مع مرور الوقت، يتضح جليا بأن الوضع الحالي للبلاد يصعب من خلاله إيجاد حلول مجدية لأي أزمة خاصة المالية منها، في ظل خلافات متزايدة بين المصرف المركزي في طرابلس ووزارة المالية بحكومة الوفاق الوطني، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى فشل تطبيق الإصلاحات الاقتصادية والتي من أهمها توفير السيولة والمرتبات.
ورغم شعارات مكافحة الفساد وتحسين الاقتصاد، لاتزال الأوضاع المالية للدولة في مرحلة متأزمة أو خطيرة جدا جراء تدهور الناتج المحلي للبلاد وتفاقم الدين العام وتنامي العجز في الميزانية وميزان المدفوعات، إضافة إلى الهبوط الحاد في الإيرادات العامة وإرتفاع معدلات التضخم والبطالة وإنهيار الخدمات الأساسية، إلى جانب التشوه الكبير في الإنفاق العام بعد أن طغى الإنفاق الاستهلاكي على معظم أبوابه.
تشير الأحداث إلى أن أحد الأسباب الرئيسية في تأخر المرتبات بصورة متكررة هو العجز الحاصل في إيرادات الدولة بشكل عام خاصة في الأشهر الماضية عندما توقف إنتاج وتصدير النفط، إضافة إلى سبب آخر لا يقل أهمية وهو ضعف الإيرادات غير النفطية حيث أن وزارة المالية غير قادرة على تحقيق إيرادات عبر الجباية رغم إعلانها في أكثر من مناسبة أنها تعمل معالجتها لتحقيق مداخيل مرتفعة.
يعتقد الكثيرون بأن تزايد حجم الفساد وارتفاع الإنفاق كان من بين الأمور التي أدت إلى تأخر دفع المرتبات. إضافة إلى ذلك لم تستطع الحكومة في طرابلس إنهاء أزمة السيولة رغم حجم الأموال الهائلة التي تدور خارج القطاع المصرفي والتي كان بالإمكان الاستفادة منها في مسألة المرتبات وأمور أخرى.
ولايختلف الكثير حول وجود مشاكل سياسية كانت وراء عدم تمكن وزارة المالية من تحصيل إيرادات قد تساهم في خفض العجر الحاصل في الموازنة العامة وبالتالي إنهاء مشكلة المرتبات على أقل تقدير، إضافة إلى ذلك هناك تباين في وجهات النظر بين المصرف المركزي والحكومة أدى إلى تأخر صرف المرتبات ليس في شهر سبتمبر فحسب، بل تكررت خلال الأشهر الماضية أيضا.
وحسب آخر بيانات رسمية صدرت عن مصرف طرابلس المركزي، يقدر إنفاق المرتبات بنحو 16.350 مليار دينار، ما بين مطلع يناير 2020 وحتى نهاية سبتمبر من العام ذاته، لكن وجود إيرادات نفطية محصلة من العام الماضي قد يحل مشكلة تأخر مرتبات سبتمبر رغم عدم تسييل مرتبات يوليو وأغسطس لعدد كبير من القطاعات العامة.
أزمة الدين العام
ظل الحديث عن الدين العام يلقي بثقله على المشهد السياسي والاقتصادي في البلاد خاصة في الآونة الأخيرة، رغم ما يسمع بين الحين والآخر عن وجود حلول يمكن تطبيقها على المدى القصير والمتوسط لحل الأزمة التي تهدد مستقل البلاد بصورة خطيرة جدا على العكس ممن يعتقدون بأن هناك ملفات أكثر أهمية من الدين الذي يقترب من 100 مليار دينار.
وقال الخبير الاقتصادي نورالدين حبارات إنه وحتى نهاية أغسطس الماضي أظهر بيانات المركزي أن إيرادات الحكومة النفطية والسيادية لم تتجاوز 3.400 مليار في حين كان يفترض بها أن تصل وفق الترتيبات المالية إلى 6.400 مليار دينار، مما يشير لوجود عجز قدره 3.400 مليار دينار، مع إلتزم المصرف المركزي من جانبه بتسييل قيمة القرض المخصص لتغطية العجز الإجمالي والذي يبلغ 26.7 مليار دينار.
وأضاف في تصريح لصحيفة صدى الاقتصادية: بأن “المركزي قام بإطفاء جزء من الدين العام من إيرادات الرسم التي بلغت مع نهاية أغسطس 14.200 مليار دينار، مع خصم مبلغ من الإيرادات وبما قيمته 1.400 للبرامج التنموية، مع وجود عجز في قيمة الإيرادات السيادية الذي بقيمة 3،400 مليار دينار، وهو السبب في عدم صرف المركزي مرتبات شهر سبتمبر”.
ويعتقد نورالدين حبارات بأن تأخر المصرف المركزي بطرابلس في صرف المرتبات مبرر خاصة مع فشل وزارة المالية بالحكومة في تحصيل الديون والإيرادات المقررة بالترتيبات المالية، رغم ايهام المواطنين بأن الوزارة تعمل على ذلك. مشيرا إلى أنه في استمرت الأوضاع على ما هو عليه اليوم، فمن المؤكد زيادة العجز مع إحتمال عدم قدرة وزارة المالية توفير مرتبات شهر ديسمبر أيضا.
خلاف واختلاف!
تظهر المواقف السابقة بأن هناك خلافات واختلاف كبير بين وزارة المالية بحكومة الوفاق الوطني والمصرف المركزي بطرابلس مما جعل الكثير من القضايا تبقى عالقة أو تشكل عائقا أمام توحيد الجهود التي من الممكن في حال تحققت بالفعل أن تساهم في إيجاد حلول عملية لأزمة المرتبات أو أزمات أخرى لاتقل أهمية عنها.
وقال الخبير الاقتصادي سليمان الشحومي إن وزارة المالية تتصارع مع البنك المركزي حول طرق استخدام عائد الرسوم علي بيع العملة الأجنبية، وأن سبب ذلك هو عدم سلامة إجراءات الارتباط بالدين المقدم من البنك المركزي في شكل سحب علي المكشوف أو سلفة مؤقتة حسب القانون للحكومة.
وأضاف الشحومي عبر منشور على حسابه بموقع فيسبوك، بأن المصرف المركزي يطالب بإدارة العوائد لصالح سداد الدين المجاني بدون أي عوائد عليه، بينما تعترض وزارة المالية بأن هذا الإجراء من طرف البنك المركزي يحرمها حقها في إدارة عائد رسوم بيع العملة والذي يقوم المواطن بسداده إما مباشرة عبر فارق السعر بين الرسمي والتجاري أو في شكل غير مباشر عبر أسعار السلع والخدمات التي تعكس فارق السعر.
ومن هذا المنطلق يمكن تفسير عدم وجود اتفاق على مدى سنوات بين الحكومة عبر وزارة المالية والمصرف المركزي بطرابلس بأن الأخير يحاول إرسال رسالة مفادها أن وزارة المالية ليس لديها إيرادات كافية وترفض أيضا إطفاء الدين العام، في وقت تسعى فيه لصرف إلتزامات قديمة وهي لا تملك أموالًا حتى لسداد مرتبات سبتمبر.
وقال مسؤول مصرفي على اطلاع باتفاق الإصلاحات الاقتصادية السابق والذي تضمن عدة نقاط من بينها استغلال حكومة الوفاق عبر وزارة المالية لرسوم بيع النقد الأجنبي في ما تراه مناسبا عبر سد العجز الحاصل في الترتيبات المالية وتوفير الأموال اللازمة للمرتبات، لم تطبق بشكل كامل حيث رفض المصرف المركزي في طرابلس ذلك.
وأضاف المصدر الذي فضل عدم ذكر اسمه لصحيفة صدى الاقتصادية، بأن الاتفاق في حال طبق كان بإمكان الحكومة ووزارة المالية تحديدا من الحصول على الأموال وتسييلها لصالح المرتبات وأمور أخرى، وكان يمكن أيضا أن يجنب دوث الخلاف الحاصل الآن.
وأشار إلى أن الحكومة تعلقت فقط بعائدات الروسوم المفروضة على بيع النقد الأجنبي وتركت تحسين الإيرادات الأخرى الخاصة بالضرائب والجمارك، مما جعلها في نهاية المطاف تواجه صعوبات في مسألة تأمين المرتبات.
ويعتقد المسؤول بأن الحكومة أخلت بالاتفاق مما جعل المصرف المركزي يرفض السماح لها بالتصرف بعوائد الرسم الذي كان يجب أن يستعمل لإطفاء الدين العام وعلاوة الأسرة وأمور أخرى، بينما يذهب جزء قليل منها للميزانية، مؤكدًا بأن الأخلال بالاتفاق وعدم تطبيفة كاملا هو من جعل الحكومة تواجه المشاكل الخاصة بالمرتبات حاليا.
وكان من المفترض أن يتضمن البرنامج الإصلاحي معالجة سعر صرف الدينار الليبي بفرض رسوم على مبيعات النقد الأجنبي للأغراض التجارية والشخصية، ومعالجة دعم المحروقات، والسماح لكل مواطن بتحويل عشرة آلاف دولار سنويا بالوسائل المتاحة وفق الضوابط والأعراف الدولية.
ومع ذلك، يبقى الراهن على الوصول إلى اتفاق ينهي الصراع بجميع أشكاله ويؤسس لمرحلة دائمة يستغل فيها النفط لتنويع مصادر دخل الدولة وتحقيق العدالة وتكافؤ الفرص وتوحيد المؤسسات وهو الخيار الوحيد للخروج من نفق الأزمات المتلاحقة التي تعيشها البلاد منذ سنوات.