قال أحد أبرز الخبراء الاقتصاديين عمر زرموح إن البلاد تواجه تحديات كبيرة مع استمرار حصار الموانئ والحقول النفطية والذي أدى إلى انخفاض تصدير المؤسسة الوطنية للنفط لمستويات متدنية لأول مرة منذ 2011.
وفي مقابلة خاصة مع صحيفة صدى الاقتصادية، تحدث زرموح عن الخيارات المتاحة للمصرف المركزي وحكومة الوفاق الوطني للتعامل مع الوضع في ظل ظروف الحرب والانقسام السياسي، إضافة إلى نقص أموال العائدات النفطية.
وأشار عمر زرموح إلى أنه لا توجد حلول كثيرة سوى فك الحصار عن الموانئ والحقول النفطية حتى تتجنب البلاد تبعات انخفاض الصادرات كما حدث في الماضي القريب. وقد تؤدي طول فترة انخفاض الصادرات إلى لجوء الحكومة للاقتراض من المركزي في طرابلس وتؤثر بشكل سلبي على المواطن والسوق وتعصف بحالة الاستقرار الاقتصادية الهشة.
وفي ما يلي نص المقابلة:
كيف تقيم الوضع الاقتصادي والمالي اليوم في البلاد؟
في البداية، من المعلوم أن الاقتصاد الليبي هو اقتصاد ريعي يعتمد على النفط بالدرجة الأولى، حيث يمثل النفط نسبة تصل أحيانا إلى 70% أو أكثر من الناتج المحلي الإجمالي، وهذه النسبة تنخفض وترتفع وفق معدلات إنتاج النفط، وهي في كل الأحوال نسبة مرتفعة جداً وتعبر عن انخفاض إنتاج القطاع غير النفطي. لقد كان من المفترض استغلال وجود النفط لتحقيق التنمية وخلق اقتصاد متنوع وقوي لحفظ حق الجيل الحالي والأجيال القادمة في ثروة النفط، لكن النظام السابق لم يفلح في توظيف مورد النفط بشكل صحيح وأعطى الأولوية لمقولاته وكرس هيمنة القطاع العام على كل شيء. وهذا لا يعني أن النظام السابق لم يقم بتنفيذ مشروعات تنموية مهمة لأنه في الواقع أقام فعلاً عدداً من المشروعات التي كانت جيدة مثل الصناعات الكيماوية والبتروكيماوية وصناعات الأسمنت والحديد والصلب لكن هذه الصناعات لم تكن كافية ولم تعطِ الفرصة لخلق التشابك الاقتصادي أو ما يعرف بالروابط الأمامية والخلفية بدرجة تذكر ومن ثم لم تحقق هذه المشروعات وكذلك المشروعات الصغيرة الأخرى الهدف المنشود منها في دعم الاقتصاد الوطني وخلق التنمية بل ولا المضي خطوات ملمومسة في اتجاه التنمية الاقتصادية كما فعلت دول أخرى مثل دول جنوب شرق آسيا.
إن فشل النظام السابق في التنمية الاقتصادية جعل النفط مهيمنا على الناتج المحلي بصورة مستمرة، وهذه الهيمنة ظاهرة أيضاً على صادرات البلاد مقابل نسبة ضعيفة جدا للصادرات غير النفطية، وتأثر احتياطيات ليبيا بها، كما أنها ظاهرة على إيرادات الميزانية العامة للدولة، حيث تضاءلت في هذه الإيرادات مساهمات الضرائب والجمارك والمشروعات التي أنشأتها الدولة ويفترض أن تساهم بعائد من أرباحها.
إن الاقتصاد الليبي اقتصاد ضعيف وإن تراءى للبعض أنه مزدهر أو يمكن أن يكون مزدهراً بسبب وجود قطاع النفط، لأن الحقيقة هي أن ضعف الاقتصاد يرجع إلى ضعف الأنشطة غير النفطية مما أصبح معه الاقتصاد حساساً جداً للتغير في الإيرادات النفطية وهي الإيرادات التي تحكمها الكميات المنتجة من النفط محلياً وأسعار النفط العالمية.
مع استمرار توقف تصدير النفط في البلاد، ما هي الآثار قصيرة وطويلة المدى؟
من الناحية القانونية أعتقد أن إيقاف الصادرات النفطية بهذا الشكل العبثي الذي نسمع عنه يعتبر من الجرائم الاقتصادية التي يعاقب عليها القانون؛ لأن هذا الفعل يمس المركز الاقتصادي للدولة حيث يعرض اقتصاد الدولة برمته للانهيار خاصة إذا طال أمد الإغلاق. إن إغلاق النفط وانخفاض إنتاجه إلى ربع ما كان عليه سيؤدي من الناحية الاقتصادية، إلى تراجع الإيرادات النفطية التي بدورها ستؤدي إلى انخفاض إيرادات الميزانية العامة للدولة، كما ستؤدي إلى تآكل احتياطيات ليبيا من النقد الأجنبي لدى مصرف ليبيا المركزي إذا اضطر المصرف إلى السحب من الاحتياطي لتمويل الواردات بسبب انخفاض أو نضوب الإيرادات النفطية الأمر الذي يؤدي بدوره إلى ارتفاع أسعار النقد الأجنبي مما يؤدي أيضاً إلى ارتفاع الأسعار. لذلك فإن المساس بقطاع النفط يؤثر بشكل خطير على هذه الجوانب الحيوية. ولذلك أيضاً حذرنا منذ عام 2013 ولازلنا نحذر من هذا النوع من العبث ونطالب بعدم السماح به بل وندعو إلى تحييد قطاع النفط من أي تجاذبات سياسية أو عسكرية.
ما هي توقعاتك حول الترتيبات المالية للحكومة خلال العام الحالي؟
شهد العام الماضي 2019 استقراراً نسبياً في إنتاج النفط رغم العدوان على طرابلس الذي بدأ يوم الرابع من أبريل ورغم بعض الاعتداءات على بعض الحقول النفطية. وقد ساهمت الإيرادات النفطية في تمويل الميزانية العامة للدولة بنسبة 69% بينما تضاءلت الإيرادات غير النفطية إلى نحو 5% مما شكل في مجموعها 74% من الإنفاق الفعلي للميزانية. ولذلك بقيت القيمة الأخرى عجزا تمت تغطيته بجزء من إيرادات الرسوم على بيع النقد الأجنبي، وهذا يعني أن ميزانية عام 2019 كانت في حقيقتها تعاني من عجز من الناحية الاقتصادية قدره حوالي 26%.
اليوم، في سنة 2020 ومع توقف الصادرات النفطية وحالة الاضطراب الناجمة عنها مما اضطر المؤسسة إلى إعلان حالة القوة القاهرة، أتوقع أن يكون عجز الميزانية الذي سيعتمد بالترتيبات المالية كبيراً مقارنة بالعام الماضي 2019 خاصة إذا استمرت فترة إغلاق النفط. ولا شك في أن عجز الميزانية يعتبر مشكلة كبيرة بالنسبة لأي دولة، ويحتاج إلى تدبير تغطية له، وهذه التغطية سوف ينص عليها، في حالتنا الراهنة، قرار الترتيبات المالية، وأتوقع أن تكون خصماً من إيرادات الرسوم على مبيعات النقد الأجنبي كما حصل في العام الماضي.
هذه التغطية بحسب تقييمي الاقتصادي ستكون بمثابة قيام الحكومة بالاستدانة من مصرف ليبيا المركزي لتغطية العجز (تمويل الميزانية بالعجز) رغم أنها من الناحية العملية ليست استدانة. ولتوضيح هذه النقطة يمكن القول أنه من المفترض أن إيرادات الرسوم على مبيعات النقد الأجنبي لها هدف خاص وبرنامج خاص ليس هو تمويل الميزانية بل تخفيض الدين العام وتقليص عرض النقود والسيطرة على سعر صرف النقد الأجنبي في السوق الموازية والنزول به إلى مستوى سعر الصرف التوازني المستهدف. لذلك فإن استخدام هذه الإيرادات كلياً أو جزئياً لتمويل عجز الميزانية يساوي إدخال هذه الإيرادات لسداد الدين العام ثم سحبها لتمويل عجز الميزانية. وهذه العملية تعني إفشال أو تعطيل حل مشكلة سعر الصرف وسبباً في إطالة فترة تخفيض تلك الرسوم.
من المعروف أن التمويل بالعجز بالاستدانة من مصرف ليبيا المركزي يؤدي إلى التضخم ولذلك يطلق عليه “التمويل التضخمي” ولكن من المعروف حالياً أن الأسعار متضخمة جداً مقارنة بما كانت عليه قبل خمس سنوات وأن برنامج فرض الرسوم لم يفلح في تخفيض الأسعار إلا بنسبة متواضعة، ولو استمر هذا البرنامج دون استخدام إيراداته في تمويل عجز الميزانية (أي لو أمكن اعتماد ميزانية متوازنة) لشهدنا انخفاضاً أكثر في الأسعار، لكن بالنظر إلى ما حصل فعلياً العام الماضي وما أتوقعه هذا العام وبفرض عودة عمليات إنتاج وتصدير النفط إلى مجراها الطبيعي، فقد لا تنخفض الأسعار إذا استمر استخدام إيرادات مبيعات النقد الأجنبي في تمويل العجز. من جهة أخرى فإن استمرار إغلاق النفط مع استمرار استخدام إيرادات مبيعات النقد الأجنبي في تمويل العجز فإنهما معاً سوف يسببان ضغطاً على الأسعار نحو الارتفاع، وهذا ما لا نتمناه، وهذا أيضاً يؤكد مرة أخرى ضرورة تحييد قطاع النفط عن كل التجاذبات.
من جهة أخرى، فإن مصرف ليبيا المركزي يمتلك من الاحتياطيات الجيدة ما يمكنه من احتواء وحل المشكلة وتقليل الأثر السلبي لها في الأجل القصير أي في حالة توقف الصادرات النفطية لفترة قصيرة ثم عودتها إلى مجراها الطبيعي بعد ذلك. ولكن إذا طالت فترة التوقف، فإنه على الرغم من توفر تلك الاحتياطيات، فلن يكون من الحكمة الاعتماد عليها بشكل دائم ومباشر لأن هذه الاحتياطيات لا يمكنها أن تصمد طويلا إذا استمرت أزمة إغلاق الحقول والموانئ.
هل يمكن الحصول على أموال وتغطية العجز من خلال الاعتماد على الضرائب وأمور أخرى؟
كما أشرت في إجابة سابقة، هناك نقطة ضعف كبيرة تتمثل في انخفاض حجم الإيرادات غير النفطية والتي تتكون من الضرائب والرسوم الجمركية وإيرادات المشاريع الأخرى التي تساهم الدولة كلياً أو جزئياً في رؤوس أموالها، حيث لا يبدو أن الدولة تستفيد من تلك المشاريع التي أنشأتها. يلاحظ من تقرير مصرف ليبيا المركزي عن ميزانية الدولة لعام 2019 أن قطاع الاتصالات يساهم في تمويل الميزانية بشكل ملحوظ، لكن مقابل ذلك تبقى معظم الشركات الأخرى بما فيها المؤسسة الليبية للاستثمار التي تورد التقارير أن رأس مالها 65 مليار دولار لا تساهم في إيرادات الدولة. لا شك أننا نتمنى أن تكون مساهمات تلك المصادر تفوق نسبة 25 % من الميزانية وليست 5% فقط. هذا الانخفاض في الإيرادات غير النفطية يعني أن الاستغناء عن إيرادات النفط في الوقت القريب هو من المستحيل.
لابد من تنشيط الإيرادات غير النفطية، رغم أن ذلك لا يؤدي للاستغناء كلياً عن الإيرادات النفطية في دعم الميزانية، لكن لا شك في أنه إذا تحقق سيكون خطوة في الطريق الصحيح.
هل تعتقد أنها فرصة ذهبية لرفع الدعم عن والوقود والمحروقات الأخرى؟
لا أبداً لا أعتقد ذلك، ومثل هذا القرار ليس حلا في الوقت الحالي على الإطلاق، الحل هو كف الأيدي العابثة بهذا القطاع الحيوي. وإلى أن يتحقق ذلك يمكن للحكومة أن تتأخر قليلاً في دفع قيمة الدعم بحيث تدفعه بعد أن تتحسن الأمور. من جهة أخرى، فإن رفع الدعم في كل الأحوال يجب أن يكون تدريجياً وفي ظروف مستقرة نسبياً. أما رفع الدعم فجأة في الظروف الحالية، فإنه يخلق هزة اقتصادية قد تكون عواقبها وخيمة، ومن المعروف أن الاقتصاديين لا يمكنهم أن يقترحوا أو يطرحوا أي سياسة اقتصادية تسبب في إرباك الاقتصاد الوطني. دائما السياسات الاقتصادية يجب أن لا تخلق أي نوع من الاضطراب بل عليها وضع سياسات تساهم في تخفيض حدة الاضطراب إذا وقع لأي سبب من الأسباب.
هل نتوقع زيادة الرسوم المفروضة على بيع النقد الأجنبي نتيجة توقف تصدير النفط؟
طبعاً لا أتوقع ذلك ولا أوصي به لأني ببساطة لا أتوقع استمرار أزمة توقف الصادرات النفطية لفترات طويلة كما قد يتصور البعض، رغم أن في بلادنا كل شيء ممكن. من وجهة نظري، يجب على الدولة أن تكون سياستها الاقتصادية واضحة لا تترك الناس في حالة من التشاؤم والضبابية. وعلى الرغم من تحفظي القانوني على قرار المجلس الرئاسي رقم 1300 لسنة 2018 إلا أنني من الناحية الاقتصادية أتعامل مع هذا القرار بالشكل الذي يجنب الاقتصاد الليبي أي أضرار اقتصادية. لا شك أن ليبيا تمتلك، كما أسلفت، احتياطيات جيدة من النقد الأجنبي، تمكنها من تلبية الطلب على النقد الأجنبي لفترات قادمة إلى أن تحل الأزمة. أما التفكير في إصدار قرار بزيادة رسوم بيع النقد الأجنبي، فأراه بمثابة التفكير في الإعلان عن فشل هذا البرنامج، وسوف يؤدي إلى زعزعة الثقة في سياسة الدولة الاقتصادية لدى المتعاملين، مما قد يقفز بسعر صرف النقد الأجنبي إلى مستويات مرتفعة. على النقيض من هذا التفكير كنت أتمنى من السيد محافظ مصرف ليبيا المركزي أن يخرج عبر الإعلام ويطمئن الشعب بأن مصرف ليبيا المركزي ملتزم ببرنامج سعر الصرف الذي بدأ بصدور قرار المجلس الرئاسي رقم 1300 لسنة 2018 وأنه لا يوجد أي تفكير في زيادة النسبة 163% المفروضة على بيع النقد الأجنبي، بل عكس ذلك سيبقى هاجس المصرف هو العمل على تخفيض هذه النسبة، وقد تم بالفعل تخفيضها من 183% إلى 163% في 30 يوليو 2019 رغم ظروف الحرب.