كتب: الخبير الاقتصادي محمد أبوسنينة مقالاً
في الظروف الحالية التي تمر بها البلاد ، يكثر الكلام عن السياسات الاقتصادية وما يمكن أن يؤدي إليه اتباع أي من السياسات الاقتصادية ( النقدية والمالية والتجارية ) من نتائج بهدف معالجة مختلف المشاكل والمختنقات التي يعاني منها الاقتصاد الوطني .
وبالرغم من عدم توفر الشروط الضرورية والكافية لتطبيق أية سياسة اقتصادية ، بالنظر إلى أوضاع وقدرات المؤسسات المعنية برسم وتنفيذ هذه السياسات ، إلا أن الرهان على السياسة النقدية اليوم دون غيرها ، وتعليق آمال كبيرة على دورها في ظل الظروف الحالية يعتبر من وجهة نظري رهان على الحصان الخاسر ، فلا أدوات السياسة النقدية التقليدية المعروفة متاحة ، ولا السلطة المعنية بتطبيقها قائمة ومفعلة ، فالبيئة التشريعية غير مواتية وقنوات رسم وتنفيذ هذه السياسة لا تعمل في ظل غياب مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي بسبب الإنقسام الذي تعرض له منذ عام 2014 ، ومالم يتم توحيد المصرف المركزي وائتلاف مجلس إدارته واضطلاعه بمسؤولياته لن يكون هناك دوراً يذكر للسياسة النقدية ، وستتعاظم المشاكل الاقتصادية وتتفاقم آثارها .
وقد أدى البحث والتركيز على دور المصرف المركزي ومسؤليته عن تحقيق الإستقرار في المستوى العام للأسعار ، في ظل الظروف الحالية ، وعدم قدرته على تطبيق أي من أدوات السياسة النقدية إلى غض النظر وتجاهل أهم سياسة اقتصادية أخرى نراها مسؤلة عن كثير مما يعاني منه الاقتصاد الوطني ، وفي ذات الوقت تعتبر كفيلة بمعالجة معظم ما يعانيه من مشاكل ، ويمكن أن تلعب دوراً مهماً في دعم وتيرة النمو الاقتصادي ، في ظل الظروف والأوضاع التي تمر بها البلاد ، إلا وهي السياسة المالية ،إذا ماتم اتخاذ بعض الإجراءات ، التي نراها ضرورية وممكنة ، لكي تنجح السياسة المالية في معالجة بعض المختنقات أو على الأقل الحد من تفاقم المشاكل الاقتصادية .
المالية العامة للدولة ليست بخير ، وكيف يمكن أن تكون بخير وكانت البلاد ولا تزال تدار بحكومتين ( حكومة في الغرب وأخرى في الشرق ) وكل منهما تدعى الولاية على معظم ارجاء البلاد ، وكل منهما ينفق اموالاً ، وما يصاحب ذلك من عدم القدرة على ضبط الانفاق العام وتلافى ازدواجية الصرف أو الصرف على بعض الأوجه وعدم الصرف على أوجه اخرى لمختلف الأسباب .
المالية العامة لن تكون بخير طالما استمر الانقسام وكانت الاستدامة المالية للدولة مرهونة بمدى استمرار استخراج النفط وتصديره وهو مصدر الصدمات التي يعاني منها الاقتصاد من وقت لآخر، إن اتباع سياسة مالية حصيفة ، والالتزام بقواعد المالية العامة وأساليب إدارة المال العام وفقاً لأفضل الممارسات ، يمكن أن تؤدي إلى التغلب على كثير مما يعانى منه الاقتصاد الوطني .
وينضوي تحت أساليب إدارة المال العام ، أسلوب إعداد الميزانية العامة للدولة ومدى الالتزام بتحديد مستهدفات واضحة لها ، وآليات اقرارها وصدورها في شكل قانون وما يواكب ذالك من زيادة ونقصان في حجمها ، ومدى الالتزام بقواعد الميزانية العامة والإنفاق العام ، وحجم الدين العام وأسلوب إدارته ، ومدى كفاءة المصروفات وقدرتها على تحقيق اهدافها ، وتلافي إتخاذ قرارات بالانفاق لاتتوافق مع الأولويات وظروف المرحلة .
نقول السياسة المالية هي المؤثر الرئيسي في الاقتصاد الوطني في الوقت الحاضر ، وتجر وراءها السياسة النقدية ، وتقود السياسة المالية السياسات الأخرى بحكم التفاعل بين المتغيرات الاقتصادية وتأثير بعضها على البعض الاخر .
فزيادة الإنفاق العام والتوسع فيه يؤدي إلى تولد ضغوط على سعر الصرف ، ويحد من قدرة المصرف المركزي في المحافظة على استقرار سعر صرف الدينار الليبي ، فينشأ التضخم في الأسعار ، نتيجة لزيادة الطلب الكلي ، وتصبح الكورة في ملعب المصرف المركزي ، الذي لا يستطيع أن يحرك ساكنا في ظل الظروف التي يعمل فيها وتعطل أدوات التحكم في التضخم ، والانقسام الذي يعانيه .
ولكن من ناحية اخرى يعتبر المصرف المركزي صمام الامان في أوقات الأزمات وذلك من خلال التمسك باستقلاليته التي اعطاها اياه القانون وعدم ترتيب أي دين عام أو تمويل نفقات من شانها زيادة معدلات التضخم في الاقتصاد . ويقع المحضور عندما يتم اللجوء إلى أتباع سياسة تغيير سعر الصرف لمعالجة التضخم ، أو تسخير سعر الصرف لتمويل الإنفاق العام ، في استخدام خاطيء للسياسة النقدية ، وترك السياسة الأولى بالتفعيل والمتابعة وهي السياسة المالية .
في ظل الظروف الحالية مطلوب ترشيد الإنفاق العام وتقليصه إلى أبعد الحدود ، ومراجعة السياسة الضريبية ، ومراعاة الطاقة الاستيعابية للاقتصاد الوطني ، وعدم إرهاق كاهل المواطن ، ووضع مستهدفات واضحة للإنفاق العام وتقييمها ومتابعتها ، وتحديد مستوى الانفاق الذي لا ينشئ تضخم غير مستهدف في الأسعار ، والالتزام باولويات الانفاق ، والاستخدام الأمثل للموارد .
فزيادة المرتبات مع الاستمرار في التشغيل بالقطاع العام والتوسع فيه ، حيت قاربت نسبة عدد الموظفين وممن يتقاضون مرتبات من الخزانة العامة حوالى 30% من عدد السكان ، حتى صار بند المرتبات بالميزانية العامة للدولة فوق 30% منها، ورافق ذلك عدم الإهتمام بالتنمية وخلق فرص عمل خارج القطاع الحكومي .
مما يحد من قدرة القطاع الخاص على استيعاب عدد من الباحثين عن العمل ، لعدم قدرته على منافسة المرتبات التي تدفعها الدولة، وقد شهد الانفاق العام نموا مضطردة منذ عام 2016 ، حيت زادت مصروفات الميزانية العامة من 28.171 مليار في نهاية عام 2016 الى 85.775 مليار دينار فى نهاية عام 2021 ، وبنسبة زيادة تقدر بحوالي 194%، وفيما بين عامي 2020 و 2021 زادت مصروفات الميزانية العامة بنسبة 129% ، قام مصرف ليبيا المركزي خلالها بتمويل ميزانية عام 2020 بقرض حسن قيمته 26.7 مليار دينار .
وبمعنى أخر ، في الحالة الليبية التضخم في الأسعار ليس ظاهرة نقدية ، بل هو ظاهرة مالية ، ونتيجة لممارسات واساليب الإنفاق العام، والدليل تقدمه البيانات الاحصائية المتعلقة بالمسح النقدي ، حيث انخفضت العملة في التداول لدى الجمهور من 39.7 مليار دينار في نهاية عام 2020 إلى 30.39 مليار دينار في نهاية الربع التاني من عام 2022 وبنسبة انخفاض تقدر بحوالي 23.4% .
كما انخفضت الودائع تحت الطلب والاحتياطيات القانونية للمصارف التجارية لدى مصرف ليبيا المركزي بنسبة 24 ٪ خلال نفس الفترة ، ولم يكن ذلك نتيجة لسياسة نقدية انكماشية ، ولكن بسبب احتجاز جزء من ودائع المصارف التجارية لدى مصرف ليبيا المركزي في بنغازي وبقاءها خارج دائرة النشاط الاقتصادي ، نتيجة للانقسام والظروف التي واكبته، بمعنى أخر كان هناك انخفاض في عرض النقود ولكن استمر التضخم في الأسعار ولم تنجح جهود السيطرة عليه .
وبالرغم من ذلك ، يستمر الحديث عن دور السياسة النقدية المباشرة ، وعدم الإهتمام بالسياسة المالية وادواتها ودورها، السياسة النقدية مهمة وفعالة عندما يكون هناك مصرف مركزي واحد وتكون هناك إمكانية لاستخدام مختلف ادوات السياسة النقدية .
ومع استمرار وتيرة الإنفاق العام ، وتعدد الجهات التي تنفق الأموال العامة، لم يهتم أحد بما يمكن أن يؤدي إليه التوسع في الإنفاق العام الاستهلاكي والسياسات المالية الخاطئة ، وغياب السياسات المالية الواضحة ، والكل يطلب المزيد .
وبذلك تعتبر المالية العامة ، في الحالة الليبية ، بيت الداء ، وفي نفس الوقت مفتاح لعلاج الكتير مما يعانيه الاقتصاد الوطني من بطالة وتضخم وفساد مالي ، لو أحسن أسلوب إدارتها والوضع الأمثل هو أن يتكامل دور السياسة المالية مع دور السياسة النقدية والتجارية في ظل حكومة واحدة ومصرف مركزي واحد .