| مقالات اقتصادية
قراءة لدراسة بعنوان تغير دور الدولة في ظل جائحة فيروس كورونا المستجد COVID-19 “الجزء الرابع والأخير”
كتب: د، عبدالله الترهوني – أخصائي اقتصاديات النقل
لقد تغيرت نظرتنا للأشياء بشكل جذري خلال ما انقضى من العام 2020 على الأقل، فقد صار شراء الكمامة على سلم الأولويات، في حين صار السفر والسياحة نسياً منسيًا، وأن العمل أو الدراسة من البيت كانت وهماً أو سراباً قبل أشهر وها هو اليوم حقيقة ماثلة أمام الجميع، فمن منا كان ليصدق أن حركة الطيران العالمية ستنخفض بنسبة 85% بين مطلع شهر إبريل 2020 بالمقارنة مع حركة الطيران مع نهاية شهر ديسمبر2019، بل ومن سخرية القدر أيضاً أن هذا الانخفاض قد انعكس إيجاباً على البيئة العالمية وبالأخص في الدول الأكثر سبباً للتلوث (الدول الملوثة) كالصين والهند، ومن جانب آخر فقد أعادت هذه الجائحة للواجهة بعض المفاهيم القديمة التي كانت منسية أو بالأحرى بقيت حبيسة أدراج النسيان ردحاً من الزمن وقد طغت عليها العولمة بمفاهيمها وتقلباتها: كمفهوم الدول القومية والأمن الغذائي والأمن الوبائي، فقد رأينا كيف أغلقت الدول حدودها، وكيف تدخلت الحكومات في الاقتصاد، وكيف تحولت بعض المصانع من مصانع للسيارات إلى مصانع لإنتاج الكمامات وأجهزة التنفس، وكيف استنجدت بعض الدول الكبرى وهي في أوج الأزمة بالطواقم الطبية من دول صغيرة، بل وعرضت على من سيأتيها طوعاً من أطباء الدول الأخرى حق الإقامة الدائمة أو حتى التجنس بجنسيتها.
من الشواهد في عصر كورونا أن النظريات الاقتصادية قد أصابها الشلل، كما انهار العرض والطلب في نفس الوقت، ولم نعد نسمع بالتهافت على الثروات الطبيعية مثل الذهب والنفط والغاز بل صار الحديث عن الإنسانية وعن الجيش الأبيض وعن المناعة وعن الكمامات وأجهزة التنفس…الخ، وتحول الكلام من السياسات الاقتصادية إلى الكلام عن سياسات البحث العلمي، كما صار الحديث عن منح النياشين والأنواط والتكريم لصالح الأطقم الطبية التي هبت لإنقاذ البشرية عوضاً عن منحها للسياسيين والقادة، وفي مقابل كل هذا فإنني أعتقد أن قارة أوروبا ستدفع ثمن شيخوختها، وأن الولايات المتحدة ستدفع ثمن رعونة رئيسها ودولارها غير المربوط بالذهب، وأن قارة أفريقيا ستدفع ثمن تخلفها وسباتها الطويل، وأعتقد أيضاً أن قوة اقتصاد الدول ستتوقف على بناء رأس مالها البشري والمادي خلال فترة الجائحة وما بعدها على الرغم من أن الحفاظ على رأس المال البشري سيكون صعباً وبالأخص في الدول الفقيرة والمتخلفة، والسبب حسب هو هجرة العقول والأيادي العاملة الماهرة من هذه الدول وفي اتجاه الدول الكبرى والغنية سيزداد أكثر من قبل، كما أن الاهتمام بصحة الإنسان وتشجيع البحث العلمي في جميع الدول صار حتمياً، وفي هذا الإطار فقد خلصت دراسة قام بها البنك الدولي خلال فترة الجائحة ونشر نتائجها مطلع شهر يونيو 2020 إلى أن تطبيق تدابير الاستجابة قصيرة الأجل للتصدي لحالة الطوارئ الصحية، وتوفير الخدمات الأساسية لابد أن يصاحبها إتباع سياسات شاملة لتعزيز النمو طويل الأجل، وذلك عبر وسائل متنوعة من بينها تحسين نظم الحوكمة، وبيئات الأعمال، وتوسيع الاستثمار في مجالات التعليم والصحة العامة، وفي المقابل فإنه لزيادة صلابة اقتصادات الدول في المستقبل وتعزيز قدراتها على مواجهة الصدمات فإنها تحتاج إلى أنظمة تمكنها من بناء رأس متنوع رأس مال بشري وآخر مادي، بل واستدامتهما خلال مرحلة التعافي وذلك باتباع سياسات أكثر نضجاً وتكيفاً، وبالتالي فإنه يتوجب على الدول بناء أشكال جديدة من:- الوظائف، ومنشآت الأعمال، أما بعد انحسار الجائحة فستكون الأولوية لبناء وتعزيز أنظمة الحوكمة.
من الملاحظ خلال فترة الجائحة أنه بالرغم من حدوث خلل كبير في سلاسل التوريد والإمداد العالمية فإن قطاع النقل الجوي العالمي والذي أصابه الشلل فقد كان آدائه مغايراً تماماً لآداء قطاع النقل البحري العالمي النشط والذي يُمثل العمود الفقري للسلاسل العالمية للتوريد إذ أنه لم يتوقف عن العمل، فظلت سفن نقل البضائع تعمل كالمعتاد، وموانئ العالم لم تقفل أبوابها لا في وجه السفن ولا في وجه المتعاملين معها من الأفراد، وفي مقابل ذلك فإنه وبكل أسف ظل أكثر من 350,000 من أطقم السفن والمنصات البحرية حول العالم عالقين ولم يستطيعوا الحصول على إجازاتهم والعودة لأسرهم جواً، وذلك بسبب توقف حركة النقل الجوي العالمي، ومن جانب آخر على المدى المتوسط (بين سنتين إلى خمس سنوات) فإن اقتصادات الأسواق الناشئة واقتصادات البلدان النامية ستكون هي الأشد تضرراً بسبب الجائحة، والسبب هو أنها تُعاني من الأساس من ضعف واضح في أنظمتها الاقتصادية والصحية، وأن اقتصاداتها تعتمد إعتماداً كبيراً على التجارة و/أو على صادرات السلع الأولية و/أو على السياحة و/أو على تحويلات المغتربين من الخارج، وبالتالي فإن هذه الاقتصادات ستعاني من إرتفاع (تفاقم) ديونها، وهو ما يجعلها أكثر عُرضةً للضغوط والأزمات المالية على المدايين المتوسط والبعيد، دون أن نغفل عن الاقتصادات الكبرى شهدت وتشهد هي الأخرى تراجعاً ملحوظاً خلال فترة الجائحة وسيتجاوز تراجع بعضها 10% على أساس سنوي.
من نافلة القول بأن الثوابت والنظريات الاقتصادية قد تعرضت لهزات وتغرات هيكلية كنتيجة مباشرة لإنتشار الفيروس، بحيث تضاعفت الأعباء الاقتصادية التي تواجهها الاقتصادات الوطنية، وتزايدت معها معدلات الفقر وتهديدات الأمن الغذائي، ونتج عن ذلك:- تدخل ثم توسع أدوار الدولة في الاقتصاد، وذلك بالتوازي مع التغيرات والتحولات في ثوابت وأعراف المالية العامة، وكل هذا أدى إلى ظهور مشكلة حقيقية أصبحت تواجهها الشركات الصغرى والضعيفة والمتمثلة في مدى صمودها على البقاء، وفي المقابل فقد حققت أنماط الاقتصاد الإفتراضي العالمية مكاسب ضخمة خلال فترة الجائحة، وأنه من المتوقع أن تُسفر الجائحة عن تشكل “عولمة التباعد الدولي”، والتي تقوم على إرتداد الدول للداخل وتركيزها على اقتصاداتها الوطنية مع تقليص التجارة والتدفقات البشرية العابرة للحدود وعودة قيود الحمائية التجارية، ولكننا ستشهد إزدهار في اقتصاد الخدمات ونقل التكنولوجيا وأنماط الاقتصاد الإفتراضي بما فيها العمل والدراسة عن بعد، وسيتحول التوظيف قريباً وفقاً للمهارات لا الشهادات.
في ختام هذا المقال التحليلي عن تعاظم دور الدولة أو القطاع العام في عصر كورونا وما بعدها فإن هناك عدة أسئلة تطرح نفسها وبقوة على الرغم من أنه لا أحد يمتلك إجابة قاطعة عما ستكون عليه ملامح وتفاصيل المرحلة المقبلة من الجانب الاقتصادي العالمي على الاقل:- فهل إنتهى عصر النظريات الاقتصادية المبنية على التحكم في رأس المال، وعلى الربح والمنفعة فقط؟ ثم إلى أي مدى سيثبت النظام الرأسمالي قدرته وفاعليته في التعامل مع كل أطوار الأزمة؟ وهل سنشهد تنامياً في دور المؤسسات ذات الطبيعة الكونية (متعددة الجنسيات) أم أن الدولة ستظل حجر الأساس في النظام العالمي؟ وهل سيتغير المفهوم الحالي للعولمة ونشهد عودة الدولة المنغلقة على نفسها مع تعزيز قيود الحمائية الاقتصادية؟ وهل سيشهد العالم تحولًا في أقطابه الاقتصادية الراهنة؟ ثم كيف ستنعكس جائحة كورونا على الدور الصيني المتصاعد عالمياً؟ وهل سيتوقف التغير المناخي وتعود مستويات طبقة الأوزون إلى ماكانت عليه قبل الثورة الصناعية الثالثة؟ وهل ستكون البشرية أكثر تعاوناً وإنسانية في المستقبل؟ وهل سنشهد إهتمام حقيقيًا بالبحث العلمي في كل دول العالم في المستقبل؟ ثم هل ستكون صحة الإنسان والأمن الغذائي والوبائي والسيبراني أولوية لدى الدول؟…
بكل تأكيد فإن الإجابة لازالت في رحم الأيام والسنين القادمة!
رابط الجزء الأول من المقال
رابط الجزء الثاني من المقال
رابط الجزء الثالث من المقال