Skip to main content
الاقتصاد الليبي إلى أين؟ "الجزء الأول"
|

الاقتصاد الليبي إلى أين؟ “الجزء الأول”

كتب: عبدالله الترهوني – أخصائي اقتصاديات النقل

تناولت في مقال سابق مفهوم النمو الاقتصادي، وقلت في حينها أن النمو الاقتصادي كأحد مؤشرات الاقتصاد الكلي ُيقاس بما تحقق من ناتج إجمالي محلي خلال سنة، وأنه بمجرد قسمة الدخل الإجمالي لكل نسمة من السكان من إجمالي الحساب الاقتصاد الكلي (في الدول الريعية تحديداً) فإنه لا يُمثل ذلك دخلاً حقيقياً للأفراد، بل هو مجرد قيمة افتراضية لا تصل ليد كل فرد وهذا مانراه واقعاً في ليبيا والتي يزداد فيها أعداد الفقراء كل يوم وانحسار للطبقة الوسطى، وأن هناك مؤشراً آخراً من مؤشرات الاقتصاد الكلي ولكنه أكثر مصداقية من الناتج المحلي وهو معدل البطالة، وبصريح العبارة فلا معني لنمو اقتصادي تزداد معه البطالة، لأن النمو يعني مزيداً من فرص العمل وتقليل نسبة البطالة، وهذا مانراه واقعاً مريراً في ليبيا بكل أسف هو الآخر.

لقد طرح روستوو الأستاذ في جامعة كامبردج الشهيرة (نظرية المراحل) لتطور النمو الاقتصادي للمجتمعات، والتي تتطابق إلى حد بعيد مع الأطروحات الأساسية التي سبقتها وبالأخص نظريات كل من أرون وكلارك، وبحسب روستوو فإن النمو الاقتصادي يمر عبر خمس مراحل هي: 1- مرحلة المجتمع التقليدي أو البدائي والذي يتميز بكونه اقتصاد متخلف جدًّا ويتسم بالطابع الزراعي، ويتبع أهله وسائل بدائية للإنتاج، ويلعب فيه نظام الأسرة أو العشيرة دورًا رئيسيًّا في التنظيم الاجتماعي، كما أن الهيكلية الاجتماعية فيه مبنية على الملكية العقارية. 2- مرحلة التهيؤ للإقلاع أو الانطلاق وهي لاتختلف من حيث البنيان الاجتماعي والقيم وتركيبة المؤسسات السياسية اللامركزية للدولة عن المجتمع التقليدي اختلافًا جذريًّا، ولعل الفارق الجوهري بينهما يكمن في طبيعة حركتي المجتمع؛ وتتميز هذه المرحلة بالتحول نحو المؤسسات السياسية والاقتصادية، وتوسيع آفاق المصالح الفردية والجماعية التي تدفع بأفراد المجتمع إلى العمل المثمر، وإلى الأخذ بزمام المبادرة للأفراد والجماعات، ولكن هذه المرحلة تمثل لب المشاكل للبلدان النامية التي تفشل في الاقلاع بعد أن تكون قد تهيأت له. 3- مرحلة الإقلاع (take-off) والتي تتصف بتحولات عميقة في الاقتصاد وفي البنية الاجتماعية للبلد لكي تصل لمرحلة النضج في المرحلة اللاحقة كمرحلة حتمية لعملية النُّمو، وفي هي المرحلة تسيطر القوى الفاعلة على أغلب مرافق الحياة، فيصبح النُّمو والتنمية ظاهرة طبيعية في المجتمع مدفوعاً بالتكنولوجيا والتطور السياسي / الثورة السياسية. 4- مرحلة النضج وهي المرحلة التي وصلت إليها دول العالم المتقدمة اقتصادياً، وبعبارة أوضح فإن بناء ونمو مؤسسات الدولة وقطاعاتها لا قتصادها يكون قد استكمل في هذه المرحلة، وبالتالي تمكنت من رفع مستوى إنتاجها من الصناعات الأساسية، لترتفع معه القدرات التقنية للاقتصاد المحلي، بل وصار لها صناعات أكثر طموحًا من ذي قبل، وأن مرحلة النضج هذه ستؤدي إلى ظهور المجتمع الاستهلاكي أو مجتمعات الترف، ولكن مايميز مرحلة النضج هو الآتي:

4-1 التحول السكاني من الريف إلى الحضر، وتحول الريف نفسه إلى شكل حضري أكثر.
4-2 إرتفاع نسبة الفنِّيِّين والعمال ذوي المهارات المرتفعة.
4-3 انتقال القيادة من أيادي أصحاب المشروعات والرأسماليين إلى فئة التنفيذيين.
4-4 تحول الدولة في ظل سيادتها إلى درجة من الرفاهية المادية لمواطنيها، وأنها صارت هي المسؤولة عن تحقيق قدر متزايد من التأمين الاجتماعي والاقتصادي للمواطنين.

5- مرحلة الاستهلاك الوفير، وهي المرحلة التي يبلغ فيها البلد التقدم في كل شئ تقريباً؛ وأهم مايميزها على الإطلاق هو زيادة الإنتاج الفكري والأدبي للمجتمع، بالإضافة إلى توفر الإنتاج والخدمات الزائدة عن الحاجة، ويعيش السكان في بحبوحة من العيش، مع تميزهم بدخول عالية، ووفرة من السلع الاستهلاكية وأسباب الرخاء، ومن مظاهرها إرتفاع متوسط استهلاك الفرد العادي من السلع كالسيارات ووسائل الاتصال والسياحة والسفر… إلخ.

من نافلة القول أن الاقتصاد الليبي هو اقتصاد مشوه في هيكله، حيث أن قطاع الخدمات يشكل تقريباً ثلاث أرباع حجم هذا الاقتصاد، وأن إيراد المنتجات الهيدركربونية تُشكل لوحدها أكثر من 94% من إجمالي الدخل القومي، كما أن عدد الموظفين الحكوميين في ليبيا مقارنةً إلى عدد السكان ومايقدمه هؤلاء الموظفون هو من بين الأسوأ عالمياً، وأن العلاقة بين البنك المركزي والاقتصاد الليبي بجناحيه العام والخاص صار يحكمها مبدأ أو علاقة “Cash Call”، وبالتالي فالإصلاح لابد أن يتم في الهيكل نفسه، كما وجب التذكير في هذا المقام بوصف الراحل مايكل بورتر للاقتصاد الليبي بأنه اقتصاد تواكلي، وكما كنت قد أوضحت أيضاً ومن خلال مقالي المنشور أواخر العام الماضي عن واقع ليبيا ودول العالم من خلال تقريري سهولة الأعمال والتنافسية الاقتصادية العالمية، وأوضحت حينها أن ليبيا قد حلت في المركز 150 من بين 178 دولة تضمنها تقرير الدول الهشة الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، كما أنها جاءت في المركز 186 من بين 190 دولة شملها تقرير مؤشر تشريعات سهولة مزاولة الأعمال الصادر عن البنك الدولي، في حين لم يتم إدراج ليبيا أصلاً ضمن تقرير التنافسية الاقتصادية العالمية للعام 2019 بكل أسف، والصراعات في ليبيا ليست هي وحدها من جعلت البلاد لاتحتل مركزاً جيداً ضمن المؤشرات العالمية المعروفة، فالاقتصاد الليبي لاهوية له، وبالتالي فإنه حتى في حال وجود استراتيجية أو خطة شاملة أو خارطة اقتصادية تبين المصادر المتاحة والممكنة للدخل القومي وكيفية توزيعها على المستوى الوطني ستكون هي والعدم سواء بسبب غياب الهوية، كما أن عديد التشريعات السارية المفعول في ليبيا بها قصور، وأن هناك ضرورة قصوى لتحديث بعضها، وبالأخص تشريعات تسهيل تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر، وتشريعات ريادة الأعمال، ناهيك عن أن ليبيا لاتمتلك استراتيجية واضحة لمكافحة الفساد الإداري والمالي على الرغم من وجود أجسام أوكل لها مهمة القيام بهذا الدور، كما أن ليبيا لاتمتلك استراتيجية ولاتشريع يعزز الأمن السيبراني والتصدي للجرائم الإلكترونية، والتي تُعد أحد أهم ركائز الأمن القومي، وهو ما سيزيد الطين بلة في حال استقرار البلاد وشروعها في التنمية وإعادة الإعمار، فعندها فقط ستظهر مدى الحاجة إلى هذا النوع من التشريعات، ومدى الحاجة إلى هذه الاستراتيجية المفقودة والهامة جداً (استراتيجية الامن السيبراني).
يتبع…

مشاركة الخبر