كتب رجب المسلاتي لصحيفة صدى الاقتصادية مقال بعنوان “الصاغة، الصيارفة الأوائل”
لم يكن الصاغة طائفة غير معروفة، ولم تكن حرفة الصياغة من الحرف الجديدة، إذ يبدو أن هذه الحرفة قد عرفت منذ العصور التي تلت العصر الحجري، ومنذ إكتشاف البشر للنار وتعرفهم على المعادن، لا سيما معدن الحديد، وحاجتهم إلى القدرة على صهرها وطرقها وتجزئتها وتشكيلها، واستعمالها في صناعة معدّات للصيد، وآلات للزراعة، وأدوات ومعدات للحرف (ومع الأسف الشديد) أسلحة للقتال، وتعني كلمة صاغ الشيء، كما جاء في مختار القاموس للشيخ الطاهر أحمد الزاوي: (هيّأه علي مثال مستقيم)، ومن هذا المعني نفهم لماذا كان للصاغة ما كان لهم من تقدير خاص ومنزلة رفيعة، هيأتها لهم قدرات وملكات فنية، موهوبة ومكتسبة، مكّنتهم من تأدية دور هام في تطور العمل المصرفي والتدرج به حتى وصل في نهاية المطاف إلى ما هو عليه الآن.
إذن فطائفة الصاغة كانت طائفة قديمة، احترفت صهر وتشكيل المعادن، وخراطتها، وطرقها وسحبها، وتجزئتها وتصنيعها، فيما يفيد الناس، ومع الأسف، فيما لا يفيدهم أحياناً ، وكان من حظ تلك الطائفة، إن لم يكن بتدبير منها، أن ظهرت النقود المعدنية، وهي نقود تصاغ، كما عرفنا من المعادن، أهمها الذهب والفضة، كل منهما على حدة، أو بخليط منهما، ولم يكن هناك من يستطيع منافستهم في صكها وسكها وصياغتها، فقد تجمعت لديهم، عبر السنين، القدرات والخبرات، والعدد والمعدات، والمواقع المختارة في الأسواق والمراكز الرئيسية، وجميع الأسباب، التي مكنتهم من القيام بالمهام التي تتطلبها صياغة، وحفظ، ووزن، وتعيير، وتبديل العملة المعدنية وتولوا المهمة بدون تردد، وأحسنوها وبرعوا فيها، وتحملوا مسئوليتها، إلى أن سلموها، أو تحولوا معها، إلى أجهزة متخصصة، لا عمل لها سوى التجارة بالنقود، وتقديم الخدمات المتصلة بالنقود وقد بلغ تأثّر المصارف والأعمال المصرفية بالدور الهام الذي اضطلع به الصاغة في مختلف مراحل نشأتها ونموّها إلى درجة أن بعض من كتبوا في تطور النقود والمصارف، يقول أن المصارف قد اكتسبت تسميتها من أعمال كان يزاولها الصاغة، ومن وسائل كانوا يستخدمونها، فهم يرون أن كلمة بنك أو بنكو أو بانكا، جاءت من إسم المنضدة أو السدة (ومعناها باب الدار) أو الحاجز الخشبي الذي كان يضعه الصاغة في مداخل محلاّتهم، ليستلموا ويسلموا عليه النقود والسبائك المعدنية من وإلى عملائهم أولاً ، وليكون حائلاً دون وصول من يتعاملون معهم إلى داخل محلاّتهم، حيث خزائنهم، وعدد ومعدات صناعتهم، وأسرار مهنتهم ثانياً، أما كلمة (مصرف) أو (صيرفي) أو (صراف) فيرون أنها إشتقت مما كان يقوم به الصاغة من أعمال تتصل بصرف النقود وتفكيكها وتبديل بعضها مقابل بعض.
وكما فعل كهنة المعابد وكبار التجار، قام الصاغة باستلام الودائع ومنح القروض، وبالإضافة إلى ذلك أتاحت لهم طبيعة النقود المعدنية المصاغة من معدني الذهب والفضة، ومكّنهم تخصصهم المهني، المتصل بصهر وطرق وتشكيل المعادن من أن يتولّوا أعمالاً أخرى تتصل بتصنيع النقود، وإصدارها وخلقها، وصرفها، ومبادلتها ، قام الصاغة بسك النقود لحساب عملائهم، ولحساباتهم الخاصة، وتفرعاً من عملية سك النقود واستكمالاً لها، مارسوا عمليات وزن السبائك، وتعييرها، وختمها بما يفيد صحة أوزانها وسلامة عياراتها، وقاموا بتحويل النقود من شخص إلى شخص ومن مكان إلى مكان عن طريق إيصالات إيداع كانوا يصدرونها، وبفضل شبكات واسعة من المراسلين والوكلاء كوّنوها فيما قرب أو بعد عنهم من أسواق وبلدان، وقاموا بإصدار العملة عندما أصبحوا يسكون النقود لحسابهم وتحت أسمائهم، بأوزان عينوها وأشكال اختاروها، وقاموا بخلق النقود عندما أصدروا إيصالات إيداع بمبالغ مجموعها يزيد عن مجموع قيم ما كانوا يحتفظون به من سبائك من معدني الذهب والفضة، كما قاموا بعمليات صرف العملة واستبدال إحداهما بالأخرى.