Skip to main content
أبوسنينة يكتب "حول المركزية واللامركزية.. بين الدولة الريعية ودولة الرفاهية"
|

أبوسنينة يكتب “حول المركزية واللامركزية.. بين الدولة الريعية ودولة الرفاهية”

كتب: المستشار الاقتصادي د.محمد ابوسنينة

تمة أسئلة أساسية لابد من الإجابة عليها وحقائق تاريخية لامناص من أخدها في الاعتبار عند عرض هذا الموضوع ومحاولة سبر أغواره. ويأتي في مقدمة هذه الأسئلة، هل المركزية سبب أم نتيجة؟ وهل اللامركزية خيار أم تحدي؟ اليوم تكاد المركزية أن تكون هي أم المشاكل ومكمن الداء وأن اللامركزية هي الدواء. حتى أن الصراعات التى تشهدها الساحة اليوم، بما في ذلك الحرب التي تدور رحاها على الأرض الليبية، يعللها البعض بأن أحد دوافعها أو أسبابها التخلص من النظام المركزي فى جباية الإيرادات السيادية والتصرف فيها وما يعتري النظام المتبع فى توزيعها من قصور، بالإضافة إلى مركزية تقديم بعض الخدمات وإدارة شوؤن الناس. وفي المقابل يطرح النظام اللامركزي كنظام بديل.

لا شك ان المركزية، خصوصا في الدول النامية، وثيقة الصلة بالنظم الشمولية التى تعتمد التخطيط المركزي، تخطيط إدارة الموارد وأوجه استخداماتها وأنماط توزيعها دون مراعاة لمبادئ العدالة الاجتماعية والاقتصادية في كتير من الأحيان. وهي مرفوضة بكل المقاييس، وفي ظلها يعاني المواطنون ويقاسون، ولا يطالب بها أحد، وقد ولا عهد التخطيط المركزي على مستوى الدولة مند انهيار الإتحاد السوفيتي في تسعينيات القرن المنصرم.

وفي ليبيا يدرك الجميع الحد الذي وصلت إليه هيمنة القطاع العام على النشاط الاقتصادي فى أتناء الحقبة التى سادت فيها الرؤى والأفكار الاشتراكية والانحسار الذى طرأ على دور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي والتدني الشديد في الإنتاجية ومركزية اتخاد القرار وتنفيذه. غير أن كل ذلك كان نتيجة طبيعية للدولة الريعية التي قامت في ليبيا مند الاستقلال عام 1951 واستمرت إلى يومنا هذا. فقد اعتمدت دولة الاستقلال الأولى مند قيامها على الريع، وكان الريع متمثلا فى المعونات الخارجية المحدودة التي كانت تمنح لدولة ليبيا الوليدة الفقيرة محدودة الموارد شاسعة المساحة ومحدودة عدد السكان. ولم يكن هناك بديل من أن تتولى حكومة مركزية استلام المعونات وإدارتها. وكان النظام الإدارى الذي اعتمد في ذلك الوقت هو النظام الإتحادي أو الفدرالي حيت كانت البلاد مقسمة إلى ثلات ولايات، برقة وطرابلس وفزان.

بعد اكتشاف النفط والبدء في تصديره عام 1961 وحتى عام 1963 زادت موارد البلاد المتمثلة في ريع النفط، وكان هو المصدر الوحيد للدخل في البلاد، فأصبح الاقتصاد ريعي والدولة ريعية. فكان الدخل مصدره مورد طبيعي وحيد لا يستخرجه الليبيون، بل يستخرج على إيدى عدد محدود من الشركات الأجنبية، وتستلم عوائده حكومة تتولى إنفاقه على مختلف القطاعات الاقتصادية في مختلف المناطق والأقاليم (توزيع الريع) ولهذا، وبسبب ما أملته ضرورة التحكم فى الريع المتولد عن تصدير النفط من قبل سلطة مركزية تم إلغاء النظام الفدرالي الذى كان سائدًا وتم توحيد البلاد عام 1963.

بمعنى اخر كانت المركزية التي عرفتها البلاد ولازالت تعيشها إلى يومنا هذا نتيجة لطبيعة الدولة الريعية والاعتماد شبه المطلق على مورد واحد للدخل وهو الدخل المتولد من تصدير النفط، ولم يعرف الليبيون دولة الرفاهية مند الاستقلال إلى يومنا هذا، بل ظلوا يستلمون ماتقوم بتوزيعه الحكومات المركزية التي تعاقبت على البلاد طوال السبعة عقود الماضية والسنوات التى تلت عام 2011، من ريع النفط في شكل مرتبات ومعونات ودعم وخدمات اجتماعية وبعض المشروعات التى تعتمد استمراريتها على ريع النفط، وكلها في الواقع أنماط لشراء السلم الاجتماعي، بدلا عن بناء اقتصاد إنتاجي متنوع وبناء دولة الرفاهية من خلال تنمية اقتصادية مستدامة.

وليبيا ليست الدولة النفطية (الريعية) الوحيدة في هذا العالم، بل أن كل الدول الريعية تعتمد نظم إدارة مركزية، حيت يوجد مايربو عن 165 دولة مركزية على مستوى العالم ، مع التفاوت فى النظم الإدارية وكفاءتها. ومالم ينجح الليبيون في تنويع الاقتصاد وخلق مصادر بديلة لدخل النفط والتخلص من هيمنته على الاقتصاد تبقى المركزية وعيوبها معضلة تشغل بال وتفكير الكثيرين، بصرف النظر عن النظام الإداري للدولة. ومن هذا الموقع لا أدعو إلى تكريس المركزية أو التشبث بها بقدر ما أدعو إلى التخلص من هيمنة قطاع النفط على الاقتصاد وتنويع مصادر الدخل ومن تم البحت عن نظام إدارى يحقق رغبات وطموحات الليبيين ويحافظ على وحدة التراب الليبي والدولة الواحدة. والموضوع أكبر من مجرد البحث عن أسلوب مقبول لتوزيع الدخل بين المناطق والأقاليم أو كما يحلو للبعض تسميته، تقسيم عادل للثروة.

ستصبح اللامركزية خيار قابل للتطبيق عندما ينجح الليبيون في تسخير إيرادات النفط في تنويع الاقتصاد واستغلال ما تتميز به البلاد من موقع جغرافي وسط قارات العالم وشواطئها التي يتجاوز طولها ألفي كيلومتر، والمقومات السياحية الجدابة للاستثمار الأجنبي والصناعات التصديرية الواعدة أمام القطاع الخاص والتي تمتلك فيها ليبيا ميزة تنافسية والاستثمار فى مجالات الطاقة المتجددة والوقود الحيوي، أي عندما توجد بدائل لدخل النفط باعتباره مورد طبيعي ناضب. ولا تكاد توجد منطقة ضمن أية إقليم جغرافي في ليبيا لاتمتلك موردًا اقتصاديا يُولد دخلاً يمكن الاعتماد عليه في تنمية تلك المنطقة والإقليم الجغرافي الذي تقع ضمنه.

المشهد الاقتصادي اليوم يشير الى اعتماد كلي على ايرادات النفط وأن هذه الإيرادات صارت بالكاد تكفي لتغطية مرتبات العاملين في القطاع العام التي تتزايد بوتيرة متسارعة حتى صارت مؤهلة لاستيعاب أكتر من 70% من مجمل الدخل في ظل استخدام مايقارب من ثلت عدد السكان في الوظيفة العمومية في حين تقلصت الإيرادات السيادية الأخرى مثل الضرايب والرسوم الجمركية وصارت عند مستويات متدنية غير مسبوقة. وإن مايدعو إلى القلق هو ما ستكون عليه أوضاع المالية العامة فيما لو انخفضت أسعار النفط أو قل الطلب عليه في ظل منافسة مصادر الطاقة البديلة.

إن أوضاع المالية العامة اليوم غير قابلة للاستدامة في ظل أنماط الاستخدام المتبعة وعدم قيام القطاع الخاص بدوره في النشاط الاقتصادي واستمرار التشوه فى سعر الصرف المعمول به. ويتطلب علاج هذا الوضع إعادة هيكلة الاقتصاد الليبي ومراجعة سياسات الاستخدام وتوزيع الدخل وإعادة النظر في النظام الضريبي (ضريبة الدخل والدمغة) وضريبة القيمة المضافة والعمل على توسيع القاعدة الضريبية من خلال التوسع في النشاطات التي يمارسها القطاع الخاص، وإعادة النظر في نظام دعم المحروقات (دعم الكهرباء والوقود)، ومراجعة سياسة سعر الصرف وهنا يكمن التحدي، أي أن اللامركزية خيار يرتب عليه جملة من التحديات، على الليبيين مواجهة استحقاقاتها حتى يمكن تحقيقها.

في المقابل لابد من تفعيل نظام للحكم المحلي، تضطلع في ظله البلديات والمحافظات بصلاحيات واسعة فى إيجاد موارد محلية وجني رسوم على ما يقام من نشاطات اقتصادية إنتاجية وخدمية محلية وعلى ما تقدمه الحكومات المحلية من خدمات عوضا عن توريد هذه الرسوم والموارد للحكومة المركزية، ومنح صلاحيات واسعة في الصرف وتوطين الخدمات وأن تكون هناك ميزانيات محلية تديرها السلطات المحلية، وأن يكون ذلك بقوانين تؤسس على دستور للبلاد يؤكد على مثل هذا النظام الإدارى، بما في ذلك مراجعة قانون الحكم المحلي رقم (59) الصادر عام 2012، دون أن تتخلى الحكومة المركزية عن مسؤولياتها في إيجاد المناخ المناسب للأعمال وتحفيز النشاط الإنتاجي وسن القوانين الداعمة ومراقبة النشاط الاقتصادي وتنظيمه ومنع الاحتكار وتعزيز وترسيخ مباديء المنافسة فى ظل نظام اقتصادي اجتماعى يوفر شبكة للحماية الاجتماعية علاوة على توفير الأمن والدفاع وخدمات التعليم والصحة.

مشاركة الخبر