كتب: المستشار الاقتصادي بمجال النفط، محمد أحمد
بداية وكما عهدت أود أن أتقدم بخالص الشكر والامتنان لإدارة الإحصاء والبحوث في مصرف ليبيا المركزي عن العمل المتميز الذي يقومون به في إصدار النشرات الاقتصادية الربع سنوية وأشدد أنها توثيق متكامل للتطور الاقتصادي والنقدي ويتصف بالحيادية ويراعي كل الشروط الاكاديمية في النشر. وأُميز هنا بين النشرة والبيانات الشهرية التي يصدرها المصرف عن الايراد والانفاق والتي حقيقة لا تحمل توقيع إدارة الإحصاء والبحوث وأرى في البيان نوعًا من التأثير السياسي الذي قد يؤثر على حيادتيه.
وقد نشرت مؤخرًا إدارة الإحصاء والبحوث بالمصرف البيانات المالية والاقتصادية للربع الثاني من سنة 2019 وهي موجودة على صفحة مصرف ليبيا المركزي تحت بند المنشورات، وهي نشرة يهتم الكثير من الاقتصاديين والماليين الذين لهم علاقة بليبيا أو بالمنطقة بقراءتها وتحليل البيانات الواردة بها وجعلها نقطة قياس مقارنة بالبيانات العشوائية “غير الموثقة إحصائيا” للأجهزة المختلفة والتي من بينها مصرف ليبيا المركزي نفسه والمؤسسة الوطنية للنفط ووزارة المالية ووزارة التخطيط وغيرهم.
علق بعض الإخوة الماليين على هذا الإصدار في مجالات العمل المصرفي والمالي بادراجات قيمة، وأنا هنا سأتناول بعض الملاحظات التي تميل إلى التنظير الاقتصادي أكثر من التنظير المالي أو المصرفي.
الملاحظة الأولى: على الجدول رقم (1) والجدول رقم (10)
الجدول رقم (1) هو عن القاعدة النقدية في ليبيا حيث يقسم النقد إلى عملة لدى الجمهور واحتياطات في المصارف وودائع المؤسسات العامة لدى مصرف ليبيا المركزي كما هو واضح من الجدول المرفق في الادراج. نظريا يجب أن تكون العملة لدى الجمهور أقل من الاحتياطات لدى المصارف التجارية أو قريبة جدًا وهذا يمثل وضعا نقديًا صحيًا تتمكن فيه البنوك من تعظيم قيمة الدورة النقدية عن طريق الإقراض والإيداع. لدى النظر للرسم الذي يمثل هذه البيانات نجد أن “العملة لدى الجمهور” تزايدت بشكل كبير وفاقت الاحتياطات المصرفية وقد وصل الفرق بين الاثنين ما يقرب من 12.6 مليار دينار بالسالب.
التحليل هنا أن المتعامل يجد أن بقاء العملة لديه أكثر قيمة من بقائها في المصارف وذلك يرجع أساسا إلى “إلغاء الفائدة” وعدم وجود آلية بديلة كفؤة، وهنا ترجع قاعدة أن “النقدية ملك Cash is King”. وبسبب عدم كفاءة النظام البديل “المرابحة” كمحرك لدورة الادخار والاستثمار فأن “سعر فائدة غير مقنن” يعمل في السوق النقدي الليبي وينعكس في تكلفة السيولة وهي الفرق في القيمة زمنيا ومكانيا بين المستفادين من التداول النقدي خارج النظام المصرفي الائتماني.
هذا ينقلنا إلى جدول (10) الذي يمثل التسهيلات الائتمانية الممنوحة من المصارف التجارية لمختلف الأنشطة الاقتصادية. ويمكننا من الجدول ملاحظة كيف أن هذه التسهيلات تجمدت عند مستوى معين ومن ثم انخفضت. من ناحية نظرية يمكن القول إن إلغاء سعر الفائدة أو حتى تخفيضها من ناحية التنظير الاقتصادي الكلاسيكي سيساهم في ارتفاع مستوى القروض وبالتالي زيادة النشاط الاقتصادي ورفع الناتج المحلي الإجمالي. الأمر هنا مختلف ويرجع أساسا إلى تسرب النقد خارج الاحتياطات المصرفية كما أسلفنا. وبحسبة بسيطة يمكن توقع مسار تطور القروض بدون وجود القيد الحالي في الرسم المرفق عن القروض. وفقا لتحليل الاتجاهات فأن مستوى القروض ينبغي أن يصل سنة 2019 إلى 30 مليار دينار هذا مقارنة بـ 16 مليار دينار مسجل فعليا فقط. هذا قد يمثل ضياع عائد استثماري عن البنوك بقيمة 2 مليار دينار بسعر فائدة افتراضي قدره “5% at face value” وذلك بدون حساب المضاعف النقدي، تم كسبها في السوق الموازي نتيجة لقيود السيولة.
الملاحظة الثانية: على الجدول رقم (30)
الجدول مخصص لرصد الإيرادات الفعلية غير النفطية للميزانية العامة. الجدول يرصُد هذه الإيرادات من سنة 2000، وباستثناء سنتي 2018 و2019 كان متوسط هذه الإيرادات مليار دينار 3.5 بينما كان المتوسط في سنتي 2018 و2019 بمعدل 13.9 مليار دينار.
الارتفاع هنا يأتي من فرض رسوم على تصريف العملة الأجنبية وفي رأيي الشخصي هذا يقود إلى استنتاج الآتي:
أولا: أن تضمين المبلغ الآتي من فرض رسوم على تصريف العملة الأجنبية ضمن الإيرادات غير النفطية لم يكن موفقا من الناحية الإحصائية أو حتى العملية فهذا ارتفاع طارئ ناتج عن اتباع سياسة مؤقتة وسوف يضر بالتسلسل الطبيعي للإمكانيات الاقتصادية الليبية.
ثانيا: أن هذا الارتفاع غير مبرر تاريخيا ويمكن استخدامه كمبرر قانوني لانتقال موارد مالية بصورة غير مبررة قانونيا من الجمهور إلى خزينة الدولة وقد يستدعي ردها إلى الجمهور إذا ما ثبت عدم شرعية فرض رسوم وهو ما أميل إليه شخصيا.