Skip to main content
أبوسنينة يكتب حول آراء وتنبؤات وتوقعات المتعاطين لموضوعات وقضايا الاقتصاد والمالية
|

أبوسنينة يكتب حول آراء وتنبؤات وتوقعات المتعاطين لموضوعات وقضايا الاقتصاد والمالية

كتب: الخبير الاقتصادي د. محمد أبوسنينة

“آراء وتنبؤات وتوقعات المتعاطين لموضوعات وقضايا الاقتصاد والمالية: علم الاقتصاد السهل الممتنع”

ما أكثر أولئك الذين يدلون بدلوهم ويتبرعون بآراءهم فيما يجري على الساحة الاقتصادية في ليبيا اليوم، بل حتى على مستوى الاقتصاد العالمي في بعض الأحيان، خصوصا في مطلع كل عام، والعام المالي الجديد 2020 الذي يشكل مجالًا خصبًا للتوقعات والتنبؤات، وقد وصل الأمر إلى توقع كساد عالمي كبير خلال هذا العام.

وبالرغم من أنه لا يوجد ما يمنع أيا كان من أن يدلي برأيه حول أية قضية اقتصادية، لاسيما وأن الناس اليوم لا يهتمون بخلفيات ومؤهلات من يقومون بالتحليل والتوضيح والتعليق ومصدر معلوماتهم، ممن وجدوا في القنوات الفضائية منابر للتعبير عن آراءهم، أو من خلال غرف وصفحات وسائط التواصل الاجتماعي و منتديات الدردشة (مقاهي الإنترنت)، إلا أن السؤال الذي ينبغي طرحه بقوة هو: على ماذا يؤسس هؤلاء قراءاتهم وتنبؤاتهم واستنتاجاتهم حول مجريات ووقائع الأحداث الاقتصادية والمالية؟ وما هي حجية ما يتوصلون إليه ويدلون به؟

منهجيًا؛ التوقعات التي يجريها الاقتصاديون من ذوي التخصص حول القيم المستقبلية لبعض المتغيرات الاقتصادية مثل معدلات التضخم ومعدلات البطالة ومعدلات النمو الاقتصادي أو الأزمات الاقتصادية … إلى آخره، تؤسس على تحليل للسلاسل الزمنية لبيانات تلك المتغيرات لعديد السنوات أو الشهور أو الفترات الزمنية المتعاقبة، التي تتضمن وتعبر عن سلوك تلك المتغيرات عبر الزمن، وتقييم للمركز المالي لمختلف المؤسسات المالية، وتقييم مدى الالتزام بالمعايير الرقابية الاحترازية الجزئية والكلية.

وهناك شروط ينبغي توفرها في البيانات التي يستخدمها الاقتصاديون في إجراء التوقعات، مثل الاستقرار والكفاية … إلى آخره. بل أن هذه البيانات تخضع لاختبارات إحصائية للتأكد من صلاحيتها وكفاءتها لإجراء التوقعات قبل استخدامها. كما أن القيام بتقدير توقعات لقيم بعض المتغيرات واتجاهاتها قد يتطلب استخدام نماذج اقتصادية قياسية تكون مؤسسة على إطار نظري سليم وفهم عميق للعلاقة بين مختلف المتغيرات الاقتصادية. وبالمثل لمن يستخدم البيانات المقطعية أو الموسمية أو المسوحات، ينبغي التأكد من مدى تكامل تلك البيانات واتساقها وكفايتها حتى يمكن الاعتماد عليها في إجراء التنبؤات وتقدير القيم المستقبلية لبعض المتغيرات الاقتصادية وتبيان كيف تتحقق آثار السياسات الاقتصادية المطبقة والإطار الزمني لتلك الآثار المحتملة، فضلا عن أهمية تحديد اتجاه ثأثير المتغيرات الاقتصادية ضمن ما يعرف بتحديد المتغير التابع والمتغير المستقل.

إن إسقاط بعض الأحداث على حالة الاقتصاد الليبي، دون النظر إلى خصوصيته والظروف الموضوعية التي يمر بها، وتجاهل بعض الحقائق التي تعقد المشهد وتحول دون أية قراءة سليمة لما يجري، يجعل من تلك الإسقاطات التي يقوم بها البعض وتنبؤاتهم، وما تنتهي إليه من قراءة للمؤشرات الاقتصادية المحتملة، أو السياسات التي يمكن أن تطبق، أو الآثار التي يمكن أن تترتب عليها ونتائجها المحتملة، لا يعدو كونه تخمين (يا تخطيء يا تصيب)، باستثناء محاولات بعض المجتهدين من ذوي التخصص أو الخبرة والتي ينبغي أن تؤخد بكثير من الحذر. وهو حال المستخدمين لهذا الفضاء الافتراضي ( الفيسبوك ). وهناك من لا يكتفي بتقديم قراءته للأحداث وتوقعاته بل يشكك في نجاعة ومصداقية الاقتصاديين وتفسيراتهم لمجريات الوقائع والأحداث الاقتصادية، الذين يلتزمون بمناهج البحث الاقتصادي وأصول التنبؤ والتوقعات، وهي مناهج بحث يعرفها الاقتصاديون ويجهلها الكثيرون، ويلقي باللوم على الاقتصاديين ويتهمهم بالتقصير لعدم اقتناعه بقراءتهم للمؤشرات أو نتيجة لعدم توافق هذه القراءات مع ما يعتبره القراءة الصحيحة.

وفي معرض الحديث عن تخصص الاقتصاد، الذى يهتم بالتنبوءات الاقتصادية، نجد هناك من ينظر بدونية لهذا التخصص، وهو أسوأ ما يمكن أن يقع فيه متخصص في مجال آخر، ذلك أن تخصص الاقتصاد هو التخصص السهل الممتنع، وهو علم متطور وبه الكثير من المستجدات والاتجاهات الفكرية الجديدة، ليس فقط في النظرية ولكن في أساليب التحليل والقياس أيضًا. فالاقتصاد ليس قوالب جامدة، ومن يجهل منهجية البحث الاقتصادي وآلياته نجده يصدر أحكامًا لا تمت بصلة إلى الحقيقة، عندما يتهم الاقتصاديين بالتقصير، ومنهم من يرى أن التحليل الاقتصادي يمكن إخضاعه، تكلفا، لضوابط ومعايير ومنهجيات العلوم الطبيعية والتطبيقية الأخرى التي تجرى عادة في المعامل المغلقة والمختبرات، رغم أن مجال علم الاقتصاد ومختبره هو المجتمع، ويهتم بدراسة الظواهر الاجتماعية والسلوكية وتخضع تحليلاته لكثير من التجريد.

وتخصص الاقتصاد ومن يمتهنه لا يعتبر مسؤولا عن الأزمات التي مرت بالعالم، أو تمر بها اقتصادات بعض الدول من وقت لآخر، والتي تكون في معظمها نتيجة لأزمات سياسية أو فساد أو قصور ونقص في المعلومات أو ضعف في أداء مؤسسات المراجعة والمحاسبة أو المؤسسات الرقابية الحكومية، أو نتيجة للمضاربات التي تشهدها الأسواق المالية. ولكن علم الاقتصاد كان في الكثير من الأحيان يقدم الحلول والمعالجات، ويعطي تفسيرا للكثير من الظواهر ومحاولة عقلنتها، وما جوائز نوبل للاقتصاد التي تمنح سنويا إلا اعترافا بمساهمات الاقتصاديين في معالجة وتوضيح مختلف القضايا الإنسانية والفكرية.

والمتتبع لتاريخ الفكر الاقتصادي والوقائع الاقتصادية يمكنه الوقوف على إسهامات علم الاقتصاد المختلفة، وقد تمكن أحد الاقتصاديين الأكاديميين من التنبؤ بالأزمة المالية العالمية 2007-2008 والتي كانت نتيجة لأزمة الرهن العقاري وما تبعه من أزمة النظام المصرفي. أما ما يدلي به بعض الحداق وما يتخذه بعض صناع القرار ، غير المتخصصين من إجراءات ويقدمونه على أنه اقتصاد أو نتيجة لتفكير وتحليل اقتصادي بعيدا عن الفهم السليم لحقائق الاقتصاد ونظرياته، وما يبديه البعض ممن زكوا أنفسهم كمحللين وما يقدمونه كتوقعات أو تنبؤات باتجاهات بعض المتغيرات الاقتصادية دون الاستناد إلى بيانات إحصائية صحيحة أو علم رصين، فهو مجرد تخمين، أكثر من كونه قراءة صحيحة لمجريات الأمور أو توقعات اقتصادية، مما قد يؤدي إلى بلبلة وارتباك في المشهد وتضليل للرأى العام، وقد ينجر وراءه البعض ويؤسس عليه قرارات مهمة. كما أن الكثير مما يعتبره البعض تحليلا اقتصاديا هذه الأيام، لا تتجاوز في كثير من الأحيان المقالة الصحفية التي قد يكتب بعض الصحفيين أفضل منها.

وعندما تخلو الساحة من الاقتصاديين المدربين المحترفين ذوي التخصص، لمختلف الأسباب، يصبح المجال رحبا ومناسبا جدا لهؤلاء للاستمرار في التنجيم والتخمين (التتقيز)، وتصدر المشهد، وهذا الذي يحدث بالفعل. وقد تناولت هذا الموضوع في مقالة سابقة بعنوان: “أزمة التحليل الاقتصادي في ليبيا”.

والحقيقة أن الأمور غير واضحة في حالة الاقتصاد الليبي، ومن يتصدر للتنبؤ والتكهن فهو يجازف بمصداقيته وحياده، في ظل شح البيانات وعدم انتظامها، ويظل ما يصدر من قبل المؤسسات المالية الرسمية المعنية من توقعات ومؤشرات، رغم ما يعتريه من قصور في بعض الأحيان، أفضل من ما يصدر عن بعض الأفراد غير المتخصصين.

هناك إشارات متناقضة ومتغيرات متعارضة تسيطر على الأوضاع الاقتصادية، وما عرف باسم الركود التضخمي (stagflation ) على سبيل المثال إلا تعبير عن ذلك، مما يجعل من التصدي لمهمة التنبؤ بالأوضاع الاقتصادية أمرًا ليس بالهين، فمن جهة نجد زيادة في الإنفاق العام وتدني معدلات النمو الاقتصادي مع ارتفاع مستوى الأسعار وارتفاع معدلات البطالة في آن واحد، ومن جهة أخرى نجد عجزا في ميزان المدفوعات مصحوبا بارتفاع في سعر الصرف الرسمي للعملة، وتضخم الدين العام المحلي وتنامي التزامات الحكومة تجاه الأفراد.

وبالرغم من حالة الركود التضخمي إلا أن هناك من لازال يراهن على انخفاض الأسعار وعلى نجاعة سياسة الرسم المفروض على مبيعات النقد الأجنبي كسياسة يمكن أن تخرج الاقتصاد الليبي من أزمته، رغم أن الآثار العكسية لتلك السياسة قد بدأت تتجسد، على حساب أية نتائج إيجابية قد تكون تحققت في بداية تطبيقها عام 2018، وذلك لخروج تطبيقات تلك السياسة عن سياقها الصحيح ومستهدفاتها النظرية والعملية، ولعدم الالتزام بتطبيق السياسات الاقتصادية المصاحبة اللازمة. والثابت هو حالة عدم الاستقرار والانقسام والتشظي السياسي والمؤسساتي والاحتراب المستمر، وهو الواقع الذي لن تنجح في ظله أية سياسة اقتصادية في تحقيق أهدافها، وتصبح كل التوقعات محل شك، وأن الاقتصاد يظل مفتوحا على كافة الاحتمالات ليس أقلها الكساد.

وعليه فإن من يدعي القدرة على تفسير المتغيرات الاقتصادية والتنبؤ بمستقبلها، ويتبرع بقراءة لما ستؤول إليه الأوضاع، ويقدم أرقاما ونسبا، وحتى لا يساهم في تظليل الناس وتعميق حدة الأزمة الأحرى به أن يطور معارفه ويبذل المزيد من الجهد والبحث عن المزيد من البيانات والمعلومات، وأن يحاول أن يتحفظ كثيرا قبل التصريح، وأن يؤسس قراءته على أساس اقتصادي نظري سليم، وأن يتجرد من العاطفة أو الحسابات الشخصية. كما ينصح من يمتهن التصريح بتوقعات وتنبؤات حول المتغيرات الاقتصادية ومؤشرات الاقتصاد الكلي أن يقتدي بما تقوم به المراكز البحثية المتخصصة وبيوت الخبرة ومراكز وجماعات التفكير في العالم، والتي لا تصدر توقعاتها إلا بعد دراسة معمقة لكافة المتغيرات، ولا تكون توقعاتها وليدة اللحظة أو في شكل ردود أفعال. وكثيرا ما تضطر المؤسسات الدولية المتخصصة لتصحيح توقعاتها والتراجع عن توقعاتها المعلنة على ضوء ما يستجد من بيانات ومعلومات، وتقوم بتصحيحها التزاما بالمهنية وللمحافظة على مصداقيتها.

ونرى أن تأسيس وتطوير مؤسسات متخصصة في التحليل الاقتصادي وبناء قاعدة بيانات لمختلف المتغيرات الاقتصادية واتجاهاتها وتنفيذ المسوح واستطلاعات الرأي العام يعتبر مطلبا أساسيا لدعم السياسات والقرارات الاقتصادية والاجتماعية في ليبيا. بل أن بناء نموذج اقتصادي قياسي كلي للاقتصاد الليبي أصبح أمرًا ضروريًا. وما لم تكن هناك بيانات إحصائية منتظمة في شكل سلاسل زمنية أو بيانات مقطعية ( cross sectional) دقيقة، ومعرفة وخبرة متراكمة عبر السنين، وراء أية قراءة للأوضاع الاقتصادية أو تنبؤات بمستقبل المتغيرات الاقتصادية، فإن تلك القراءة أو التنبؤ لن تعدو كونها نمط من التخمين أو تصورات بما يمكن أن يكون عليه المشهد والأحداث. وعلى المتلقي لهذه التخمينات أن لا يندفع ورائها ويأخذها بمحمل الجد ويؤسس عليها قرارات مهمة طالما كانت لا تراعي أصول ومنهجيات التحليل والتنبؤ الاقتصادي السليم.

مشاركة الخبر