طوابير تصطف مزدحمة من ساعات الفجر الاولي ، تنتظر فتاتا تسد برقمها دخل معيشتها الغالية ، هنا حكايات صباحية أمام كل مصرف في تراب ليبياتنا، والبالغ عددهم 17 مصرفا و520 فرعا ووكالة، بنسبة وصلت الي اربعمئة ألف مواطن لكل مصرف، واثني عشر ألف مواطن في كل فرع، بكادر وظيفي يقارب العشرين ألف موظف.
فلا في برد الشتاء خف الازدحام عليها، ولا في أيام الصيف راحة فيها، أما في داخل هذه المباني، هنالك عالم أخر غير الذي نعيشه، بمجموع ميزانية وصل في سنة 2014 الي 65.5 مليار دينار، فاحت منهم رائحة الفساد، ولعبت بين أرقامها الذمم المبيوعة، فالبطاقات للأقارب والتي وصل عددها الي ربع مليون بطاقة تم ربطها مع الرقم الوطني مؤخرا، والباقي تحت الإجراء، منها 150 ألف بطاقة في مصرف الأمان لوحده فقط ، أما الإجراءات فمعظمها تحت الطاولة للمعارف، وتحويلات العملة الصعبة بالقابل والمقابل ،والمعاملات الادارية بالمحسوبية، والتسهيلات حدث ولاحرج، حيث الحيثيان الكبيرة تسرح وتمرح، ووصلت قيمتها الي 19 مليار دينار ليبي موزعة بين قروض وتسهيلات لمختلف الأغراض.
فكم من طالب علم استغني عن كتابه في بلاد المهجر، وعاد خائبا، ، لان غيره ينعم بالدولار رقصا في الحنات، وقد وصل عددهم الي اثني عشر ألفا ومئة وتسعة عشر طالبا وطالبة. ومنحهم تصل الي أرقام فلكية ، وكم من مريض مات قهرا، بداء قل دواءه وزاد من ثمنه أضعافا ، وغيره يعيش بدخا وسخاء، وينام شخيرا ويستيقظ عصرا.
المعادلة هنا تقول ان متوسط الدخل في بلاد المختار هو 188 الف دينار سنويا، في المرتبة الثالتة والستين عالميا، والتي لاتساوي شئ كقيمة شرائية ، بداية باسعار الذهب التي تبدأ من 180 دينار ووصولا الي صندوق الزيت ب 50 دينار، والدقيق بعشرة دينار، والاسمنت ب 30 دينار.
عملات نقدية تُطبع هنا وهناك، لعلها تملأ خزائن مصارفنا الخاوية، أطراف صراع تتنازع علي قانونيتها، شرعي يدعي نفسه، فيتعامل بها بدخا وسخاء، وأخر نزيه يرفضها في مصالحه، هذا هو دينارنا الليبي، بنفس اسمه وصورته، من رأس جدير حتي لمساعد، لم تتغير ملاحمه ولا حتي إخفاقاته، اللهم إلا توقيعة تنازع عليها بعضهم، فصار غريبا ذليلا في مدينة، وعزيزا كريما في مدينة أخري.
بأنفسه المتهالكة وهو يصارع اقتصاديات الدول الكبري، وبرمق المتعطش لبراميل الذهب الاسود المحترق بين فوهات البنادق، فقلت قيمته أضعافا مضاعفة، فلا قطرات النفط أعادت إليه الحياة، ولا رغيف الخبز عامله بالند، وحتي في دول الجوار لم يصمد طويلا، وصار يترنح في أسواقها، حتي أصبح مجرد صورة تذكارية لاغير، لمواطنين يبحثون عن علاج ودراسة، بأرقام بفضل دينارينا كادت ان تكون فلكية، ويعجز عنها جل أحفاد المختار، وحتي الذي أتي إلي أرضنا الطيبة وراء رزق وقوت، هرب منها، عائدا لدياره، أو في البحر وتوابيت الموت مكانه.
فالدينار ليس قصة عملة وورقة، بل هو رمز ومعني، في الحياة الكريمة أول درجات سلمه، وصولا للتنمية والإزدهار، وصناعة السياحة والاستثمار، وهذا الطريق لايمر فقط من خلال أنابيب النفط ومشقاته، ولا من خلال الكنوز المدفونة في البنوك العالمية الكبيرة، ولا تصنعه التوقيعات والطابعات، بل هو قيمة شعب اختار العمل والعلم، بعيدا عن فوضي الحروب ورائحة البارود، في بلد الصحراء الغنية الشاسعة والبحر المعطاء الطويل، والجبال الخلابة أخضرها ونفوسها، والأهم سبائك ذهب عقول أبناءه، وجواهر قلوب قبائله، وموقع أرضها في قلب العالم.
الحال وصل ايضا للاسوق، فنام حالها سباتا، فالمحلات أخلت بضائعها، والتجار وقف حالهم، و بعض العمال غيرو من حرفهم، لان السيولة في المصارف لم يفرج الله كربها، فمن سيحرك نشاطهم، والأسعار في أعلي القمم، وجيب المواطن في منحدر الرغبات.
هنا فقط يغلق المصرف بابه، في انتظار غد يحمل الافضل، يزيح الطوابير الطويلة، و تتلاشي فيه هموم أصحابها.