كتب: د. عبدالله ونيس الترهوني – أخصائي اقتصاديات النقل
يُعد البحث العلمي أحد أهم ركائز التنمية، كما أنه السمة البارزة للعصرالحديث، فأهمية البحث العلمي ترجع إلى أن الامم أدركت أن عظمتها وتفوقها يرجعان إلى قدرات أبنائها العلمية والفكرية والسلوكية، فالبحث العلمي ماهو إلا إستقصاء منهجي يهدف لزيادة مجموع المعرفة، أوأنه الوسيلة المثلى للوصول الى الحقيقة النسبية وإكتشاف الظواهر ونسبة الارتباط بينها، وبالتالي فإن البحث العلمي ليس مقتصراً على التجارب المعملية أو الحقلية أو الميدانية كما يظن البعض بل يشمل أيضاً الأحداث اليومية لحياة الانسان، وبذلك أُنشئت المؤسسات البحثية في العصر الحديث لتحقيق أهداف ومهام متعددة، ويعمل في هذه المؤسسات حول العالم ما يقارب 4,3 مليون باحث، أي بمعدل 3.1 باحث لكل ألف من القوى العاملة، وأن دول العالم قد أنفقت في السنوات الأخيرة مانسبته 1.2 % من إجمالي الدخل العالمي على مجالات البحث العلمي، في حين قُدر إنفاق الولايات المتحدة الامريكية واليابان والاتحاد الاوروبي على البحث والتطوير مايقارب 417 مليار دولار، وكانت سويسرا قد أعلنت نهاية فبراير 2020 عن تخصيصها لمبلغ يزيد عن 28.6 مليار دولار للبحث العلمي وللتعليم التقني في السنوات الاربعة المقبلة وبزيادة 2% عن نفس الفترة التي سبقت هذا الاعلان، وفي المقابل فإن نسبة الإنفاق المحلي الإجمالي للدول العربية على البحث والتطوير إلى الناتج المحلي الإجمالي لا تزال ضعيفة جداً، فمع نهاية العام 2015 بالكاد تصل هذه النسبة إلى 1% من إجمالي الإنفاق المحلي، كما أن كل المؤشرات تدل على إستمرار ضعف الجامعات والبحث العلمي في الوطن العربي، مع وجود مشكلات حقيقية تعيق تطورها وإنتاجها المعرفي ومساهمتها الضرورية في التنمية والإبداع، وهذا ناتج بشكل مباشرمن الدعم والتمويل الحكومي لها، والذي يتجاوز نسبة 85%، وفي مقابل ذلك وبرغم أنها أول المستفيدين من نتائج الابحاث والابتكارات إلا أنه القطاع الخاص يساهم بنسبة ضئيلة ولاتزيد عن 3% في تمويل البحث العلمي ومشاريع الابتكار والتطويرفي الوطن العربي، ولنأخذ شركة سامسونج العالمية الرائدة كمثال على حجم تمويلها للبحث والتطوير، ففي العام 2019 وحده صرفت أكثر من 16.5$ ملياردولار، كما أنها تخطط لصرف 110 مليار دولار خلال العشر سنوات القادمة على البحث في مجال الرقائق الالكترونية فقط ، ومن الملاحظ أن السواد الاعظم من البحوث العربية تعالج مشكلات محلية أوآنية، وأن الانتاجية في الدول العربية هي الاخرى متدنية ولاتساعد بدورها على البحث العلمي والابتكار، وبلغة الارقام فإن ما مجموع ماتم صرفه على البحث العلمي في البلدان العربية بنهاية العام 2015 من أصل الإنفاق العالمي والذي بلغ 1477 مليار دولار هو 15 مليار دولار فقط ، وأن نسبة الباحثين العرب إلى عدد السكان هي اقل من 2% ، وأن مجموع مانشروه خلال نفس السنة بلغ مايقارب 30.000 بحث علمي وهو لايتجاوز نسبة 2.5% من مجموع ماينشر حول العالم سنوياً، وبالتالي يتضح من هذه الارقام أهمية ودور الباحثين والجامعات ومؤسسات البحث العلمي في تنمية وتطوير المجتمعات والاقتصادات الوطنية والصناعات وابتكار التقنيات والاختراعات، في حين عزى البعض ضعف إنتاجية الباحثين العرب إلى عدة أسباب نذكر منها:
1 .عدم قناعة معظم الحكومات العربية بجدوى الابحاث العلمية في رفع مستوى الانتاجية، والدخل القومي، ودخل الفرد.
2.عزوف القطاع الخاص بشكل شبه كامل عن إجراء أو تمويل البحوث العلمية والابتكارات، وعدم الايمان أو الثقة بجدوى البحث العلمي في دعم الانتاج وتطوير الاقتصاد والحياة الاجتماعية.
3 .إنعدام شبه تام للإستراتيجيات والسياسات الحكومية في مجال البحوث والابتكارات والذي مرده إلى إنعدام التخطيط الجيد للبعثات العلمية والايفاد إلى الخارج رغم التكاليف الباهضة التي تتحملها بعض الدول العربية.
4 .عدم توافر التجهيزات والوسائل العلمية الجيدة والمتطورة في مراكز البحوث والجامعات في أغلب الدول العربية، كما أن المتوفر منها لايستفاد من بعضه بالشكل المرجو أو المطلوب.
5 .هجرة العلماء العرب إلى خارج أوطانهم إلى الدول المتقدمة، وهذا ناتج عن عدم الاهتمام بالباحث العربي وضعف دخل الباحث (ناهيك عن الطبقية)، وعدم تأمين مستلزمات العيش الكريم للباحث ولاسرته، وإلى عدم توفر جو علمي يكون بعيداً عن الروتين والبيروقراطية.
واقع الجامعات العربية
لا يمكننا الحديث عن البحث العلمي دون الحديث عن أساسه وهي المراكز البحثية والباحثين والجامعات وأعضاء هيئة التدريس الجامعي، فبحسب تصنيف QS لأفضل 1000 جامعة حول العام بنهاية العام 2019 فإن 41 جامعة فقط في الوطن العربي قد شملها هذا التصنيف، والذي إشتمل في الاساس على 6 معايير وهي : السمعة الاكاديمية للجامعة والتي تحوز لوحدها على نسبة 40% من اجمالي درجات التقييم الكلية للتصنيف، وسمعة اصحاب الاعمال لخريجي الجامعة 10%، ونسبة اعضاء هيئة التدريس الى الطلاب 20%، والاستشهادات لكل كلية في البحوث العلمية في مجلات محكمة 10%، ونسبة اعضاء التدريس الاجانب 5%، ونسبة الطلاب الاجانب 5%، وبحسب تصنيف QS لأول 25 جامعة عربية من أصل 41 جامعة عربية شملها التصنيف يمكننا القول أنها كانت متفاوتة وكانت أفضلها جامعة الملك فهد بالسعودية والتي جاءت في الترتيب 289 عالمياً والاولى عربياً، وجامعة البحرين في المركز 25 عربياً و 801 عالمياً، فيما جاءت جامعتي الملك سعود وعبدالله في المركزين الثالث والرابع عربياً، في حين جاءت جامعة الامارات في المركز الخامس عربياً، وجامعات خليفة والشارقة وزايد في المراكز 15و 18 و 22 على التوالي، في حين جاءت جامعة قطر في المركز السادس ، وجاءت الجامعة الاردنية في المركز 9 وجامعة السلطان قابوس في المركز 10، وجامعات القاهرة والاسكندرية وعين شمس في المراكز 11 و 12 و 13 توالياً.
ليبيا وقاطرة البحث العلمي
من ناقلة القول أن قلة قليلة جداً هم من يعون دور وأهمية البحث العلمي في ليبيا، وفي المقابل يرى البعض أن نتائج البحث العلمي قد لا تكون (واقعية) أي غير متماشية مع الواقع في ليبيا ولأسباب يطول شرحها، وكل هذا على الرغم من استحداث هيئة للبحث العلمي وأخرى للتعليم التقني وانتشار الجامعات أفقياً في طول البلاد وعرضها، وتخصيص باب كامل في مشروع الميزانية السنوي للتنمية بنوعيها المكانية والبشرية وعلى مدار عقود (الباب الرابع من الميزانية خصص له في سنة 2019 مبلغ 7 مليار في حين كان المبلغ 13 مليار في سنة 2013)، فالبون شاسع بين ليبيا وبين بعض الدول العربية في جانب البحث العلمي، على الرغم من أن ليبيا لا ينقصها الموارد ولا العقول، وبالتالي يمكننا القول أن قاطرة البحث العلمي في ليبيا قد تآكلت بسبب توقفها الطويل وهي بحاجة لمن يدفعها، وبالعودة لتصنيف الجامعات فإن تصنيف QS السالف الذكر لم يضم أي جامعة ليبية، وفي المقابل فإن تصنيف WEBOMETRICS لجامعات العالم للعام 2020 صنف 30 جامعة وكلية ليبية بناءً على أربع مؤشرات، وجاءت فيه جامعة بنغازي على رأس الجامعات الليبية في المركز 3902 عالمياً والمركز 150 على مستوى قارة أفريقيا، تلتها جامعة طرابلس في المركز 4179 عالمياً و 163 على مستوى القارة، ثم جامعة مصراتة في المركز 4686 عالمياً و 190 على مستوى القارة، ثم جامعة سبها في المركز 5195 عالمياً و 209 على مستوى قارة افريقيا، في حين جاءت أكاديمية بنغازي في المركز ال 30 والأخير ضمن الجامعات الليبية وفي المركز29381 عالمياً ، والمركز 1148 على مستوى القارة، وتظهر هذه الأرقام مدى الحاجة للنهوض بالتعليم الجامعي والبحث العلمي في ليبيا ليجاري على الأقل نظيره في الدول العربية، فليبيا لا تفتقر للموارد ولا العقول كما أسلفت، ولكنها في حاجة ماسة لمن يعي أهمية البحث العلمي، كما أنها في حاجة لعدد من السياسات والبرامج التي من شأنها أن تنهض بمستوى التعليم عموماً والبحث العلمي خصوصاً، على أن تشمل على سبيل الذكر لا الحصر ما يلي:
1 -استحداث منظومة مركزية (أيّا كان مسماها أو تبعيتها) لدعم مشاريع البحوث العلمية والابتكار والإبداع.
2 -استقطاب الكفاءات العلمية سواء المهاجرة أو تلك التي فضلت البقاء في البلد الذي أوفدت إليه لأجل دعم الكفاءات العلمية الموجودة في داخل البلاد.
3 -تأهيل البنية التحتية للبحث العلمي ومراكزه المتخصصة وفقاً لبيئة تشريعية وتنفيذية سليمة.
4 -دعم العلماء والباحثين والمبدعين، وتهيئة سبل العيش الكريم لهم بما فيها إقامة المدن العلمية أسوةً بالمدن المنتشرة حول العالم.
5- حث القطاع الخاص على المساهمة في تمويل البحث العلمي والملتقيات العلمية.
اقتصاد المعرفة يقود الاقتصاد الجديد
يأتي معظم الإنتاج في العالم من قطاعات الصناعة والزراعة (الاقتصاد الاصيل) والخدمات (الاقتصاد الجديد أو البديل)، ويلعب الأخير على وجه الخصوص دورًا حيوياً في الاقتصاد العالمي وأكثر بكثير مما يظن البعض، وبحسب تقرير للبنك الدولي فإنه بنهاية العام 2018 مثل قطاع الخدمات حول العالم ما نسبته 65% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ومن الملاحظ أن اكبر الاقتصادات في كل القارات تتصدرها دول يكون قطاع الخدمات هو عمودها الفقري نذكر منها الولايات المتحدة والبرازيل والصين والهند والمانيا وبريطانيا، وبشئ من التفصيل فإن القطاع قد مثل ما نسبته 70-75% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة الأمريكية أي ما يساوي 15 تريليون دولار، وتمثل العمالة به نسبة 79.14% من إجمالي العمالة في الولايات المتحدة، ومن جانب آخر فإن شركات التكنولوجيا والتي تعتمد على عقل الانسان وليس الموارد الطبيعية هي أكبر الشركات حول العالم ومنذ سنوات نذكر منها على سبيل المثال شركة قوقل وشركة أمازون وشركة ميكروسوفت وشركة أبل وكلها شركات أمريكية، بالاضافة إلى شركتي سامسونج الكورية وهواوي الصينية.
في الختام ..
أرى ضرورة النهوض بالبحث العلمي في الجامعات العربية بهدف توليد المعرفة، وإدماج نتائج المراكز البحثية في الخطط التنموية لأنه هو محركها الرئيسي، بشرط أن تكون نتائجها واقعية وقبل ذلك أن تكون متفهمة لكل المتغيرات والمحركات في الدول العربية، والذي يتم من خلال دعم وتمويل وتعزيز دور الجامعات ومراكز البحث العلمي العربية، والارتقاء بالتدريب كمّاً ونوعاً بل وجعله ثقافة وليس كما هو الآن مجرد عادة.