كتب الخبير بالمجال النفطي محمد الشحاتي :
تفتح الفيس تجد المئات من الحسابات المتناقضة أما لتبرير رفع الدعم، أو استبدال الدعم، أو الإبقاء على الدعم.
فريق يحسب كم يربح المهربين، وفريق آخر يحسب كم تخسر الدولة في الموازنة، وفريق يحسب كم سيستفيد المستهلك الفردي من استبدال الدعم، وفريق يحسب كم تستفيد الشعوب المجاورة.
كل هذه الحسابات جميلة، ولكنها لا تدخل ضمن المنطق الاقتصادي، معظمها صادرة عن مجموعات مصلحة، تبرر أو تدافع عن مواقفها المصلحية من القضية، إلا أن عيبها أنها تتناول القضية بمنهجية جزئية ولا تأخذ في الاعتبار الارتباطات القياسية في نموذج مجمع لإستخلاص المنطق المتعقل لهذه القضية.
بداية سياسات التسعير العامة مهما كانت الهوية الاقتصادية للدولة سواء كانت يسارية أم يمنية هي ركن رئيسي للاستقرار المجتمعي، صحيح أن آليات السوق في الدول الصناعية ذات الاقتصاد الحر تلعب دوراً أساسياً في تحديد المستوى العام للأسعار عن طريق موازنة العرض بالطلب ألا أن هذا يتعلق أساسا بمرونة العملية الإنتاجية التي تستجيب مبكراً لإشارات السعر لتجنب حدوث تضخم مضاعف نتيجة لقلة المعروض، وهو أمر غير متاح بصورة كبيرة في الدول النامية التي تفتقد آليات كفؤة لاكتشاف إشارات السعر ومن ثم نقص في الإمكانيات التكنولوجية لتعديل العملية الإنتاجية بالسرعة الكافية، مما قد يحتم جسر الفجوات الإنتاجية بعمليات دعم مؤقتة لمنح فرصة لتعديل الهيكل الإنتاجي ليستجيب لحركة السعر.
مع كل هذا الكلام فالسيطرة على التسعير العام للأسعار هي مهمة سياسية محورية للحكومة الرأسمالية والاشتراكية على السواء بغرض المحافظة على الاستقرار النقدي والمالي ومن ثم الاجتماعي للدولة.
في أي سياسة لتعديل عملية التسعير العام بما فيها الإجراءات المتعلقة بتعديل الدعم ينظر الاقتصاديون إلى مفهوم مرونة الطلب من ناحيتين: مرونة الدخل ومرونة السعر .
الهدف هو تعيين المستوى التوازني الذي يمكن عنده تقرير السعر الجديد بشرط ألا يؤثر ذلك سلبا على مستوى حياة الفرد.
أحاول هنا أن أتناول الأمر بشكل مبسط ومباشر، ولكنه في الحقيقة يحتاج إلى كثير من الدراسة للخروج بنتائج محددة؛
من ناحية مرونة الطلب وفقاً للدخل فإن هذا يتعلق بكيفية أن يستجيب الفرد لتغيير مستوى سعر أحد مكونات مصروفاته على باقي المكونات .
على سبيل المثال كيف يمكن أن ينقص من مصروفاته في الأثاث ويحوله لمصاريف الصحة لأن تكاليفها ارتفعت، طبعا عملية صعبة يمكن أن تحدث أما بتخطيط أو بتلقائية وفقاً للظروف والمعرفة .
في حال أن الفرد لم يستطيع تحويل قيمة مصروف أول لمصروف ثاني عندها نقول إن الدخل غير مرن لعملية تغيير السعر، وفي حال إرتفاع السعر فأن هذا سينتج عنه هبوط في مستوى معيشة الفرد.
أما من ناحية مرونة السعر وفقا للدخل فأن ذلك يتعلق بالكمية التي يستطيع الفرد تخفيضها من سلعة معينة ولنقل مثلا بنزين السيارات نتيجة لارتفاع سعره، هذا يتعلق بالطبع باستطاعة توجه الفرد إلى بدائل أخرى كالنقل الجماعي أو تقليل التنقل.
هناك الكثير من الدراسات حول مرونة الطلب وخصوصا في بنزين السيارات ومعظمها يشير إلى أن مرونة الطلب من ناحية السعر منخفضة جدا بمعنى أن الطلب قليل المرونة ولا يترتب على إرتفاع السعر أي تخفيض كبير في الكمية المطلوبة، على سبيل المثال فأن وكالة معلومات الطاقة الامريكية وجدت أن مرونة الطلب من ناحية السعر للبنزين هي 20% أي بمعنى أنه لم يرتفع سعر البنزين 20% ينخفض الطلب بنسبة 1% فقط وهكذا.
المعلومات والبيانات بالنسبة لليبيا يمكن القول بأنها محدودة جدا لبناء نموذج يجمع الترابط بين الاثنين، مما قد يدفع الباحث إلى افتراضات معينة. أعرف مسبقا أن الكثير من القراء سيحتج على هذه الافتراضات، ولكنها محاولة فقط ويمكن لأي صديق أن يثير اعتراضه على أحد الافتراضات.
بالنسبة لموضوع الدخل يمكن افتراض أن دخل الفرد الليبي 1500 دينار شهريا في المتوسط، سيسأل الكثير كيف تم الوصول لهذا الرقم .
الافتراض يقوم على أن مقترح الموازنة الحكومية الأخيرة طلبت 33 مليار للمرتبات، فإذا ما افترضنا أن اجمالي القوة العاملة هي 1.8 مليون فرد فأن هذا يعني متوسط 1,528 دينار شهريا .
كيف يمكن أن يتم توزيع هذا الدخل على المصروفات الشهرية للفرد. هنا استعنت بجدول الرقم القياسي لأسعار المستهلك (مرة أخرى أعرف الانتقادات التي توجه للأوزان القياسية) وذلك لاشتقاق المصاريف الشهرية للمستهلك الليبي الذي يتقاضى 1500 دينار، وهي على النحو الآتي:
الغذاء……..528 دينار
السكن، الكهرباء، الغاز، الوقود……….341
النقل………122
الملابس والاحذية………96
الأثاث……..74
الصحة……..62
التعليم………60
السلع والخدمات الأخرى…….47
الترفيه والثقافة……..42
الاتصالات………41
المطاعم والفنادق…….26
التبغ………11
الكل سيحتج بالطبع، ولكن أكثرهم فيما اعتقد المدخنون حيث إن 11 دينار شهريا لا يتجاوز ثمن 2 سيجارة يوميا على أكثر تقدير، فأقول لهم العبارة المشهورة “التدخين ضار بالصحة”.
ولكن الأهم دعونا نحلل الأرقام الأخرى وأهمها السكن والنقل حيث لن أحاول أن أقرب مخصصات الغذاء لأني أعرف أنها مقدسة. لنفترض أن الموظف سيؤجر منزلا قيمته 250 ألف دينار، لنصل إلى القيمة الايجارية دعنا نقول إن مالك البيت سيدفع قيمة القرض للبنك على 30 سنة فالقسط الشهري سيكون 694 دينار شهريا، هذا فرق بالسالب عن المخصص للسكن بقيمة -353 دينار شهريا عن المخصص من 1500 دينار المرتب.
هنا مرونة الطلب متصلبة لأن المستهلك أساسا يدفع من مدخراته لتغطية قيمة السكن والاشياء الأخرى المصنفة تحت هذا البند بما فيها الكهرباء والغاز والوقود.
ننتقل للنقل وأظنه يشمل وسيلة النقل “السيارة” وقيمة الوقود، دعونا ننسى قيمة الوقود ونركز على تكلفة سيارة متوسطة وهنا دعونا نفترض أنها 15000 دينار ليبي، وعمرها المفترض 10 سنوات، هذا يعني أن القيمة السنوية للسيارة هي 1500 دينار والقسط الشهري 125 دينار، هذا أيضا يعطي مرونة سالبة جزئيا حيث يحتاج المستهلك إلى 3 دينار من الأصناف الأخرى لتغطية ما يحتاجه للتنقل هذا بدون صرف بند وقود السيارة.
بالتأكيد لا أعني هنا أن استمرار الدعم هو السبيل الوحيد للخروج من هذه المتاهة، ولكني أقول إن الإدارة الحكومية يجب أن تخطط لكيفية مساعدة المستهلك الليبي لموازنة صرفه مع المستوى العام للأسعار. وهنا يأتي مفهوم مرونة الطلب وفقا للسعر .
استنتجت وكالة معلومات الطاقة كما ذكرت أعلاه أن معدل مرونة الطلب وفقا للسعر هي تقريبا 20% في الولايات المتحدة، طبعا لاحظ هنا أن اقتصاد الولايات المتحدة يختلف جذريا عن اقتصاد دولة نفطية صغيرة مثلنا من ناحية توفر بدائل المواصلات حيث يستطيع الفرد أن يوقف سيارته أما بالكامل أو جزئيا عن الاستعمال والتحول لوسيلة أخرى وفقا لسعر الوقود. على كل حال نفترض أننا نملك نفس المرونة .
ترون في الرسم المرفق أن رفع سعر البنزين بمعدل 20% على 12 مرحلة ستسبب في خفض استهلاك الفرد الشهري من 140 لتر إلى 125.3 لتر؛ لإشتقاق قيمة الوفر الذي سيحققه المستهلك نتيجة هذا التخفيض المتلازم مع رفع السعر يمكن إشتقاق منحنيان الأول قيمة البنزين بدون تغيير الاستهلاك القديم والثاني بتخفيض قيمة الاستهلاك 1% في كل مرحلة وفقا لمرونة الطلب.
كما أن الوفر هنا يصل إلى 16 دينار شهريا، هذه القيمة لا يمكن بأي مقياس أن تمكن المستهلك من موازنة دخله كما رأينا أعلاه.
وفي كل الأحوال فأن التخفيض التدريجي وعلى مراحل سيساهم نوعا ما في التخفيف عن المستهلك ليقوم بالتحويل من بند لآخر وكلما كانت هذه المراحل متباعدة زمنيا يستطيع المستهلك أن يكيف تحويلاته على جدول دخله .
هناك اعتبارات أخرى اقتصادية وإدارية كثيرة تتعلق بهذا الموضوع المهم منها التضخم والتأثير على أسعار السلع الأخرى لم أتطرق لها هنا وينبغي أخذها في الاعتبار في أي دراسة تهدف لأخذ القرار في هذا الموضوع والذي يجب فيه الابتعاد تماما عن الحسب البسيطة التي تتداول.
هناك نقطة أخيرة أود التطرق إليها في عجالة وهي طريقة البطاقات الذكية لإدارة موضوع الدعم، وهنا أتكلم من منطلق خبرة وليس من منطلق التنظير، فمن الناحية النظرية هي طريقة مثالية لتوزيع الدعم أما العيني أو النقدي على المستهدفين بالدعم، ولكن التجربة التي خضتها مع شركات كثيرة وكذلك التجارب التي خاضتها الدول في هذا المجال تجربة غير مشجعة من ناحية صعوبة التحكم في الفساد الذي ينتج عن هذه الطريقة مما دفع دول متعددة أكثر تقدما منا إلى استبعادها تماما بعد أن طبقتها ولسنوات متعددة.