ليبيا بلد نفطي يعتمد كلياً في تمويل ميزانيته على الإيرادات النفطية فهي عصب كل الحياة في ليبيا،اقتصاد ريعي اعتمد منذ زمن طويل على إيراد صادراته النفطية بدرجة شبه كلية وصارت كلية منذ 2011 .
مؤخراً قامت المؤسسة الوطنية للنفط بحجب الإيرادات النفطية في خطوة عارضتها جهات رقابية ومؤسسات رسمية ذات علاقة،وإن لاقت قبولاً بسيطاً في أوساط أخرى.
المعارضين لهذه الخطوة وصفوها بأنها مخالفة للتشريعات والقوانين المعمول بها، وحذروا من مغبة هذا الإجراء على أصعدة عدة تمتد لتمس حتى قيمة الدينار الليبي مقابل العملات الاجنبية ناهيك عن تأثيرها المباشر والسريع على الوضع المعيشي لليبيين .
ديوان المحاسبة بطرابلس كان من أشد المعارضين لهذه الخطوة وكذلك فعلت وزارة النفط، وهددوا بإحالة الموضوع للإجراءات القانونية بما فيها تبعات ذلك على مجلس إدارة الموسسة الوطنية للنفط ورئيسها صنع الله خصوصًا.
حيث قال رئيس ديوان المحاسبة بطرابلس “خالد شكشك” في لقاء حصري له مع صحيفة صدى الاقتصادية أن ماقامت به المؤسسة الوطنية للنفط عبر حجب الإيرادات تصرف غير معتاد ومخالف لكل القوانين والتشريعات المعمول بها، وقد خاطبنا المؤسسة أكثر من مرة في هذا الشأن والتنبيه على أنّ ماتقوم به مخالفة قانونية ومخاطرة كبيرة على الأموال العامة.
إضافةً إلى أنّه سينعكس بشكل سلبي على الاقتصاد الوطني خاصةً فيما يتعلق بقيمة العُملة وتوفير احتياجات المجتمع التي من أهمّها العلاج، المصرف المركزي لن يتمكن من تحويل نقد أجنبي في حال الحجب والطريقة الوحيدة التي يمكنه استخدامها هي فك الودائع في الخارج التي ستُخفض من قيمة الدينار الليبي بحسب قوله .
وأفاد قائلاً أن ما تستمر المؤسسة في فعله هو تصرف غير مسؤول وقد بدأنا في إعداد ملف خاص بهذا الموضوع، تم إحالة جزء منه إلى النيابة العامة وجزء آخر سيُحال قريباً، بالإضافة إلى سلسلة من الإجراءات سنضطر إلى اتخاذها إذا لم يتم التوصل إلى حلّ وذلك بما يتوافق مع صحيح القانون.
وأكد رئيس الديوان أن المؤسسة الوطنية للنفط ليس لديها الحق في الاستحواذ على النقد الأجنبي حتى تقوم بحجبه وماتقوم به اعتداء على أموال الخزانة العامة، وهي لاتملك إلاّ مايُخصّص لها من ميزانية.
وأفاد أن حجب الإيرادات منصوص عليه في قانون العقوبات الاقتصادية وهو مخالفة صريحة لمنع انسياب إيرادات الدولة وفق سياقها الطبيعي والمعروف، والاستمرار في مثل هذا التصرف يتطلب اتخاذ إجراءات اتجاهه سواءً من الحكومة أو ديوان المحاسبة والنيابة العامة.
وأضاف قائلاً: لم نجد تفسيراً لمثل هذا التصرف سوى أنّه غير مسؤول وسيُسبّب أضراراً كبيرة على مستوى الاقتصاد الكُلّي، رغم الأسباب الظاهرة من قبل المؤسسة.
وحيال أسباب حجب المؤسسة للإيرادات كشف “شكشك” أن هما سببيْن متناقضيْن -للأسف- أولّهما أن حجب الإيرادات ردة فعل بديلة عن إغلاق النفط؛ من جانب آخر مطالبة رئيس المؤسسة بتخصيص ميزانية وتسييلها بالكامل لحساباتها قبل توريد النقد الأجنبي وهذه مساومة في غير محلّها.
وأفاد أن حجم الميزانية التي طلبتها المؤسسة وفق محضر الاجتماع الذي اطّلعت عليه هو 37 مليار لسنة واحدة وهي ميزانية كبيرة في نظري؛ يمكن المطالبة بالإنفاق على قطاع النفط وإجراء الاستثمارات فيه ولكن ليس بالطريقة التي نراها الآن.
وأكد على أن المؤسسة الوطنية للنفط تريد الحصول على ميزانيتها من المنبع، بأن تستقطع جزء من الإيرادات لصالحها حتى قبل أن تُحال إلى وزارة المالية والخزانة العامة، هذا الأمر وإن كان يحتاج لرأي قانوني فإنّه يتطلب آليات معينة للقيام بعمليات التسوية والمراقبة والمراجعة.
وتابع بأن خصم الإيرادات مباشرةً وتحويلها إلى المؤسسة الوطنية للنفط يعني ضرورة تحوّل المؤسسة إلى شركة قابضة وإجراءات عديدة من الضروري اتخاذها وبتحديد نسبة معيّنة من المبيعات وهذا غير متوفر.
وكشف شكشك أنه ستبدأ انعكاسات ماقامت به المؤسسة الأيام القادمة عبر “حرمان” المرضى من الحصول على الخدمات العلاجية وستبدأ عمليات إخراج المرضى من المستشفيات في ساحات العلاج الخارجية بسبب توقف التحويلات المالية من مستحقات المستشفيات والشركات المقدّمة للخدمة.
وتابع بالقول: أيضاً قد نلاحظ انخفاض في العرض وارتفاع أسعار بعض السلع وقد يتطور الوضع إلى أزمة سيولة وفرق سعر صرف كالتي حصلت في عام 2014؛ كل هذه الاحتمالات واردة ونتمنى ألاّ تحصل.
واختتم حديثه قائلاً: سنمنح فرصة للحكومة والمؤسسة لحل هذه المشكلة، وإلا سيتدخل الديوان لإتخاذ موقف لمنع إستمرار هذه التصرفات.
وفي رد على ما أورده رئيس ديوان المحاسبة بطرابلس “خالد شكشك” على لقائنا معه أصدر اتحاد عمال النفط بياناً قال من خلاله: أنّ احتفاظ المؤسسة بالإيرادات النفطية هو إجراء مؤقت لضمان استمرارية الإنتاج وأنّ إجمالي إيرادات النفط هي الأعلى في هذا العام منذ سنة 2013، وبدل من أن ترى المؤسسة من “شكشك” الشُكر رأت منه الإجحاف وعدم التقدير -حسب ماذكر البيان-.
وطالب الاتحاد المصرف المركزي وإدارته بصرف الأموال وتسييل الميزانيات الطارئة لقطاع النفط، مع تجديده دعمه لإدارة مؤسسة النفط برئاسة “مصطفى صنع الله” وأن أي إجراءات يتم اتخاذها من قبل رئيس حكومة الوحدة الوطنية ورئيس ديوان المحاسبة طرابلس لن يتم الاعتراف بها وسيتبعها رد واضح.
يذكر أن صحيفة صدى الاقتصادية قد تواصلت مع إدارة المؤسسة الوطنية للنفط للرد على ماورد بالخصوص ،ولم تستجيب إلى حد الأن رغم إدعاءاتها بالشفافية والإفصاح في كل مناسبة ..
وفي لقاء حصري لوزير النفط “محمد عون” قال لصحيفة صدى الاقتصادية أن ”ماقامت به المؤسسة الوطنية للنفط مؤخراً مخالفة للإجراءات المُتبعة وهذا وارد في تصريحات رئيس ديوان المحاسبة بالخصوص”.
وأضاف:”المؤسسة الوطنية للنفط مؤسسة فنّية صرفة من المفترض تورّد مبالغ الإيرادات للمصرف الليبي الخارجي ومنه إلى المصرف المركزي في حدود 48 ساعة وهذا المتعارف عليه، وأي إجراء آخر يُتخذ من قِبل المؤسسة سواءًا بإملاءات خارجية أو داخلية يعتبر مخالف”.
مُتابعاً:”الموظف العام مسؤول عن الميزانيات التي تُحدّد له من قبل مجلس النواب والحكومة لايتجاوزها في الصرف؛ وقد صرّح السيد “صنع الله” في الفترة الماضية أنّه مترتب على المؤسسة 6.5 مليار دينار ليبي؛ فالتساؤل هنا هل هي لمشاريع مُعتمدة أم أنّها لتجاوزات مختلفة!”
وتابع :”طالبنا المؤسسة الوطنية بعرض تفصيلي لهذه الديون والمصاريف الإضافية للشركات النفطية، ولم نتلقَ أي رد حتى نتقدم به للحكومة لدعمها؛ وهنا نذكّر أن الحكومة دعمت المؤسسة عند استلامنا في شهر مارس من العام الماضي بمليار دينار ليبي من ميزانية الطوارئ”.
كما قال:”انعكاسات سلبية ستكون موجودة على كل الليبين بسبب ماتفعله المؤسسة، والمصرف المركزي يقول في تقاريره بأنّه قد يضطر إلى سحب من الرصيد الاحتياطي”.
وتحدّث مُضيفاً:”مانشاهده اليوم هو من مساوئ الإدارة السيئة لهذا القطاع الحيوي، ومن المفترض اتخاذ إجراء حازم بالخصوص؛ وقد أصدرتُ قراراً نهاية الشهر الماضي بإلغاء تكليف رئيس المؤسسة الوطنية للنفط وطلبت من الحكومة تشكيل مجلس إدارة جديد للمؤسسة”.
وصرّح أيضاً:”لم نستلم أي قرار من ديوان المحاسبة بخصوص إيقاف رئيس مجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط، لكن النقاط التي أوردها ديوان المحاسبة واضحة ومحدّدة ويبدو أنّه سيتخذ إجراءات قانونية لمعالجة هذا الموضوع، ونحن من فترة نتقدم بمذكرات لمجلس الوزراء معلنين تحفظنا على الإجراءات التي يتخذها “مصطفى صنع الله”
مُضيفاً:”مذكرتيْن منفصلتيْن من مجموعتيْن من النوّاب تقدّموا لمجلس الوزراء السنة الماضية بطلب تغيير مجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط؛ وتكليف مجلس الإدارة الحالي غير قانوني بموجب القرار 3 والقرار 50 لسنة 2014 وطال الزمن أو قصُر هذه المشاكل الإدارية لن يُعفيها الزمن من تصحيحها”.
وقال عون: “صنع الله” اتخذ من الإجراءات التي سببت في التفريط بثروة الليبين والاحتفاظ بأكثر من 10 مليار و900 مليون عند شركات أجنبية وهذا الفعل يرقى إلى جريمة اقتصادية؛ وبالتالي هو المفترض أنّه موُدع السجن بدل وجوده من منصبه حتى الآن”.
معلّقاً أيضاً بقوله:”ما أطلقه الاتحاد العام لعمال النفط والغاز من بيان فيه الكثير من التجاوزات تجاه ديوان المحاسبة الذي يُعتبر جهة سيادية رقابية لايجب المساس بها تحت أي ظرف؛ والتعرض للأجهزة الرقابية والحط من قيمتها يسيء لصاحب هذا الفعل قبل أي أحد آخر”.
كما تحدّث “عون” بقوله: في وجود “مصطفى صنع الله” نتوقع كل شيء، حتى أن تتخلى المؤسسة عن حياديتها واستقلاليتها وتنحاز لطرفٍ دون آخر؛ وهو من الناحية القانونية بالنسبة لي غير موجود على رأس هذه المؤسسة؛ هو موقوف عن العمل بقرار رقم 50 في 14 أكتوبر 2021؛ وتم تكليفه عبر قرار من وكيل وزارة وبالتالي لايجب الاستناد عليه مُطلقاً.
ختاماً: كعادة كل المواضيع لا بد أن تكون للسياسة يد في ذلك، فمعركة كسر العظم بين ديوان المحاسبة ممثلاً في رئيسه شكشك ، ومؤسسة النفط ممثلة في رئيسها صنع الله، لاتزال مستمرة، والتصريحات التي ترد بين الحين والآخر من الطرفين ماهي إلا انعكاس لذلك، فصنع الله مافتئ يتهم رئيس ديوان المحاسبة بعرقلة منح الموافقة المطلوبة لمشاريع المؤسسة وخططها، وكذلك لا تزال المعركة محتدة بين وزارة النفط ومؤسسة النفط التي تحدث صنع الله ممثلاً لها عن رفض هيمنة وزارة النفط برئاسة الوزير عون عليها ، ووصل الأمر بالوزير عون الى إقالة مجلس ادارة الموسسة الوطنية للنفط ، واللافت أيضا ان الحكومة ممثلة برئيسها الدبيبية تقف موقف المتفرج من هذا الصراع.
ومن بين هذه المناورات والمعارك يظل الاقتصاد الليبي متأرجحاً في حركته كبندول الساعة، فلا الإستقرار يعرف طريقا لهذا الاقتصاد ، ولا الأداء الاقتصادي مقنعا لأي كان، فالبعض يسرح ويمرح ووحده المواطن من سيدفع آخيراً قيمة فاتورة هذا العبث آخر المطاف..