كتب: د. عبدالله ونيس الترهوني ـ أخصائي اقتصاديات النقل
لقد استطرد نفس الخبير قائلاً أنه لا يمكننا في ليبيا الاعتماد على المؤشرات الاقتصادية التقليدية فى الحكم على هوية الاقتصاد والمرتبطة بمعدلات النمو الاقتصادي، وهيكل الناتج المحلي الاجمالي، ومتوسط دخل الفرد، بل يجب الأخذ في الاعتبار مدى التوافق بين الواقع المعاش وبين ماتنص عليه الدساتير والقوانين واستراتيجيات الإصلاح الاقتصادي المعتمدة (إن وجدت اصلاً)، في حين يرى آخرون أن الاقتصاد الليبي هو ليس اقتصاد بالمعني الحقيقي، وبرروا ذلك بالقول أن الاقتصاد الحقيقي يحتوي بالضرورة على نوعين أساسيين من الإنفاق أحداهما استهلاكي والآخر استثماري، وبالتالي هل يُعقل أن نحدد معدل نمو هذا الاقنصاد قياساً بما يبيعه من نفط خام؟ دون أن نغفل عن حقيقة أن من يقوم بالإكتشاف وتقاسم الإنتاج هي شركات أجنبية.
إن غياب الهوية الاقتصادية أو صعوبة تحديدها قد أدى على الأرجح إلى الإنفصام بين الواقع بمؤشراته المختلفة وما تنص عليه وتقضي به التشريعات سارية المفعول واستراتيجيات الإصلاح المزعومة، وهذا بدوره سيقودنا هو الآخر لأسئلة وتشعبات كثيرة تصب في مجملها في إتجاه التعريف أكثر بمحددات هوية الاقتصاد الليبي نفسها-أذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر: هل يكفي الإعتماد على الوصف التقليدي لليبيا من حيت طبيعة وحجم الموارد الريعية الحالية، وعلى الوصف التقليدي من حيت طبيعة وحجم الموارد والفرص الممكنة أو المستقبلية، وخصائص الموقع الجغرافي، وحجم الاقتصاد نفسه، وعدد السكان في تحديد هوية الاقتصاد الوطني؟ وفي المقابل هل للتغيرات الهيكلية التي شهدها الاقتصاد الليبي والمنعطفات التاريخية التى مرت بها ليبيا دورًا في تحديد هوية الاقتصاد الليبي خصوصاً في ظل عدم التوافق بين التطور الذي شهدته مؤشرات التنمية الاقتصادية وأساسات الاقتصاد الكلي من جهة ، وحالة عدم الرضى والتراجع فى مستوى المعيشة وتقلص الطبقة الوسطى فى المجتمع، من جهة اخرى؟ ثم أن هناك إشكالية ضمن سياق عرض الموضوعات والتعبير عنها، أي بين العرض والبيان الموضوعي (Positive Statement) من جهة، وبين العرض والبيان المعياري من جهة أخرى (Normative Statement).
من جانبه أوضح أحد كبار الاقتصاديين الليبيين أنه يجب التفرقة وعدم الخلط بين الهوية الاقتصادية، والنموذج الاقتصادي سواء كان رأسمالي أو اشتراكي أو مختلط، وبدوره عرف الهوية بقوله أنها مجموعة من الأطر والقواعد والنشاطات الاقتصادية التي تُمارس في الاقتصاد ومدي تداخلها معاً لأجل صياغة تلك الهوية.
وبالتالي وعطفاً على كل ماتقدم ، فإن هناك حاجة للتسليم بأن تحديد هوية الاقتصاد الليبي يجب أن تكون حسب رؤيتنا نحن الليبيون، وذلك من خلال تحديد النشاطات الاقتصادية، واُسلوب استغلال الموارد الاقتصادية الحالية وكيفية توظيفها، والفرص الممكنة (المستقبلية) للاقتصاد الليبي وكيف تتم إدارتها بطريقة صحيحة/ رشيدة، وكل هذا يتم ضمن أطر وقواعد قانونية، وضمن نطاقنا الجغرافي (إقليمنا) بكل تعقيداته المتشابكة، وفي كل الاحوال فإن هناك عدد من الخطوات التي تبنتها أغلب الدول وهدفت من خلالها إلى احداث تغيير جذري في هياكلها الاقتصادية، وذلك بعد أن قامت أولاً بتحديد هوية اقتصادها، ثم حددت وبدقة مواردها سواء المتاحة منها أو المستقبلية، والتي لابد وأن تتم بالضرورة في دولة تنعم بالأمن والاستقرار، وأن تتبناها حكومات دائمة وليست مؤقتة أذكر منها:
1- تحديد نطاق مستهدف للتضخم عن طريق السياسات النقدية والعمل على حصره ضمن هذا النطاق.
2- تحديد نطاق مستهدف للجهاز الإداري (الوظيفة العامة) عن طريق سياسات العمل والتوظيف.
3- بناء شبكة آمان إجتماعي وطنية فاعلة، مع تحديد الفئات التي تستفيد من الشبكة أو بالأحرى الفئات التي ستتضرر من التغييرات في هيكل الاقتصاد.
4- مهما أزدهر الاقتصاد وتعاظمت الإيرادات فإن الترشيد في بند/ سياسة الانفاق العام مطلوبة دائماً، وبالتطبيق على الحالة الليبية فمن الضروري الترشيد في الإنفاق من البابين الثاني والثالث من الميزانية، وهذا بدوره يقودنا إلى ضرورة تخفيض أعداد الوزارات والسفارات ومكاتب التمثيل الليبي في الخارج وإلى أقصى حد ممكن، بالتوازي مع الترشيد في الإنفاق على السفر للخارج من قبل المسؤولين وأن يكون للضرورات القصوى فقط، دون أن نغفل عن تحديد الفاقد في توليد الكهرباء وتداركه، والفاقد في حركة ائتمان النقود، والفاقد من تهريب السلع المعمرة والوقود… إلخ.
5- وجود ثم تفعيل معايير الشفافية والحوكمة في إدارة شركات القطاع العام، ومحاربة احتكار مؤسسات القطاع الخاص.
6- منع تأثير أو تدخل جهات دولية في التأثير على السياسات الاقتصادية المحلية بشكل مباشر، وفي حال وجود تدخل فإن الاقتصاد/الشعب الليبي هو الذي سيتضرر بسبب هذا التدخل.
من خلال تعريف أو تحديد هوية الاقتصاد الليبي يتم العمل على وضع خطط وبرامج وأنشطة تنموية مستدامة وطبقاً لأولويات ممكنة التحقيق، وبشيء من التفصيل فالاستراتيجية الاقتصادية الشاملة Grand strategy يجب أن تتضمن استراتيجيات مناسبة mini strategies والتي تتضمن: النمو الاقتصادى فى الناتج المحلى الإجمالي، والاستخدام الفاعل لأدوات السياسات الاقتصادية المختلفة، وتفعيل سياسات تحفيز الاستثمار، وتنويع مصادر الدخل وتشجيع الصادرات، وتطويع التشريعات لتحقيق النمو الاقتصادى المطلوب، مع تحديد الموارد المالية اللازمة ومجالات انفاقها على النشاطات المختلفة… إلخ، وذلك لتحقيق أقصى ما يمكن من العدالة الاجتماعية لأفراد المجتمع، وتقويض الفساد وأدوات التأزيم والعبث، وذلك من خلال نهج تنموي يعتبر الإنسان غاية التنمية وأداتها، ويتم ذلك بالتعاون التام بين كل القطاعات والشرائح والمؤسسات، ومن خلال الاستثمار الأمثل للموارد والإمكانات الممكنة والمتاحة واستدامتها، وهذا النهج لا يقتصر على التنمية الاقتصادية فقط، بل يتعداها ليشمل كل أنواع التنمية الأخرى كالتنمية الاجتماعية والثقافية…إلخ، ويتم هذا في ظل توفر تشريعات قوية، مع إنفاذ القانون على الجميع، ووجود دور مؤسساتي فاعل، وبشرط توفر نوايا حسنة ورقابة ومحاسبة حقيقيتين وبكل شفافية.
لقد أوصيت من خلال مقالاتي السابقة والمنشورة عبر شبكة الانترنت بأن تكون إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني من خلال الإعتماد على الموقع الجغرافي للبلاد والموارد البشرية المتاحة، مع الأخذ في الاعتبار البُعد الإقليمي والعالمي سواء الراهن أوالمنظور، والابتعاد عن الريع قدر الإمكان (على أن يتم بالتدريج)، ويأتي كلامي هذا تأكيداً لما أشار إليه الراحل مايكل بورتر مطلع القرن الحالي بأن الشركات الكبيرة في العالم مثل شركات النفط والبتروكيماويات لن تكون قادرة على توفير الوظائف الكافية للقوة العاملة في المدى البعيد، وهذا يعني بالضرورة إطلاق يد القطاع الخاص الليبي ولكن دون القضاء/ الإقصاء التام للقطاع العام الليبي، فوجود القطاع العام ضرورة ولامناص لنا منها، وقد أوصيت أيضاً عبر مقالاتي السابقة بأن يكون الاقتصاد الليبي في المستقبل متنوع ومبني على الاقتصاد الأصيل (صناعي وزراعي) والاقتصاد البديل (اقتصاد الخدمات)، حيث أن لدى النوع الأخير من الاقتصاد آفاق كبيرة وواعدة في ليبيا في المستقبل: كالطاقات المتجدة والأنشطة اللوجستية وخدمات العبور وخدمات المراكز المالية واقتصاد المعرفة… إلخ، كما أن العنصر البشري الليبي متى تم تأهيله فإنه قادر على إدارة كل أنشطة الاقتصاد سالفة الذكر وبكل جدارة، ولكن وفقاً للمتلازمة الآتية (الرجل المناسب في المكان المناسب وفي الزمان المناسب)، وهذا يتطلب من الدولة إعداد كوادر وقيادات في الإدارات العليا والوسطى وفق برامج تدريبية عصرية ومنتظمة، كما أن الاهتمام بالتعليمين التقني والفني ومنحهما الأولوية لهما على حساب باقي برامج التعليم سيكون ذو أثر إيجابي على الاقتصاد والتوظيف في ليبيا حاضراً ومستقبلاً.
ختاماً… إن تحديد هوية أي اقتصاد ليست بالأمر الهين وتحتاج لتظافر الجهود، وإلى تجميع أكبر عدد من الأفكار والذي يتم من خلال الحوارات والندوات وورش العمل، ولكن بشرط توافر البيانات والمعلومات اللازمة ومن مصادرها، وهذا كله بالطبع يأخذ حيزاً من الزمن، لأن تحديد هوية الاقتصاد يُعد هو القاعدة والمرجعية التي يُبنى عليها الاقتصاد واستراتيجياته وبرامجه وخطط تطويره (بما فيها إعادة هيكلته)، فمتى تم هذا البناء على أسس صحيحة ونوايا سليمة وفي متسع من الوقت وفي دولة آمنة ومستقرة فستكون النتائج مرضية بعون الله.
والله ولي التوفيق.
رابط الجزء الأول من المقال: