| مقالات اقتصادية
“الترهوني”: مستوى معيشة المواطن الليبي بين إرادة الكبير وقرار عقيلة وخطاب الدبيبة!
كتب الخبير الاقتصادي”عبدالله الترهوني” مقالاً :
تناولت في مقالات سابقة الأدوار الإستراتيجية للنفط في ليبيا منذ بداية تصديره قبل نحو 60 عاماً وقلت أنها تنحصر في:- شراء السلم الاجتماعي والذي بدوره حافظ على وحدة البلاد، وتحويل التنمية المكانية والبشرية إلى تنمية موجهة بالموارد حتى وإن لم تكن تنمية حقيقية مثل التي حققتها دول الخليج وكوريا الجنوبية وسنغافورة، كما عمل النفط أيضاً ولسنوات طويلة على ثبات سعر صرف الدينار الليبي أمام العملات الأجنبية.
ولقد أشار الخبراء الليبيون إلى أن العلاقة بين المصرف المركزي ليبيا والاقتصاد الليبي بجناحيه العام والخاص يحكمها مبدأ “Cash Call”،وبالتالي فإن الإصلاح أو إعادة الهيكلة لابد أن يتم في الهيكل، وأن الاكتفاء بالمسكنات وعلاج الأعراض فقط لن يُجدي نفعاً، والأدهى والأمُر من ذلك هو أن استخدام سعر الصرف (منفرداً) وهو أحد أدوات السياسة النقدية الذي سيكون ضرره أكثر من نفعه.
في الأثناء، وبعد أن طلب “الصديق الكبير “بصفته محافظ مصرف ليبيا المركزي منذ العام 2011 وحتى اليوم ومن عقيلة صالح بصفته رئيس مجلس النواب منذ العام 2014 وحتى اليوم فرض رسماً قيمته 27% على مبيعات النقد الاجنبي، والذي قام الأخير غير مشكوراً بإصدار قراراً بالخصوص على الرغم من عدم أحقيته في إصدار هذا النوع من القرارات، ليخرج علينا “عبدالحميد الدبيبة” بصفته رئيس حكومة الوحدة في خطاب مسجل مدته أقل من نصف ساعة ليرد عليهما، وكما كان منتظراً فالخطاب لم يأتي بجديد، وأستشهد هنا بإدراج كل من المرشح الرئاسي “سليمان البيوضي”والإعلامي “أحمد السنوسي” قبل الخطاب بدقائق معدودة، وعن توقعاتهم لمحتوى الخطاب.
وبعد مرور 10 ساعات من خطاب الدبيبة، وكنوع من المناكفة عمم المصرف المركزي منشوراً بتاريخ 19 مارس 2024، والذي حمل الرقم 5/2024 والموجة إلى جميع المصارف التجارية في ليبيا بقبول طلبات شراء النقد الأجنبي بالسعر الجديد، مع أن الصدبق الكبير مُدرك تماماً لعور هذا القرار وأن بطلانه واضح وضوح الشمس، وبحسب المنشور نفسه فإن كل مشترياً يتعهد كتابياً بقبول الشراء بسعر 6.15 دينار/دولار، والتعهد بحد ذاته يُمثل حصانة للصديق الكبير ضد أي قضايا ستُرفع ضده، ولكن من الملاحظ أن المنشور ممهوراً بإمضاء نائب مدير إدارة الرقابة على المصارف والنقد لشؤون الرقابة المكتبية ومتابعة الامتثال وليس السيد المحافظ، وأنه أشار إلى قرار عقيلة صالح ولم يشر إلى كتاب الصديق الكبير بطلب فرض ضريبة من رئيس مجلس النواب.
من نافلة القول أن حكومة الدبيبة ومجلسها الرئاسي قد جاءت بعد توقف إطلاق النار وإستئناف تصدير النفط والموقع في أكتوبر 2020، وبالتالي فإن الطريق كانت مفروشة بالورود لحكومة الوحدة بأن تحكم كامل رقعة ليبيا بالتوازي مع إنتظام تدفق النفط، ومن نافلة القول أيضاً أن الحديث عن رفع الدعم وتخفيض قيمة الدينار الليبي هو ثمرة الإنصات لإملاءات المتدخلين في الشأن العام الليبي وأولهم خبراء صندوق النقد الدولي.
بالعودة إلى خطاب الدبيبة، فإنه كان خطاب شعبوي بإمتياز، وهو استمرار للحرب المعلنة بين القائمتين الرابحة والخاسرة في ملتقى جنيف 2021، ويمكن لأي محلل أن ينسف كلام الدبيبة لسببين إثنين:- الأول هو أن الخطاب جاء كردة فعل على ماقام به الصديق الكبير وعقيلة صالح، كما أنه نوع من التلميع لحكومة الوحدة، والثاني هو تفرد السيد عبدالحميد بالخطاب وإعتماده على بيانات البنك المركزي وصندوق النقد الدولي اللذان لايتبعانه، في الوقت الذي كان فيه من الضرورة أن يتولى وزير المالية وهو الذي يتبعه شرح الإيرادات العمومية والمصروفات الحكومية، وبالمناسبة فإن كل الأعراف جرت أن يقوم وزير المالية في نهاية كل سنة مالية بإيجاز سنوي عن المصروفات الحكومية السنوية لأنه هو المسؤول عن السياسة المالية للدولة.
المثير للإنتباه هو قول الدبيبة أن حكومته قد أنفقت 19 مليار دولار أي 92 مليار دينار ليبي فقط خلال 3 سنوات من أصل 75 مليار دولار إدعى الدبيبة توريدها للخزانة العامة خلال نفس الفترة، في حين تشير إحصائيات المركزي إلى أن إجمالي النفقات في عهد حكومة الوحدة قد تجاوز 87 مليار دولار، وبالعودة للرقم 19 مليار فهو غير صحيح إستناداً إلى نفس المرجع الذي إستخدمه الدبيبة نفسه وهو بيانات المصرف المركزي إلا إذا كان لحكومة الوحدة مصادر تمويل أخرى غير الإيرادات النفطية و/أو من تمويل بعيداً عن حسابات المصرف المركزي، وبشىء من التفصيل فقد أنفقت حكومة الوحدة مبلغ 98 دينار ليبي خلال العام 2023، وأن هذا الرقم لايشمل دعم الوقود، ومبلغ 93 مليار دينار خلال العام 2022 والذي لا يشمل دعم الوقود هو الآخر، ومبلغ 79 مليار دينار خلال العام 2021 عن الأبواب الاربعة بما فيها دعم الوقود، وبالتالي فإن مجموع نفقات حكومة الوحدة خلال 3 سنوات تُعادل 56 مليار دولار، أي أن الفرق بين المصروفات الحكومية وإجمالي ماتم توريده هو مبلغ 19 مليار دولار فقط، ذهبت كلها لتغطية الاستيراد وللأعراض الشخصية خلال 3 سنوات، وهذا الرقم هو أقل بكثير من الواقع، حيث بلغت قيمة إستخدامات المصارف التجارية من النقد الاجنبي خلال العامين 2022 و 2023 هو 16 و 21 مليار دولار على التوالي، وبالتالي فإن المصرف المركزي مُحق إلى حد بعيد في تقريره عندما أشار إلى أن قيمة العجز في النقد الأجنبي بنهاية العام 2023 وحده بلغت 9.9 مليار دولار ، وأنه لامفر من تعويضه من جيوب المواطنين الكادحين مثل كل مرة.
اللافت للإنتباه أيضاً هو أن السيد عبدالحميد الدبيبة خرج قبل أسابيع قليلة وعلى الملأ وطالب بضرورة رفع الدعم عن الوقود بجميع أنواعه واستخداماته معللاً ذلك بأن فاتورة الدعم تسبب ضرراً بالغاً بالاقتصاد الوطني، وعلى النقيض من ذلك تضمن خطاب السيد عبدالحميد الدبيبة القول بأن حكومته قد حققت فائضاً قدره 26.6 مليار دينار بعد أن تم تصفير الدين العام أو الدين الحكومي، وبالتالي فإن سؤالاً هاماً جداً يطرح نفسه وهو: لماذا لم تقم حكومة الوحدة بصرف مرتبات أعضاء هيئات التدريس الجامعي والمعدلة بقانون صادر عن مجلس النواب من هذا الفائض، ثم لماذا لم تقم حكومة الوحدة بصرف حقوق أصحاب المحافظ الاستثمارية والمتوقفة منذ سنوات طويلة من هذا الفائض؟
في المقابل، فإن الدبيبة لم يشر إلى العجز الحقيقي وهو العجز في ميزان المدفوعات بالعملة الاجنبية، وهو في الحقيقة ناقوس خطر لأنه معزز بالارقام والرصيد المنقول من شهر لشهر خلال السنة المالية، وقد بلغ في العام 2023 وحده مبلغ 9.9 مليار دولار بحسب تقرير مصرف ليبيا المركزي، أما تقرير ديوان المحاسبة فأوضح أن الدين العام بنهاية العام 2022 قد بلغ 84.097 مليار دينار.
جاء في خطاب الدبيبة أيضاً أن الاحتياطي النقدى من العملات الاجنبية قد بلغ 84 مليار دولار، وهذا الرقم أخفاه الصديق الكبير على مدى سنوات ، وبالمناسبة فقد كان الاحتياطي النقدى من العملات الاجنبية عند 124 مليار دولار مطلع العام 2011، وأن الاحتياطي النقدي ليس هو نفسه الاصول الاجنبية، كما أشار الدبيبة إلى شراء مصرف ليبيا المركزي لكمية 27 طناً من الذهب منتصف العام 2023، وهي خطوة جيدة تحسب للمركزي، وبذلك يكون إجمالي احتياطيات الذهب في المصرف المركزي الليبي 147 طنًا.
من جانب آخر، يعزو الصديق الكبير فرض رسماً على السعر الحالي للصرف وبمعدل 27% تحديداً الى أن المصرف المركزي لايستطيع أن يدافع على المستوى الحالي لسعر الصرف الرسمي وهو 4.84 دينار/ دولار مع زيادة الطلب على الدولار بالتوازي مع الانفاق المنفلت في طول البلاد وعرضها، ومع الفاتورة الباهضة لدعم الوقود ((وغير المحدد برقم خلال آخر عامين))، وأوضح الصديق الكبير أن إستمرار شراء الدولار الامريكي بالوتيرة الحالية سيرفع من سعره في السوق الموازي إلى 8 دينار/ للدولار، وسيكون هناك مساحة للتربح من فروق الاعتمادات بين سعر 4.84 و 8 دينارات، ناهيك عن التضخم الذي سحق جيوب وأرصدة الطبقتين الوسطى والفقيرة، وفي كل الاحوال فإن هذه الخطوة منفردة سيكون ضررها أكثر من نفعها، ولعل أول المستفيدين منها هم كبار التجار ومهربي الوقود الذين سيجنون أرباحاً أكثر من ذي قبل.
مع بدء تنفيذ السعر الجديد للدولار في ليبيا شاملاً الرسم، فإنه من البديهي أن يذهب العائد من فرض هذا الرسم إلى الحكومة لتنفقه، ولكن أي من الحكومتين سيوجه لها الصديق الكبير الاموال؟ وفي كل الاحوال فإن فرض الرسم لن يؤدي إلى خفض الطلب على العملة الاجنبية، ولن يؤدي إلى إختفاء السوق الموازية بل على العكس سيزيد من حدتها، وأن فرض الرسم سيؤدي إلى زيادة الغلاء ( التضخم) وبمعدلات أكثر من ذي قبل، وهذا يعني بالضرورة زيادة عدد الفقراء في ليبيا، فعلى سبيل المثال: مرتب مواطن متقاعد يعول زوجته وابن واحد فقط سيجعلهم وفقاً للسعر الجديد للدولار تحت خط الفقر الذي حدده البنك الدولي، وليصبح الحد الادنى للمعاش التقاعدي في ليبيا وهو 900 دينارمعادلاً ل 146 دولار امريكي أي 4.8 دولار أمريكي للثلاث أفراد مجتمعين يومياً.
إن الحل نظرياً يكمن في وجود حكومة مصغرة تحكم كامل البلاد، مع مواصلة العمل بالسعر الذي أقره مجلس ادارة المصرف المركزي في نهاية العام 2020 وذلك من خلال ضخ عملة أجنبية في السوق بالتوازي مع ضرورة سحب بعض إصدارات العملة المحلية من التداول، أي خفض المعروض من الكتلة النقدية بالدينار الليبي والبالغة 141 مليار دينار ليبي بنهاية العام 2023 والتي يوجد منها 43 مليار دينار خارج البنوك، والتقشف في الانفاق الحكومي الذي يشمل إغلاق السفارات والبعثات غير الضرورية بالخارج، وترشيد نفقات البابين الثاني والرابع إلى أقصى حد، والاهم من كل هذا هو ضبط الاعتمادات المستندية التي تلتهم الجزء الأكبر من عائدات بيع النفط الليبي، ويكون كل هذا بالتوازي مع زيادة انتاج النفط الخام والاعتماد في التكرير على المصافي المحلية.