منذ إعلان مجموعة من رجال القبائل بالمنطقة الشرقية في منتصف يناير الماضي إيقاف إنتاج وتصدير النفط والغاز وفرض حصار على المنشآت النفطية، دخلت البلاد والقطاع النفطي تحديدًا الذي يمثل أهم مصدر الدولة المالية في أزمة حقيقة تهدد مستقبله، ومع ارتفاع الدعوات إلى الحرب بالقرب من الهلال النفطي ينذر الوضع بوقوع كارثة اقتصادية بكل المقاييس سواء باستمرار الاقفالات أو اندلاع الصراع، حيث تقع في المنطقة ثلثي المنشآت النفطية في البلاد.
ويمكن أن يؤدي إصرار القوات المسلحة في شرق البلاد على استمرار إغلاق النفط إلى أن يصبح وقوع مواجهات عسكرية على نطاق واسع في سرت ومناطق الهلال النفطي أمرا واقعا وبنتائج غير متوقعة، إضافة إلى استمرار الخسائر التي قاربت على تجاوز حاجر 8 مليار دولار أمريكي، وفق أحدث بيانات المؤسسة الوطنية للنفط في طرابلس.
وأظهرت الأحداث الماضية بأن قرار إغلاق الحقول والموانئ النفطية جاء نتيجة إملاءات من دول أجنبية بعد مفاوضات قادها مصطفى صنع الله رئيس مؤسسة النفط مع مسؤولين من دولة الإمارات، على عكس ما تقوله القوات المسلحة التابعة لمجلس النواب في طبرق والتي تدعي بأن القبائل هي من تملك القرار فيما يشبه بالإرادة الشعبية. إضافة إلى إصرار حكومة الوفاق الوطني بإعادة الإنتاج وبدعم تركي مما يوضح مدى تضارب المصالح الخارجية بين الدول المتدخلة في الصراع الليبي حول إيرادات النفط والغاز.
إن الاتجاه نحو إغلاق النفط يمثل جريمة في حق الوطن لما يمثله من خسائر مالية كبيرة للبلاد في غنى عنها خاصة في هذا التوقيت، والتي من الممكن أن لا تقود إلى نتائج يستفيد منها الجميع عكس ما يتصور البعض.
شكلت عائدات النفط أحد أسباب الصراع المستمرة على السلطة في البلاد منذ فترة طويلة في ظل سوء إدارة واضح لتلك العائدات التي تتحكم بها في السنوات الأخيرة حكومة الوفاق الوطني في طرابلس من خلال المصرف المركزي المتواجد هناك.
ومع احتدام الصراع خاصة بعد فشل القوات المسلحة التابعة للنواب في طبرق من السيطرة على العاصمة طرابلس بالقوة، طالبت جهات من بينها الحكومة المؤقتة التي تتخد من بنغازي مقرا لها بحصة من العائدات مدعومة بما يعرف بشيوخ القبائل التي استطاعت إقفال الحقول والموانئ النفطية خاصة في المنطقة الشرقية والجنوبية.
مطالب غير منطقية
وقال الرئيس السابق لمجلس إدارة المؤسسة الليبية للاستثمار محسن دريجة تعليقا على القضية إن الحديث عن المطالب بتقاسم العائدات أو الحصول على جزء منها بطريقة مباشرة للحكومة المؤقتة في بنغازى أو في الجنوب على سبيل المثال تعتبر غير منطقية وغير قابلة للتطبيق.
وأوضح دريجة في تصريح خاص لصحيفة صدى الاقتصادية، بأن المشكلة التي تواجهها البلاد تتمثل في سوء إدارة الموارد المتاحة وعدم وجود مردود ينعكس على شكل خدمات أفضل في قطاعات الصحية والتعليم والطرق، بل إن كل الانفاق يذهب لغرض الاستهلاك. ولهذا يعتقد المسؤول السابق بأن التغيير المطلوب هو في إدارة الموارد وليس توزيعها.
وعلى الرغم من أن أكثر من ثلاثة أرباع ميزانية البلاد تدفع مرتبات أو دعم للمحروقات والكهرباء، تظهر الأرقام وجود تقارب في الإنفاق بين مركزي طرابلس وبنغازي خلال السنوات الأخيرة، ليدحض الادعاءات المطالبة بالمساواة.
ينظر إلى الصراع الجاري على الموارد المالية للدولة وأبرزها النفط ووجود مرتزقة وقوات أجنبية في الحقول والمنشآت النفطية الأخرى، بأنها امتداد لتنافس دول إقليمية منخرطة في القتال داخل ليبيا تحاول استخدام النفط كورقة للحصول على المكاسب.
ويمكن أن يقود الصراع على النفط إلى استمرار توقف إنتاجه وتصديره مما يفاقم الأزمة الاقتصادية الحالية ويضيع على البلاد فرصة الحصول على إيرادات مرتفعة، إضافة إلى وضع حلول من بعض الدول الأجنبية قد لا تتناسب مع مصالح البلاد في المستقبل وتعرضها لفقدان السيطرة على الموارد لصالح قوى دولية.
عمق الأزمة
من الصعب الحديث عن أن مسألة توزيع عائدات النفط بطرق مخالفة للقانون الليبي يمكن أن تعجل بإيجاد حل نهائي للأزمة المستمرة في البلاد منذ عشر سنوات تقريباً، حيث يمكن أيضاً أن تؤدي إلى اتجاهها نحو التقسيم في المستقبل القريب.
ويعتقد الكثيرون بأن هناك خللا واضحا في القوانين والسياسات المتبعة في الدولة منذ عقود خاصة في ما يتعلق بكيفية الاستفادة من عائدات النفط على الأقاليم التاريخة الثلاثة عبر نظام مركزي.
وقال الخبير النفطي محمد أحمد في تصريح لصحيفة صدى الاقتصادية، إن القانون ونظام الدولة بشكل عام يعيق تحقيق المساواة بين المناطق والمدن في الحصول على استفادة حقيقية من بيع النفط والغاز منذ عقود. وأوضح أحمد بأنه طيلة السنوات الماضية ومنذ اكتشاف النفط كان هناك مُدنًا رئيسية استفادت بشكل متحيز جدا منها وبقت المناطق المنتجة ليست محرومة فقط من نصيبها العادل بل أيضا تجرجر مشاكل بيئية خطيرة نتيجة ممارسات الشركات النفطية غير المسئولة.
وأضاف: في الفترة المتبقية التي يتوقع أن تصل إلى 30 سنة من الإنتاج فإن مسئولية الدولة في توزيع الثروة النفطية يجب أن تستعيد التوازن المفقود إذا ما أريد للقانون الشيوعي في الملكية العامة للموارد المعدنية أن يستمر خلال المدة الباقية.
ويعتقد الخبير النفطي بأن الأزمة السياسية اليوم في ليبيا تتلخص في عدم وجود سلطة قوية في العاصمة تستطيع أن تقمع المطالبات العادلة في ريع النفط من ناحية، مع تغيير متوازي لترشيد توزيع الريع من الثروة النفطية.
وتابع قائلا: النظام اللا-مركزي هو مخرج ليس رشيدا فقط بل يتسق مع الواقع للحفاظ على وحدة ليبيا ويعتمد على ذكاء المشرع الليبي في صياغة قانون توازني جديد لا علاقة له بالماضي تتحقق فيه مصالح المستثمر الأجنبي والمطالبات العادلة المحلية وتلبية الحاجات التنموية العامة للدولة.
الاصطدام بالقانون
من جهته يرى الخبير الاقتصادي عمر زرموح بأنه لا يوجد شيء اسمه توزيع عائدات النفط كما يتصور الكثير من المواطنين اليوم، والتي تطلقها بعض الشخصيات والكيانات السياسية لأهداف أخرى غير اقتصادية.
وقال زرموح في تصريح لصحيفة صدى الاقتصادية، إن القانون الليبي واضح وصريح فيما يتعلق بعائدات النفط التي يجب أن تعود إلى حسابات المصرف الليبي الخارجي عبر مؤسسة النفط الوطنية الموجودة في طرابلس.
وأشار زرموح إلى أنه لا يمكن تصور البحث عن حل لأزمة النفط عبر فتح حساب خارجي بدولة أجنبية وإعادة توزيعه، حيث أن هذا الأمر سيؤدي إلى الاصطدام بالقانون والتشريعات الليبية.
الخبير الاقتصادي يعتقد بأن استمرار إغلاق النفط يمكن أن تكون له نتائج إيجابية خاصة في ظل تراجع الطلب العالمي على النفط بسبب أزمة فيروس كورونا وانخفاض سعره، مما سيسمح ببيعه لاحقا بأسعار أعلى، لكن البنية التحتية تبقى مهددة أكثر نتيجة الإغلاقات، إضافة إلى إمكانية اندلاع حرب ستؤثر على المنشآت النفطية ويمكن أن تسبب في أزمة طويلة الأمد.
وأشار إلى أنه لا توجد حلول للمسألة سوى عودة الإنتاج والتصدير ومحاولة الحصول على الأموال بطريقة شرعية عبر القنوات الرسمية للدولة من خلال توحيد المؤسسات المالية وإيجاد حل سياسي للأزمة.
.