كتب: عبدالله ونيس الترهوني، أخصائي اقتصاديات النقل
في عالم صناعة النفط قد يكون الرقم 20 ومنذ يوم أمس الاثنين نذير شؤم، فالعام الحالي من بين الأسوء في تاريخ صناعة النفط العالمية، فقد هوت أسعار خام برنت القياسي Brent من أعلى سعر لها في العام 2019 وعند سعر68 دولار للبرميل ولأكثر من الثلثين وعند سعر يزيد قليلاً عن 22 دولار للبرميل بنهاية الربع الاول من العام 2020، ثم تعافي السعر قليلاً خلال شهر أبريل الجاري ليسجل أسعار قريبة من 32 دولار للبرميل، قبل أن يتراجع قليلاً يوم أمس الاثنين متأثراً باضطراب السوق الأمريكية ولكنه استقر قريباً من سعر 25 دولار للبرميل، في مقابل ذلك عانى الخام الأمريكي WTI من تذبذبات السعرخلال العام الجاري ولكنه بقى فوق سعر 15 دولار للبرميل خلال الربع الأول من العام، بالرغم من أن أغلب التوقعات ذهبت إلى استحالة تراجع سعره لأقل من سعر 15 دولار للبرميل.
ولكن مع بدء التداولات في السوق الأمريكية في اليوم قبل الأخير لتسليم شهر مايو وهو يوم الاثنين 20 أبريل وبالتوازي مع وصول المخزونات الأمريكية للذروة فقد انهار كل شئ وبدون أي مقدمات وخلال ساعات، وسجل الخام الأمريكي أكبر تراجع له في التاريخ، بل أنه دخل للمنطقة السالبة لأول مرة، وسجلت الأسعار قبل إغلاق يوم الاثنين تراجعاً زاد عن نسبة 310% مقارنة مع سعره عند الاقتتاح، وبسعر زاد عن (-38) دولار للبرميل، أي أنه بإمكان المُشترين شراء البترول الأمريكي الخفيف مجاناً وفوقها 38 دولار يقدمها البائع للشاري عن كل برميل يبيعه، وفي المقابل فإن هذا السعر لن يستمر، لأنه مع افتتاح الأسواق يوم الأربعاء 22 أبريل سيكون تسليم كل الشحنات النفطية خلال شهر يونيو، وخلال هذه الفترة سيكون المشترين والمستهلكين قد استهلكوا أو باعوا جزءاً من المخزون الحالي الذي وصل تقريباً إلى التخمة في الولايات المتحدة وعند 503 مليون برميل والتي كان قد سجلها الأسبوع قبل الماضي، وهو بالمناسبة ثاني أكبر مخزون والذي كان قد سجله في العام 2017 عندما وصل المخزون في الولايات المتحددة إلى 535 مليون برميل.
الجدير بالذكر أن كميات النفط المخزنة بصهاريج ناقلات النفط الخام العملاقة قد ارتفعت هي الأخرى الأسبوع الماضي لتصل إلى 160 مليون برميل، وهذا يوضح التخمة في المعروض في السوق العالمي بالتوازي مع تراجع الطلب العالمي على النفط بنحو %30 منذ بداية العام الجاري بسبب تداعيات فيروس كورونا وإقفال عدد كبير من المصانع ومصافي البترول حول العالم، وبمناسبة الحديث عن النقل والتخزين وفيما يخص النقل البحري للخام تحديداً، فقد تضاعفت أسعار النقل البحري والمعروفة بالنولون (Freight) بسبب الطلب على إيجارالسفن العملاقة، فقد وصل نولون ناقلة خام من طراز VLCC بحسب موقع Hellenic shipping سعر 62.500$ لليوم بنهاية الأسبوع الثاني من شهر إبريل الجاري صعوداً من سعر 31.000$ لليوم كان قد سجلها سعر النولون بنهاية الأسبوع الثاني من شهر مارس الماضي.
لقد أوضح بعض خبراء النفط الليبيين الفرق بين انخفاض سعر الخام وسعر العقود الآجلة، وأن ماحصل يوم الاثنين هو انهيار أسعار العقود الآجلة للخام الأمريكي تسليم شهر مايو بسبب أن كلفة التخزين قد فاقت كلفة الخام نفسه الذي لازال تنتجه الحقول الأمريكية، ولذا وجب التخلص من الكميات المتوفرة في السوق فوراً وقبل يوم الأربعاء، بل وأضاف البعض أن البائعون في أمريكا ليسوا بالضرورة هم المنتجون، وفي كل الأحوال فأن معظم منتجي النفط الأمريكيين هم محميون من المخاطرة بسبب تغطيتهم المسبقة، وقد صب تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في هذا الاتجاه عندما قال في مؤتمره الصحفي اليومي بأن تراجع أسعار النفط هو أمر عابر وذلك بسبب الوضع الحالي والمقصود به تأثير جائحة كورونا، وفي المقابل فإن شركات النفط الأمريكية ليس أمامها أي خيار إلا بخفض الإنتاج وبنفس كمية الاستهلاك اليومي لكي تبقى في مأمن (أي أن العرض أقل من أو يساوي الطلب)، ومالم تقم شركات النفط الأمريكية بخفض انتاجها فإن سيناريو اليوم سيتكرر في بحر أسبوعين أو ثلاثة على أقصى تقدير.
كما تجدر الاشارة أيضاً إلى أن الخام الامريكي في حد ذاته يُعاني من مشكلتين رئيسيتين بالمقارنة مع باقي الخامات النقطية الدولية الأخرى: الأولى أنه يقع في سوق مغلقة ضعيفة القدرة التصديرية، فلا يمكن تصديره للخارج بكميات للتخفيف من الضغط على سعره محليًا، والثانية أن السوق الأمريكي للبترول سوق غير مركزي، فالسعر يحدده السوق ولايمكن حتى للرئيس الأمريكي من التدخل فيه، في حين أن تسعير خام برنت يختلف عن ذلك قليلاً، والدليل على ذلك هو إجتماع أوبك بلس الأسبوع الماضي لخفض الإنتاج دعماً للسعر وهو مالم نسمع به أو نعهده في السوق الأمريكية.
فيما رأى بعض الاقتصاديين الليبيين أن مزيج الطلب والسعة التخزينية للولايات المتحدة، بالإضافة إلى نظام التسعير والذي يشمل السعر الفوري والعقود الآجلة للنفط كانا كفيلين بهذا الانهيار ولكن ليس بهذه السرعة الجنونية التي كانت مفاجأة للجميع، وفي المقابل فإن إنتقال عدوى هذا الانهيار إلى خام برنت والسوق الدولية للخام سيكون محدود جداً وذلك بحكم نوعية الخام نفسها وأماكن انتاجه وقربها من أماكن استهلاكه ونظام تسعيره المختلف عن تسعير الخام الأمريكي السالف الذكر، والدليل على ذلك الاتفاق التاريخي الذي توصلت له منظمة الدول المصدرة للنفط مع منتجي الخام من خارج أوبك في اجتماع أوبك بلس والذي ساعد في إنقاذ سوق هذه الخامات من الانهيار من جهة، وإن كانت بعيدة عن أسعار العام 2019 وهو مازاد من طمأنة المستثمرين، وأنها محاولة جادة لموازنة الطلب والعرض من جهة أخرى.
وختامًا، فأرى أن ماحصل هو شئ متوقع وإن كان سابقة تاريخية، وأن تكرارها مرهون بتقدير الأمريكيين أنفسهم سواء المنتجين منهم أو تجار النفط في الموازنة بين العرض والطلب على خامهم، مع الأخذ في الاعتبار السعة التخزينية، وأنهم ليسوا في مأمن من تكرار ماحصل اليوم، وفي كل الأحوال فإنه لاخيار أمامهم إلا بخفض الانتاج، كما أرى أن الاقتصاد الأمريكي سيظل يعاني فيما تبقى من العام الجاري، وأن جائحة فيروس كورونا المستجد لازالت تلقي بظلالها على الاقتصاد العالمي، والذي تراجع بشكل واضح بنهاية الربع الأول من العام الجاري (وإن لم تُعلن النتائج الفصلية بعد)، وأنه بدون اكتشاف لقاح أو إنحسار رقعة إنتشار الوباء وبالتالي عودة دوران عجلة الاقتصاد العالمي لطبيعتها فإن الطلب على النفط سيتراجع أكثر مما هو عليه الآن، وأن الدرس المستفاد مما حصل هو أن على الدول تنويع مصادر دخلها القومي بما فيها تلك التي حباها الله بثروات طبيعية، في حين يبقى عقل (فكر) الإنسان هو الثروة الحقيقية لأي أمة، فهو ثروة لا تنضب ولا تقدر بثمن.