كتب رجب المسلاتي لصحيفة صدى الاقتصادية مقال بعنوان “للمصارف قصة” الحلقة الثانية.
العمليات المصرفية بدأت مع التعرف على النقود المعدنية، التي تسك من الذهب والفضة، والتي جاءت في مرحلة من مراحل تطور التبادل، تلث مرحلة التبادل بمقايضة سلعة بسلعة أخري مباشرة، ومرحلة إستعمال سلعة ثالثة وسيطة، وهذا تطور منطقي للأمور، فليس من الممكن أن تنشأ عمليات إيداع وسحب، ولا عمليات إقراض واقتراض، خلال إقتصاد يتم فيه التبادل على أساس المقايضة المباشرة سلعة بسلعة، أو بإستعمال سلعة ثالثة كوسيط ويجري، أي التبادل، على أساسه في نفس المكان والزمان، إذ أنه من صفات القرض أن ينفصل تاريخ الحصول عليه عن تاريخ الوفاء به، ومن صفات الإيداع أن يختلف تاريخ إيداع الوديعة عن تاريخ سحبها، وهذه الصفات لا تكتمل إلاّ في ظل نظام يتم فيه التبادل على أساس “سلع/نقود، نقود/سلع” وهذا يعني أولا: إمكانية انفصال المكان والزمان، ويعني ثانيا: أن السلع تباع بالنقود دون أن يكون من الضروري أن تستخدم النقود في شراء سلعة أخري” أي أنه يمكن الإحتفاظ بها إلى وقت لاحق أو إيداعها لدي طرف آخر أو إقراضها له.
وعلى الرغم من أن معدني الذهب والفضة، هما سلعتان كغيرهما من السلع، يطلبان لذاتهما ويستعملان في أغراض آخرى متعددة، إلا أنهما يتمتعان أيضاً بمعظم خصائص وسيط التبادل النقدي الجيد، ولم تستكمل شروط العملة الجيدة إلاّ بعد ظهور العملة المعدنية الذهبية والفضية، فهما وحدهما اللذان يمتازان بندرة عالية نسبياً، ويحظيان بقبول عام، ويسهل طرقهما وتجزئتهما إلى وحدات صغيرة، ويمكن نقلهما بسهولة، وتخزينهما إلى ما لا نهاية، ولا يتعرضان للصدأ أو التآكل أو التلف وهما بكلمة مختصرة يتمتعان بكل الصفات والمزايا التي تؤهلهما للاستعمال كوسيط للتبادل، ومقياس للقيم، ووحدة للحساب، ومخزن للثروة، ووسيلة لتحديد الأسعار والأثمان، وهذه كلها من صفات النقود كما نعرفها اليوم، “لذلك استقر الأمر للذهب والفضة كأهم أشكال النقد السلعي في كثير من المجتمعات، وبدأ بهذا عصر “النقود المعدنية”، إن النقود المعدنية، الذهبية والفضية، وهي نقود مكتملة الشروط تقريباً ، كما سبق القول، لا بد وأن تكون قد عرفت في حضارات أخرى إلى جانب حضارة بابل، ولا بد من أن ظهورها قد أدي إلى نمو مهن وحرف جديدة، يذكر كثير ممن كتبوا في تاريخ المصارف منها مهنة التجارة ومهنة الصياغة، ويعطون دوراً هاماً لكل منهما في تطور المصارف والعمل المصرفي، ويقولون إن كلا منهما، بالإضافة إلى كهنة المعابد، يمثّل جذراً من الجذور التي نبتت عليها المؤسسات المصرفية.
ولا يبدو ما توصلوا إليه من استنتاج غير مقبول، فكنتيجة لاكتشاف النقود المعدنية، التي سهلت التبادل إلى حد كبير، ويسرت إنتقال السلع من شخص إلى آخر، ومن تجمع بشري إلى غيره، بدرجة لم تكن معهودة ولا معروفة من قبل؛ ظهرت إلى الوجود مؤسسات جديدة لها من الأهمية ما لا يمكن وصفه، ظهرت (الأسواق) حيث يلتقي البائعون والمشترون في مكان واحد، وزمن معلوم، يرتادها الصياد لبيع ما زاد عن حاجته من طرائد اصطادها، ويرتادها الراعي لبيع ما زاد عن استهلاكه من إنتاج الحيوانات التي استأنسها، ويرتادها الفلاح لبيع ما فاض لديه من محاصيل حقله التي زرعها، ويرتادها الحرفي لبيع ما لا يستعمله من العدد التي صنعها، ويشتري منها هؤلاء و هؤلاء ما ينقصهم وما يحتاجون إليه، وما لا يستطيعون إنتاجه بأنفسهم، من مأكل أو ملبس، أو عدد ومعدات؛ تساعدهم علي القيام بأعمالهم بكفاءة ودقة، وتيسر عليهم إتقان حرفهم، وتزيد من إنتاجيتهم، وتحسّن نوعية إنتاجهم، يجد فيها صائد الحيوانات البرية السهم والحربة، ويجد فيها صائد الأسماك الصنارة والشبكة، ويجد فيها صائد الطيور القوس والسهم، كما يشتري منها الراعي أداة لجز صوف نعاجه، وإناء لتلقي حليب بقراته، ويشتري منها الفلاّح محراثه وفأسه ومنجله، ويحصل الحرفي فيها على عدده وأدواته، وهيأت هذه التطورات، ظهور النقود المعدنية، وقيام الأسواق، والتوسع في التبادل، أمام الإنسان أفاقاً واسعة، وفتحت له أبواباً لم تكن معروفة، وأدت من ضمن ما أدت إليه، إلي ظهور بوادر ما نسميه اليوم: بتقسيم العمل والتخصص في الإنتاج، فبعد أن اطمأن كل منتج إلي أنه سيجد في السوق مشترياً لما ينتجه وبائعاً لما يحتاج إليه، ركّز انتباهه علي ما يتقنه ويجيده من حرف ومهن وما يتفوّق فيه من أعمال، وما يحسن صناعته من عدد وأدوات؛ فزادت بذلك المهن والحرف، وتنوعت المنتجات وتعددت، وامتلأت الأسواق بسلع جديدة ومنتجات لم تكن معروفة، وزادت الأسواق وكثر عددها وانتشرت في كل مكان وكثر من كانوا يترددون عليها ويرتادونها للبيع والشراء وللفرجة أيضاً .
في بداية الأمر كان مرتادو الأسواق من أولئك الذين يعرضون للبيع سلعاً من إنتاجهم، ويشترون منها ما يحتاجونه من سلع لاستهلاكهم أو استعمالهم الخاص، غير أن هذا لم يدم طويلاً فما لبث أن ظهرت طائفة جديدة من الناس، يشترون إنتاج غيرهم لا لاستهلاكه ولكن لبيعه لطرف ثالث، أي أنهم يشترون ما لا يريدون استهلاكه، ويبيعون ما ليس من إنتاجهم، يشترون من صانع المحاريث ويبيعون للفلاح، ويبيعون لصانع المحاريث ما اشتروه من الفلاح، وهكذا، وهكذا طائفة وسيطة بين البائع والشاري، تبيع جملة ما اشترته بالقطعة، وتشتري جملة ما تبيعه بالقطعة، وتشتري بثمن وتبيع بثمن أكبر منه فتحققت بذلك للمنتمين إليها أرباح مجزية وكانت هذه هي (التجارة) وكان هؤلاء هم (التجار) مهنة لا تساهم بأي قيمة مضافة للإنتاج ولكن لا غنى عنها لتوزيعه.