كتب الخبير الاقتصادي ( محمد أحمد ) مقالا أمس الأربعاء بعنوان ( الاستثمار والتمويل في قطاع الاستكشاف والإنتاج في الصناعة النفطية العالمية وأثرها على صناعة النفط الليبية ).
حيث قال :
إن الاستثمار والتمويل يعتبران من أهم عناصر الاستمرارية في الصناعة النفطية ، ويأتي بعده الصيانة والإدارة العلمية للمكامن وتفعيل المقاييس الأعلى في إدارة التشغيل ، وأنه وبدون توفر هذه العناصر فإن الصناعة النفطية محكوم عليها بالفشل وعدم الاستمرارية .
وأضاف :
لكل عنصر مجال طويل يمكن النقاش فيه بآراء مختلفة عن الوسائل إلا أنها تتفق في الأهداف، وبصورة عامة فإن اجتذاب الاستثمار لقطاع اقتصادي معين يتعلق أساساً باستقرار سوق هذا القطاع وتوازنه من ناحية العرض والطلب. وأن اضطراب ميزان السوق يسبب إما في اجتذاب الاستثمار في حال تفوق الطلب على العرض أو هروبه في الحالة العكسية.
وأن هناك عامل آخر هام يتعلق بحجم المخاطرة في السوق وهذا يتعلق أساسا بكمية الأموال المطلوبة للاستثمار في مدة معينة نسبة إلى قوة المستثمرين وتوقعات سرعة استرجاع العائد على الاستثمار.
وبالنظر إلى أن الصناعة النفطية العالمية كانت تتبع ولمدة طويلة من الزمن بما يعرف بنموذج الاستثمار المغلق ، حيث تقوم المنشآت الاقتصادية في القطاع بإعادة تدوير فائض العوائد في العملية الاستثمارية القادمة بما يساعدها على ردع تهديد الداخلين الجدد للصناعة حيث ترفع من عوائق الدخول.
وفي قلب هذا النظام الذي يعرف اقتصادياً بنظام الاحتكار كانت الشركات العالمية الكبرى للنفط أو ما كان يعرف سابقا ًبالشقيقات السبع وبعض المستقلين المحدودين قد انضمت لهم خلال الخمسين سنة الأخيرة الشركات الوطنية للنفط في دول أوبك ، ويقوم هذا النظام أساسا ًعلى منع الوصول إلى الموارد الطبيعية إلا وفقاً لضوابط مشددة والسيطرة على خطوط نقل الموارد النفطية وتصنيعها.
العوائد العالية التي كانت تحققها الشركات النفطية بسبب ارتفاع أسعار البيع مقارنة بتكاليف الإنتاج قاد إلى إطالة فترة “النموذج المغلق” في الاستثمار عالمياً في ظل سيطرة لا تخفى من الشركات العالمية الكبرى حتى وإن كانت متناقصة.
وفي هذه الأثناء استمرت الشركات الوطنية للنفط في دول أوبك باتباع نفس النمط في الاستثمار المغلق إما كليا أو جزئيا بصورة ناجحة عن طريق منع الوصول إلى الموارد الطبيعية وبسط الملكية العامة عليها قانونياً.
وسواء من زاوية الاقتصاد أو من زاوية التاريخ فأن استمرار نموذج واحد للأبد غير ممكن على الإطلاق ومن الناحية الاقتصادية فإن آليات السوق تعمل بطريقة نقل المنفعة وهنا تتركز المنفعة في “فائض العوائد” المتحقق بالوقوف أمام مفهوم “المنافسة الكاملة”.
وفي هذا النموذج المغلق فإن “فائض العوائد” يتركز دائما في القابعين خلف سور الصناعة النفطية سواء الشركات العالمية أم الوطنية ، حيث أن سيطرة هذه الشركات تكمن أساساً في التحكم فيما يعرف بمصادر النفط التقليدية وهي التي تعرف بأنها مصادر في الغالب برية وأحيانا بحرية والنفط لزوجته النسبية تقع بين 10-50 درجة كثافة وفقاً لمقياس معهد النفط الأمريكي.
حيث أن درجة اللزوجة هذه من الناحية الجيولوجية ساعدت على تسرب النفط ضمن طبقات الأرض لتنتهي في مصائد كبيرة قابلة للاستكشاف السهل والإنتاج المنخفض التكلفة.
وأن هذا النفط هو الذي عاشت عليه البشرية طوال 200 سنة الماضية و في هذه الفترة كان القائمون في السوق يطردون أي دخلاء عن طريق رفع تكلفة الدخول بشن حرب أسعار “بيع النفط تحت كلفة الإنتاج” لفترات قصيرة كفيلة بإفلاس هؤلاء الدخلاء.
وقد استغرق الأقتصاد وقتاً طويلا ًلتحدي هذا “النموذج المغلق” ولكن اليوم تتسارع المؤشرات التي تدل على أن أيام هذا النموذج باتت وراءنا ومن ناحية تكنولوجية فإن التقنية سمحت اليوم بتخفيض جذري في تكاليف إنتاج النفط غير التقليدية مثل نفط المكامن الصخرية أو ما نطلق عليه اليوم “النفط الصخري” وكذلك نفط الرمال وغيره.
كما أن التوسع في صناعة الغاز الطبيعي أضاف الكثير من السوائل البترولية منخفضة التكاليف الإنتاجية في الأسواق كمنافس للنفط التقليدي بالرغم من التوسع الكبير في صناعات الطاقات المتجددة إلا أن الطلب الأساسي على السوائل النفطية لا يزال مرتفعا ًويتوقع أن يرتفع بصورة معقولة حتى سنة 2040 على الأقل.
وأن كل هذه العوامل تساهم في تغيير بيئة الاستثمار النفطي وتتحدى جوهر “النموذج المغلق” ويمكن القول إن منهجية “اتفاقيات تقاسم الإنتاج” التي اتبعت منذ السبعينات في دول منتجة كثيرة هي بشكل أو آخر تقع من ضمن هذا النموذج الاستثماري ، فتقاسم الإنتاج مبني على جوهرية مفهوم الملكية العامة للموارد الطبيعية وهو تطبيق صريح للنموذج المغلق.
ماهى الإشكالية اليوم ؟
إن هذا النموذج عاجز إلى حد كبير عن توفير عامل الاستمرارية لتمويل الصناعة النفطية وبينما قد تختلف الأهداف الاستراتيجية للمشاركين في الصناعة ألا أن الجميع يسعى إلى توفير الأموال الكافية لأستمرار الصناعة أما عن طريق تنفيذ برامج استكشافية ناجحة أو صيانة الاحتياطات النفطية الحالية وتطويرها بأعلى أساليب التشغيل.
وبدون الدخول في جدلية أيهما أفضل القطاع العام أم القطاع الخاص في هذه المرحلة ولكن الوقائع الاقتصادية والسياسية لازالت تشير إلى أن نموذج الشركات الوطنية النفطية العامة هو مطلب أساسي لتوازن سوق النفط عن طريق الحد من الوصول إلى الاحتياطات النفطية إلا عن طريق الدولة وأن الخيار الآخر في ظل ضعف القطاع الخاص الوطني في الدول المنتجة هو عودة سيطرة دولية على القطاعات النفطية الإنتاجية.
وبينما تهدف الشركات النفطية الكبرى وفقا ًلمنطق القطاع الخاص وآليات السوق إلى الحفاظ على بقائها عن طريق تعظيم الربح ، فأن الشركات الوطنية للنفط تهدف كذلك إلى الحفاظ على بقائها مستقلة انتاجيا ًولكن بمحاولة تقليل نقل العبء الاستثماري لميزانيات دولها.
و لمجرد التوضيح مثلا :
فأن زيادة انتاج برميل واحد يتكلف من الناحية الاستثمارية بين 10,000- 15,000 دولار أمريكي ، مثلا لو قررت المؤسسة الوطنية للنفط أن تزيد الإنتاج بكمية 500 ألف برميل يوميا فهذا سيحتاج إلى استثمار مالي قدره 7.5 مليار دولار.
وهذا سيكون غير مشمول في ميزانيات التشغيل والصيانة السنوية التي عمل على المحافظة على معدل الإنتاج اليومي الحالي.
وبمقارنة العوائد النفطية الحالية بمثل متطلبات هذه التكاليف فأن الشركات النفطية سواء كانت عالمية أم وطنية لا مناص أمامها سوى الاستعانة بموارد استثمارية خارجية ، حيث أن أختيار الاستراتيجيات التي تقود للنجاح مسألة معقدة ومرتبطة بخيارات الشركة وتفضيلات المستثمرين ومرونة القوانين واللوائح في المناطق النفطية.
أمثلة على هذه الاستراتيجيات هو توجه شركات أمريكية مثل اكسون وماراثون للتركيز على صناعة النفط في أمريكا وخصوصا صناعة النفط والغاز الصخري، وهذا الخيار سيعتمد كثيرا على التميز التقني والالتجاء إلى أسواق التغطية المالية لطمأنه المستثمرين، وستعتمد الشركتان على بيع العديد من الأصول الخارجية لتوفير التمويل اللازم لهذا التوجه الاستثماري وكذلك الأمر لشركة شل التى تعتقد أن التوجه إلى الاستثمار في الغاز الطبيعي سيكون أكثر جدوى وبذلك فهي ستتخلى عن الكثير من أصول أنتاج السوائل النفطية للتوسع في عمليات استكشاف الغاز ونقله ، بينما لا توجد رؤية استراتيجية واضحة لشركات مثل بريتش بتروليوم أو توتال الفرنسية.
وأن عمليات بيع الأصول الخارجية للعديد من الشركات العالمية لإعادة ترتيب اقتصادياتها الصناعية تدفع إلى نتائج هامة على الصناعات النفطية الوطنية. أهم هذه النتائج هو تفتيت الصناعة بالنظر إلى أن عملية تعظيم العائد من عملية بيع الامتيازات النفطية ورخص الإنتاج ستكون لعدة مشترين أو مستثمرين مما يجزأ الأصل الواحد فلا غرابة أن تجد اليوم أصلا انتاجيا في اندونيسيا مملوك من 10 مستثمرين مثلا.
حيث أن أتجاه أكبر شركة نفطية في العالم وهى آرامكو إلي بيع أسهم في ملكيتها “وليس في ملكية الموارد النفطية” هو اتجاه استراتيجي آخر حقيقة جديد ولا يمكن أن نقيم آثاره على الصناعة بدقة ألا أنه لا يعني أي شيء سوى بيع ملكية النفط السعودي بالآجل في مقابل تأمين الاستثمارات للصناعة.
وربما سيثور الـجدل هنا حول ما هو الأختيا الأفضل في ليبيا مثلا زيادة نسبة المشاركة الأجنبية في أتفاقيات تقاسم الإنتاج وهي سياسة اتبعتها الجزائر وتتوسع فيها حاليا بغرض زيادة جاذبية صناعتهـــــا للاستثمار الأجنبي ، أو الاستمرار في “النموذج المغلق” ربما عن طريق الاستدانة من بنوك عالمية بغرض الاستثمار وهو خيار مفتوح وممكن نظريا بشرط عودة الامن والاستقرار السياسي.
أن تجارب التوسع في المشاركة مثلا في مصانع اليوريا أو مصفاة رأس لانوف كانت إلى حد ما مخيبة للأمال رغم أن هذا لا يتعلق بقطاع الاستكشاف والإنتاج.
ومن ناحية تقديرية فأن الشركات الكبرى للنفط أو أغلبها غير مهتمة بتطوير أصول إنتاجية في المنطقة مما سيحرم ليبيا من مصدر استثماري مهم ، لذا فمن المتوقع أن تكون الصناعة النفطية في ليبيا هدفاً لموجة أستثمار من ممولين صغار إذا ما سمحت القوانين التي لاتزال تمنع هذا حتى اليوم.
أخيراً و بدون رؤية استراتيجية واضحة حول هذا الأمر فإن الصناعة تبقى مهددة من ناحية العجز في التمويل وتدبير مصادر الاستثمار.