كتب: د. عبدالله ونيس الترهوني – اختصاصي اقتصاديات النقل
تناولت بشئ من التفصيل في المقالتين السابقتين تعريفاً بصناعة النقل البحري وخصائصها وأهميتها، ونظم تشغيل السفن ضمن استراتيجية النقل البحري، مع الإشارة إلى بعض (وليس كل) التحديات التي تواجهها هذه الصناعة الهامة، وفي المقالة التالية سأتناول بعض القواعد والمبادئ الأساسية لتطوير أدوات التنفيذ بالقطاع البحري.
كما كنت قد أشرت في المقالة الأولى إلى أن الفضل لله ثم للاستاذ الفاضل منصور بدر في ظهور القطاع البحري الليبي للوجود، وقد كانت باكورته الشركة الوطنية العامة للنقل البحري، في ظل نشاط ملحوظ للوكالات الملاحية التي كانت ملكيتها خاصة وليست عامة في ذلك الوقت.
ولكن بكل أسف وبعد أن تم إلغاء وزارة النقل البحري، وتبني الدولة للاقتصاد الاشتراكي نهاية سبعينات القرن الماضي ظهرت أدوات تنفيذ بحرية عديدة كلها تتبع القطاع العام، و ما زاد الطين بلة هو أن بعضها متشابه النشاط رغم اختلاف تبعيتها، ومنذ ذلك الوقت لم نر أو نسمع بأشخاص من طينة الاستاذ منصور بدر يُعول عليهم في النهوض بأدوات القطاع من بعده، أوعلى الاقل (وهو أضعف الايمان) بأن يُبادروا ويُسمعوا أصحاب القرار في قمة هرم السلطة صوت القطاع البحري الليبي، ويوضحون دوره الهام في الاقتصاد والتنمية.
وفي كل الأحوال، فمع مرور الوقت تدهورت أحوال جميع أدوات التنفيذ البحرية الليبية بلا استثناء، وهي التي تُعاني أساساً من المحسوبية والبيروقراطية، وبالتالي فإن الكلام عن التحديث أو التطوير في هكذا ظروف ظل نوعاً من العبث أو ضرباً من الخيال، ولكن وفي مقابل هذه الصورة القاتمة فقـد علمتنا مراحل التعليم المختلفة أنه وقت الاحتراب والضجيج يكون هو الوقت المناسب لأصحاب العقول والمعرفة في التفكير في المستقبل بعمق أو (الوقت المناسب للتخطيط)، وهذا مايفسر قيام بعض الدماء الشابة من داخل القطاع البحري بالمناداة لإصلاحه بسواعد وطنية وبطريقة علمية، وفقاً لخطوات مدروسة ومنهجية واضحة، وكانت أولى خطواتهم هي الدعوة لعودة وزارة النقل البحري من خلال إطلاق هاشتاق (#الحل في ليبيا وزارة نقل بحري مستقلة) ، على أن تأتي باقي الخطوات تباعاً.
هناك ثلاث مُسلمات لا غنىً عنها للنهوض بأي كيان مهما كبر حجمه، وهي بالترتيب : الإرادة والكفاءات والتكامل، وبالتطبيق على حالة القطاع البحري الليبي فإن الإرادة السياسية لقادة البلد النابعة من قناعة راسخة بأهمية القطاع البحري، إلى جانب وجود إرادة حقيقية لدى المتنفذين على رأس القطاع البحري للدفع به للأمام هي الأساس لرسم أي خطط تطوير أو تبني برامج إصلاح، يتلو ذلك وجود عقول تدير القطاع بجدارة، والمقصود به هو وضع الرجل المناسب في المكان المناسب وفي الزمان المناسب، بشرط أن يكون وفقاً لوصف وظيفي صحيح، وضمن هياكل تنظيمية عصرية لكل أدوات التنفيذ بالقطاع، في ظل تبني نظام حوكمة صارم، وبالتالي فإنه من البديهي في حال تبني أي برنامج تطوير حقيقي أو (واقعي) للقطاع البحري الليبي في المستقبل فإنه لن يكون فيه مكان للفاسدين والانتهازيين ومهما حملوا من شهائد أو اكتسبوا من خبرات لسببين اثنين : الأول وهو أن دفع الضرر أولى من جلب المنفعة، أما الثاني لأن ما بني على باطل فهو باطل، وآخر المسلمات الثلاثة هو ضرورة توفر التشريعات المناسبة جنباً لجنب مع توفر الحد الادنى من الامكانيات لإطلاق الاعمال وضخ الحياة في شرايين كل أدوات التنفيذ البحرية، ومع وجود تنسيق كامل بين أدوات التنفيذ البحرية من جهة، وبينها وبين باقي مؤسسات الدولة من جهة أخرى، والذي يحقق التكامل المنشود/ المطلوب في نهاية المطاف.
في يومنا الحاضر وبعد أن وصلنا إلى الجيل الخامس من الموانئ البحرية لم يعد مصطلح الميناء البحري هو ذلك المكان الذي يحوي ساحات ومخازن ملاصقة للرصيف، والمحاط بأسوار توضح حدوده وترسم معالمه، بل تعداه ليصبح جزءاً من السلسلة اللوجستية، ومكوناً رئيسياً من مكونات المدن الذكية، وصارت منطقة ظهير الميناءHinterland عنصراً هاماً من عناصر أي ميناء بحري، ومع تقدم التكنولوجيا وازدياد المنافسة بين الموانئ البحرية أصبحت هيئات الموانئ هي من تبحث عن زبائنها، بل وتجتهد في كسب رضاهم عن طريق تسويق خدماتها لهم بأسعار منافسة وجودة عالية، وبمناسبة الحديث عن التطوير فإننى أرى أن هناك ضرورة آنية وقصوى لفتح المزيد من قنوات الحوار والتعاون طبقاً لمنهجية صحيحة بين مصلحة الموانئ والنقل البحري وباقي أجهزة الدولة الليبية لأجل:- فرض سلطة الدولة السيادية على كل الموانئ والمنصات البحرية، والمحافظة على البيئة البحرية على طول الساحل الليبي والمياه الاقليمية، وتوحيد مناهج ومفردات التعليم البحري بعد تحديد معاييره سلفاً.
أما فيما يخص التطوير في حد ذاته فهو إما أفقي أو رأسي ، وبشئ من التفصيل: فالتطوير الرأسي (أوالجزئي) يعني أن يقوم كل كيان مهما كان مسماه (مؤسسة أو شركة أو مصلحة) بتطوير نفسه، وأن يُحسن إيراداته في حدود أهـدافه وأدواته ضمن نظامه الاساسي، وهذا النوع من التطوير يتميز بالمرونة لأنه غير مقيد بحد زمني، ولتوضيح الصورة أكثر سأكتفي بأخذ شركتي النقل البحري والعالمية للملاحة كمثال :- فشركة النقل البحري هي في حاجة لتنويع أسطولها كنوع من التطوير الذاتي (النمو والتوسع) في ظل إنعدام ملكية سفن بضائع عامة وسفن حاويات من قبل مُلاك ليبيين أفراداً كانوا أم شركات، وبالمثل الشركة العالمية للملاحة التي بإمكانها شراء أو إيجار السفن، وعقد شراكات محلية لهذا الغرض بقصد الحصول على التمويل المطلوب لتوسيع نشاطها وفقاً لنظامها الاساسي، وأما التطوير الأفقي (الكلي) فهو نوعان : النوع الأول قصير المدى (في حدود ثلاث أعوام كحد أقصى)، وقد جرت العادة أن يكون المسؤول المباشر عنه هو وزير النقل البحري أو وزير المواصلات (حسب الاحوال) والذي يتشاور فيه مع مجالس الادارات، والمدراء العامون من أجل دمج الشركات متشابهة النشاط في شركة قابضة، أو تعديل مواد في نظام أساسي أوتحوير هيكل تنظيمي لشركة، أو إنشاء قاعدة بيانات بحرية وطنية….الخ، كما يهدف التطوير قصير المدى إلى العمل على نشوء (خلق أساسات) لتنسيق كامل بين مكونات القطاع البحري للوصول للتكامل فيما بينها، وذلك بهدف توفير المزيد من فرص العمل للآيادي العاملة الوطنية، وخلق قيم مضافة للاقتصاد الوطني، وقد يمتد هذا النوع من التطوير أوالإصلاح ليصبح متوسط المدى.
أما النوع الثاني فهو تطوير أفقي طويل المدى (إستراتيجي) والذي يتم فيه وبكل دقة تحديد دور أدوات التنفيذ البحرية الوطنية وبالأخص (الموانئ ، وشركات المناولة، وشركات النقل البحري) بإعتبارهم العمود الفقري للاقتصاد الازرق، وبالضرورة سيكون هذا النوع من التخطيط/ التطوير متماشياً مع خارطة اقتصادية واضحة المعالم، وتبعاً لأهداف إقتصادية محددة، وضمن سياسات النقل الوطنية كجزء من الاستراتيجية العليا للدولة، أو أن يكون التخطيط طويل المدى جزءاً من رؤية شاملة للدولة (ولنقل على سبيل المثال رؤية 2035)، وفي كل الاحوال: ففي التخطيط الاستراتيجي يتم تحديد الأولويات بناءاً على التنافسية العالمية لأدوات التنفيذ المحلية، ومصادر التمويل المتاحة، مع تقدير إمكانية تحويل المخاطر ونقاط الضعف الى فرص ونقاط قوة، وقبل الشروع في هذا النوع من التخطيط أو الإصلاح أو التحديث لابد من توفر بنية تحتية جيدة للاتصالات، وإلى عدد لابأس به من الكفاءات والعقول الفـذة التي تتسم بالنزاهة ونظافة اليد، وإلى إحصائيات وبيانات دقيقة، ومن ثم يتحتم على القائمين على التخطيط الاستراتيجي للقطاع البحري تنظيم حلقات نقاش وورش عمل بين الحين والآخر ليتم توضيح ما تم إنُجازه من أعمال، بالإضافة إلى تبادل الافكار ووجهات النظر مع المدعوين والمشاركين فيها، كما يجب عليهم أيضاً تحديد الخطوات والاعمال القادمة في نهاية كل ورشة عمل أو حلقة نقاش وبكل وضوح، ويشمل هذا النوع من التخطيط على سبيل الذكر لا الحصر: تحديث أو تعديل التشريعات وعلى رأسها القانون البحري الليبي، وإقامة مناطق لوجستية، وأخرى صناعية بالموانئ، وثالثة حرة بطول البلاد وعرضها، وإقامة موانئ جافة، وأحواض بناء وتخريد السفن، ومراكز وقواعد التزويدات والتموين، ويشمل أيضاً رسم وتنفيذ خطة التكامل بين الموانئ الليبية، كما يشمل أيضاً الانضمام للتكتلات البحرية والاقتصادية، والتكامل مع الموانئ البحرية في المنطقة، والتوسع في تجارة العبور مع الدول الحبيسة الواقعة خلفنا، وإقامة مراكز تدريبية ومراكز بحثية على مستوى عالي تكون قبلة المتدربين والباحثين البحريين…الخ، وفي كل الاحوال فإن الاصلاح المنشود للقطاع البحري الليبي لايتحقق إلا بالآتي :-
1- أن يتم إقتلاع الفاسدين من جميع أدوات التنفيذ، وضخ دماء جديدة متخصصة (اقتصادية وفنية وإدارية)، فلا إصلاح في بيئة تعج بالدخلاء على القطاع، والفاسدين، والنفعيين، وأعداء النجاح ، فهم بلاشك أول المعرقلين لأي برامج إصلاح أو تطوير.
2- أن يكون أساس الإصلاح هو إصلاح تشريعي يعقبه إصلاح هيكلي، وهذا يعني بالضرورة أن تكون مصلحة الموانئ والنقل البحري هي أول المؤسسات التي يجب أن يطالها الإصلاح، وذلك بإعادة هيكلتها أسوةً بالدول المجاورة لنا والتي سبقتنا بكثير، يتلو ذلك تحديد أدوات التنفيذ المطلوبة (الضرورية فقط)، وإلغاء ودمج المتشابه منها، أو غير المرغوب فيها وفقاً لمعايير إقتصادية.
3- أن يضمن برنامج الإصلاح المشاركة الفاعلة والواسعة للقطاع الخاص (وبالأخص المشاركة الفاعلة بين القطاعين العام والخاصPPP)، ولكي نضمن هذه المشاركة الفاعلة يجب أن تُمنح الفرصة كاملة لحديثي التخرج من مؤسسات التعليم البحري التقني والجامعي، وبذلك سيكون من السهولة بمكان تنفيذ خطط التطوير والرقي بالقطاع البحري الليبي من أجل:-
أ- الإرتقاء بكفاءة وجودة الخدمات المقدمة لكافة المتعاملين مع الموانئ الليبية.
ب- تحقيق أفضل المخرجات (جودة الخريجين) من مؤسسات التعليم التقني والجامعي البحرية الليبية.
ت- تطبيق الكود الدولى الخاص بأمن الموانى والسفن ISPS Code، وضرورة عودة ليبيا للقائمة البيضاء للمنظمة البحرية الدولية.
ث- الاستخدام الأمثل لنظم المراقبة، وبالأخص تتبع حركة البضائع داخل الموانئ، وتتبع حركة السفن VTS.
ج- زيادة السعات التخزينية للموانئ من خلال التوسع أفقياً في مناطق الظهير بالموانئ، كما أن التوسع يشمل أيضاً إنشاء موانى جافة ومراكز لوجيستية، وأخرى صناعية ، ومناطق حرة، وخدمات أحواض السفن، وخدمات Off shore
ح- إستخدام أحدث تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وتبادل المعلومات في التواصل مع الموانئ والزبائن والوكلاء والشاحنين بالاعتماد على نظام التبادل الالكترونى للوثائق EDI
خ- توفر بيانات ومعلومات الموانئ وحركة البضائع والسفن من مراكز بيانات متخصصة DC بكل من مصلحة الموانئ والهيئة العامة للمعلومات، ووزارتي التخطيط والاقتصاد.
د- إنشاء كلية متخصصة في إقتصاديات النقل بجميع أنماطه تتبع وزارة المواصلات، على أن يكون تركيزها مُنصب على تخريج كوادر إقتصادية وإدارية تدير قطاع النقل بمختلف أنماطه.
ذ- إطلاق مركز بحثي وطني متخصص في دراسات وبحوث النقل البحري والموانئ يتبع وزارة النقل البحري أو مصلحة الموانئ (حسب الاحوال)، على أن يلتزم القائمون على المركز بالتعاون التام مع مؤسسات التعليم التقني والجامعي الوطنية، والمنظمات والمراكز البحثية ذات الصلة في الداخل والخارج وبالأخص العربية منها.
ر- السيطرة الآلية على حركة البضائع الواردة والصادرة، مع وجود نظام/ قاعدة بيانات تسمح بمتابعتها، وتقديمها في صورة إحصائيات رسمية دورياً.
ز- ضمان تطبيق أعلى معايير السلامة البحرية على طول الساحل الليبي والمياه الاقليمية.
ختاماً …
حاولت جاهداً في ثلاث مقالات تسليط الضوء على ماهية النقل البحري ودوره في الاقتصاد، والتعريف باستراتيجياته وأسواقه، بالإضافة إلى بعض المفاهيم والمسلمات للنهوض بهذه الصناعة الهامة، ولعلي بذلك أكون قد وضعت اليد على الجرح وأسمعت شريحة واسعة من الشعب الليبي شيئاً كانوا يجهلون عنه الكثير، وأوصي في نهاية مقالي المطول هذا بتبني الاقتصاد الأزرق كأحد البدائل الحقيقية للاقتصاد الريعي في ليبيا، وفي نفس الوقت أتمنى من أصحاب القرار في ليبيا أن يأخذوا بيد الشباب الذين دعوا لعودة وزارة النقل البحري لعلها تكون خيط الأمل والمفتاح المفقود لتطوير القطاع، وجعله رافداً من روافد الاقتصاد الوطني، ولعل وعسى أن تكون مكونات القطاع البحري الليبي خير سفير لدولة ليبيا إلى باقي دول العالم.