رغم تعاقب الوزراء وتوالي الحكومات واختلاف المسميات والتبعيات لا يزال ملف البعثات للطلبة الليبيين الموفدين للدراسة في الخارج، أرضا خصبة للفساد ومرتعا لبعض المفسدين والمرتشين الذين باعوا ضمائرهم واستغلوا تواجدهم في مناصب لا يستحقونها، ملف لا يزال يشكل نزيفا للخزينة العامة للدولة وأموال تهدر دون أي طائل يعود بالنفع على البلاد.
وفي هذا الإطار تابعت صحيفة “صدى الاقتصادية” تصريحات وزير التعليم المفوض بحكومة الوفاق الوطني “عثمان عبد الجليل” خلال الأيام الماضية والتي ذكر فيها أن ملف البعثات للطلبة الليبيين الموفدين للدراسة بالخارج يُعدُّ أحد أكثر الملفات فسادا مضيفا أنه وقف شخصيا على تلاعب ورشاوى وتدخلات من إدارة البعثات والملحقين الثقافيين بالسفارات الليبية وغيرها وتجاوزات مالية كبيرة فاقت 200 مليون دولار.
وقال الوزير إن ملف البعثات للطلبة الموفدين للدراسة بالخارج ملف شائك وهو من أكثر ملفات الفساد في ليبيا، وعلّل ذلك قائلا “على سبيل المثال؛ في السنة الحالية 2017 بلغت ميزانية الدولة قرابة 37 مليار دينار، منها قرابة أربعة مليارات لباب التنمية، ومن هذا المبلغ خُصّص مبلغ مليار و170 مليون دينار لقطاع التعليم، أي أن أكثر من ربع ميزانية ليبيا للتنمية هذا العام خصصت للتعليم، لكن قرابة 800 مليون دينار من هذا المبلغ تذهب للطلبة الدارسين في الخارج، فهل حقا كل هذا المبلغ يصرف على الموفدين؟
وأضاف؛ بحسبة بسيطة نجد أن لدينا قرابة أحد عشر ألف طالب ليبي موفد للدراسة بالخارج، مما يعني أن الدولة تصرف ما يعادل 60 ألف دولار على كل طالب سنويا، ولو دققنا في المنح الدراسية الممنوحة نجد أنها تتراوح بين 1500 إلى 2000 دولار على حسب الدولة وقد تصل في بعض الحالات إلى 3000 دولار، ولنأخذ سقفا أعلى للمتوسط 2500 دولار شهريا وهو ما يعادل 30 ألف دولار سنويا، وإذا أضفنا إليهم عشرة آلاف دولار ما بين رسوم دراسية وتأمين صحي وتذاكر، فإن هناك مبلغا مفقودا يصل إلى 20 ألف دولار عن كل طالب، أي مبلغ إجمالي يتجاوز 200 مليون دولار سنويا لا نعرف إلى أين تذهب!
استلام الوزارة وبدء رحلة كشف المستور في ملف البعثات
منذ أن استلم الوزير الجديد “عثمان عبد الجليل” مهامه في وزارة التعليم في الثالث والعشرين من أبريل الماضي خلفا للوزير السابق “محمد العزابي”، فتح ملف البعثات للطلبة الليبيين الموفدين للدراسة بالخارج، وأصدرت الوزارة تعميما للملحقين الثقافيين بالسفارات الليبية بضرورة إحالة تقارير المصروفات للسنوات السابقة وبيان أرصدة وحسابات تلك الملحقيات، وكذلك تقديم كشف بأعداد الطلبة المتواجدين بكل دولة ومجال الدراسة والمدة المتبقية لكل طالب.
وقال “عثمان عبد الجليل” : عند استلامنا للوزارة في شهر أبريل كانت مبالغ الربع الأول قد حُولتْ إلى البعثات والمحلقيات الثقافية في الخارج، وكنا بصدد إتمام إجراءات تحويل الربع الثاني، لكننا اكتشفنا تجاوزات كبيرة بالقوائم التي أرسلت والتي كان فيها 1423 طالبا زيادة عن الربع الأول لعام 2017، إضافة لتجاوزات التمديد لأكثر من مرة وشبهة تقديم رشاوى وغيرها من الأمور التي يندى لها الجبين.
إغلاق إدارة البعثات وإيقاف كل التفويضات المالية
أغلقت الوزارة إدارة البعثات وعلّل الوزير ذلك بما اكتشفه من فسادٍ وتجاوزاتٍ ذكرَ أنها تكاد تكون موجودة من أبسط موظف إلى أعلى موظف في الإدارة، مضيفا أن التقارير التي وصلته تشير إلى وجود أشخاص مُدّد لهم لأكثر من ثلاثة مرات وتحويلات بين الساحات وإعطاء أكثر من منحة لنفس الشخص، إضافة إلى الرشاوى وبيع الموظفين في إدارة البعثات لتفويضاتٍ حتى من غير قرارات إيفاد بمبالغ تصل إلى عشرة آلاف دينار وأكثر، وهناك من اتفقوا معه على التمديد لأشهر والبقاء في ليبيا مع اقتسام قيمة المنحة، وغير ذلك من التجاوزات والفساد الذي ينخر عظم ملف البعثات.
كما أصدر وزير التعليم قرارات بإيقاف كل التفويضات المالية للقرارات رقم 25 و26 و27 لعام 2014 والقرارات رقم 1 و2 و3 لعام 2015، وكذلك إلغاء قرارات التمديد والنقل ورسائل الدعم المالي منذ توليه الوزارة، وتمّ تشكيل لجنةٍ لمراجعة تلك القرارات والتحقق منها على أن تظهر نتائج اللجنة في خلال أسبوعيْن إلى ثلاثة أسابيع على الأكثر، واضطررنا إلى تأخير إرسال الربع الثاني للطلبة الموفدين للدراسة في الخارج إلى حين كشف كل التجاوزات.
آراء بعض الطلبة الدارسين في الخارج والمشاكل التي تعترضهم
اعترض الكثير من الطلبة على قرارات الوزارة معتبرين أنهم يعانون الأمرّيْن في الدول التي يدرسون بها رغم صدور قرارات إيفادهم بشكل قانوني، حيث ذكر بعض الطلبة في الساحة البريطانية أن المنح تتأخر لمدة تتجاوز الأربعة أشهر، مما يضع الطلبة في مأزق خصوصا مع الغلاء الشديد في تلك البلدان والالتزامات الكثيرة، إضافة إلى تأخر وصول الرسوم الدراسية في الوقت المطلوب مما نتج عنه إيقاف الطالب عن الدراسة من قبل الجامعات الأجنبية.
وأكد طالب آخر يدرس في ماليزيا أنه لا يزال منذ عام ونصف يصرف من جيبه الخاص رغم أن قرار إيفاده صادر من عام 2013، مضيفا أنه ورغم حصوله على موافقات حتى من ديوان المحاسبة لا تزال إجراءاته معطلة، وأضاف طالب آخر أن الطلبة الليبيين في مختلف الساحات يجدون صعوبة في تجديد التأشيرات لمواصلة دراستهم دون أن يجدوا أي عون من قبل المسؤولين في الدولة الليبية.
واعتبر بعض الطلبة قرارات الوزارة مجحفة لأنها أوقفت منحة كل الطلبة حتى من هم غير مشمولين بالقرارات الموقوفة للمراجعة، واستفسر البعض بالقول من يتحمل نتائج إيقاف المنح والتمديدات ومتى ستنتهي هذه القصة وهل ستصل اللجنة المشكلة إلى حلول في كل المشاكل التي تدّعي الوزارة محاولة إيجاد حلول لها من تفويضات وتمديد وتحويل الساحات وغيرها، واعتبر بعض الطلبة أن الوزارة ظلمتهم بقراراتها،
الإجراءات التي اتخذتها الوزارة بالخصوص
وأكد وزير التعليم بأن الوزارة تولي اهتماما خاصا بالطلبة الليبيين الدارسين في الخارج وتذليل كافة المشاكل والعراقيل التي تعترض مسيرتهم الدراسية في التخصصات كافة وفي مختلف دول العالم، مضيفا أن الوزارة شكلت لجنة مختصة ستدرس بعناية مسألة التفويضات المالية، وما على الطلبة إلا تنفيذ بعض الإجراءات الإدارية لتصحيح بعض الأخطاء التي تسببت في تعطيل التفويضات في السابق.
وأضاف أن الوزارة ستطلب تقريرا لكل طالب من جامعته التي يدرس بها بأنه ما يزال مستمرا في الدراسة، وستعمل على إيجاد الحلول سواء للطلبة المتواجدين في الخارج أو أولئك الذين لا يزالون في ليبيا ينتظرون رسالة التفويض، كما ستمنح الوزارة رواتب الطلبة الذين تعطل إيفادهم كاملة بعد أن كانوا يتقاضون ربع المرتب وذلك إلى حين تنفيذ قرار الإيفاد.
قرار الوزارة بشأن عودة الطلبة الدارسين في الخارج إلى ليبيا
وأصدرت وزارة التعليم قرارا بشأن عودة الطلبة الموفدين للخارج على حساب الدولة الليبية إلى بلادهم بعد إتمام دراستهم ، وأن الطالب الذي لا يرغب في العودة عليه إعادة المبالغ التي صرفت عليه وإلا فإنه سيتم اللجوء للقضاء.
وجدد الوزير الدعوة للطلاب الموفدين إلى الخارج والذين أنهوا دراستهم، للعودة إلى ليبيا ورد الجميل للوطن، مشيرا بصفة خاصة إلى الأعداد الكبيرة من الأطباء في عدد من دول العالم، والذين يحتاجهم أبناء وطنهم خصوصا في هذه المرحلة.
وبعد كل هذه التجاوزات والتصريحات وما تبعها من قرارات وإجراءات، هل ستتمكن وزارة التعليم من قطع دابر الفساد والقضاء على المفسدين ووقف نزيف استغلال المناصب وسرقة المال العام، أم أن كل هذه القرارات لا تعْدُ كونها فورة مؤقتة ويعود بعدها الوضع إلى ما كان عليه؟