أو نقدية أو تجارية ) وضمان تحقيق أهدافها فى ظل وجود وزارتين للمالية ومصرفين مركزيين ، بل وجود حكومتيْن لا تعترف أيّ منهما بالأخرى ؟
– هل الأجدى بدل المزيد من الجهد لتوحيد المؤسسات المالية وفى مقدمتها وزارة المالية والمصرف المركزى ، وتفعيل دور مجلس إدارته ، بعيدا عن الاعتبارات السياسية ، أم الاستمرار فى العمل على تقوية أحد المؤسستين على حساب الأخرى بغض النظر عن المخاطر التى يرتبها هذا التوجه على الاستقرار المالي والاقتصاد الوطنى برمته ؟
– هل تقع مسؤولية الإصلاح الاقتصادي على جهة واحدة فى ليبيا أم أن الإصلاح يجب أن يكون شاملا وتتحمل كافة مؤسسات الدولة ، التنفيذية والتشريعية مسؤولياتها فى تنفيذه كلا حسب اختصاصه؟
هذه القضايا يجب أن تكون محسومة ولا جدال حولها ، حيث لم تعد تشغل بال المحللين والنقًاد والمؤسسات فى الدول الأخرى ، على سبيل المثال استطاع المصريون تنظيم الدعم باستخدام البطاقات الالكترونية لأكتر من مائة مليون مواطن ونحن نعجز عن تنظيمه لأقل من سبعة ملايين مواطن! ، ولكن فى ليبيا هناك تباين كبير فى الاّراء حول هذا الموضوع وتردد واضح لدى الحكومة فى الخوض فيه رغم الهدر الكبير فى الموارد المترتب عليه ورغم أن الدراسات التى أعدت حوله قدمت الإجابة على الأسئلة المتعلقة به وكيفية معالجته ، وينطبق نفس القول على موضوع سعر الصرف ، ولكن يبدو أنه لا قيمة ولا اعتبار للدراسات ولا أهمية لبناء المؤسسات ودورها (الكل يتحدث عن دولة القانون والمؤسسات ولا يقيم لها أركاناً).
ألم تعد دراسة شاملة نفدها مجلس التخطيط الوطني مند عام 2013 قيمّت السياسات الاقتصادية التى طبقت في السابق وقدمت مقترحات بالسياسات الاقتصادية المناسبة فى ليبيا بعد عام 2011 ، ثم أعدت بعدها دراسة أخرى قامت بها لجنة مكلفة من قبل الحكومة فى عام 2015 ، وأخيرا برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي الذى أعده أكثر من ثلاثين خبيرا ومتخصصا ، والذى هو نتاج لجهد مشترك بين خبراء كلفهم المجلس الرئاسى وخبراء من مصرف ليبيا المركزى فى أواخر عام 2017 ، هذا غير أوراق العمل التى قدمها خبراء ليبيون وخبراء من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي حول المشاكل الاقتصادية القائمة اليوم وكيفية الخروج منها ، بل أن الدراسات التى تناولت حالة الاقتصاد الليبي وأوصت بإعادة هيكلته ووضع سياسات على المدى البعيد لتنويعه كانت قد أعدت مند التسعينيات من القرن الماضي.
كل هذه الدراسات اتفقت فى تشخيص المشكلة ووضعت لها الحلول والسياسات المناسبة ، وبها إجابات على كل الأسئلة المطروحة وتتضمن مفاضلة واضحة بين مختلف بدائل السياسات الاقتصادية الممكنة ، وحذرت من الغلو فى اتباع بعض السياسات وحددت الآثار المُحتملة على مختلف المتغيرات الاقتصادية فى حال تطبيق اَي من السياسات المطروحة ، وبالرغم من ذلك لا زالت الخلافات مستمرة والأفكار والمقترحات تتطاير بين مد وجزر ، والمشاكل قائمة وتزداد تعقيداً يوما بعد يوم ، وعوضا عن البحث فى السبل والوسائل الكفيلة بتنفيذ هذه السياسات وتدليل الصعاب التى تحول دون تنفيذها يستمر تفنيد هذه السياسات المقترحة والتشكيك في جدواها والتقليل من أهميتها وانتقادها دون تقديم سياسات بديلة قابلة للتنفيذ.
ألم نوجد بأيْدينا مصرفين مركزيين ووزارتين للمالية و وزارتين للاقتصاد ومؤسسات سيادية وهيئات عامة موازية ، بل حكومتان لا تعترف أيّا منهما بالأخرى في إجراء غير مسبوق بدولة ترفع علما واحدا ، لا بل لا يوجد تنسيق أو تعاون بين هذه المؤسسات والثقة تكاد تكون معدومة بينها ، ولكل منها رأيه فى السياسة الاقتصادية والسياسات العامة المناسبة لمعالجة الأزمة القائمة ، وتنكر كل منهما على الأخرى أية مبادرات لحل المشاكل الراهنة ، ناهيك عن الفساد المستشري فى كافة المرافق والذى أصبح ثقافة وسمة من سمات هذا المجتمع !
وهناك تباين فى وجهات النظر حول تسلسل تطبيق مختلف السياسات وأولوياتها رغم آراء الخبراء والمختصين الليبيين منهم والدوليين على حد سواء ، فكيف نستغرب أو نحتج على التضخم أو تدهور القوة الشرائية للدينار الليبي أو استفحال السوق الموازية أو أزمة السيولة أو نقص المعروض السلعي أو تضخم الكتلة النقدية أو ضياع فرص استثمار الأموال والأصول الليبية فى الداخل والخارج أو تضخم بند المرتبات بالميزانية العامة للدولة أو استفحال الدين العام أو عدم وجود قطاع خاص وطني أو الانكماش الاقتصادي الذى طال أمده وحتى الإجراءات الدولية التى صارت تتخذ من وقت لآخر حيال بعض المؤسسات الليبية.
إن الأساليب المتبعة في تناول مختلف القضايا التى تشغل الرأى العام اليوم تبين بوضوح وجود أزمة ثقة وأزمة نخب وتباين كبير فى الاّراء حول مختلف القضايا السياسية والاقتصادية بين النخب و السياسيين ومن يتبعهم ، و تشير إلى وجود أزمة تحليل اقتصادى ، بل أن الاختلاف يصل إلى درجة تسفيه بعض الاّراء المؤسسة على دراسات وأبحاث وبيانات إحصائية معدة من قبل خبراء وجهات مختصة ومسؤولة ويتم ترجيح آراء أخرى قد تكون لاقت هوى فى نفوس البعض دون أن يسندها منطق اقتصادي ولا علمي يأخذ فى الاعتبار كل الآثار والتبعات الاقتصادية على مستوى الاقتصاد الكلي و يحقق المصلحة العامة ، فى جدل عقيم لا يستند إلى علم أو منطق.
بذلك ضاعت الحقيقة بين مؤيد ومعارض ( بحسن نية أو خلافه ) وتستمر المشاكل والمعاناة التى يواجهها المواطن كل يوم! ، حقا إن بعض الليبيين يريدون اختراع العجلة ، حيت لم يعد للتخصص أهمية ولا للتجربة والدروس المستفادة دور ، والبديهيات والمسلًمات العلمية والمنطقية صارت محل خلاف وجدل.
الكل ، باستثناء المواطن البسيط ضحية هذه الخلافات ، يحمًل مسؤولية الفشل للآخر رغم أن الكل يساهم فى تعميق هذه الخلافات ، من حيث يدري أو من حيث لا يدري ، وفى الحقيقة كلًهم مسئولون ، فلماذا التعجب مما نحن فيه ؟ بالتأكيد لن يخترع الليبيون العجلة وإن اخترعوها فستكون عجلة مربعة !
ويحضرني فى هذا المقام قول الشاعر :
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم .. ولا سراة إذا جُهالهم سادوا
والبيت لا يبتنى إلا له عمد .. ولا عماد إذا لم ترسَ أوتاد
فإن تجمع أوتاد وأعمدة .. لمعشر بلغوا الأمر الذى كادوا
فلينتبه الجميع قبل فوات الأوان !!