كتب: محمد أبوسنينة الخبير الاقتصادي مقالاً
يواجه الاقتصاد الليبي اختيارًا مصيرياً، يتوقف عليه مستقبل ليبيا الاقتصادي ، والرهان على التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة، فمن المعلوم أن الاقتصاد الليبي يعتمد على إيرادات النفط كمصدر وحيد للدخل ، والمورد الرئيسي لتمويل الميزانية العامة ، والمصدر الرئيسي للنقد الأجنبي .
ويسمي البعض المؤسسة الوطنية للنفط التي تقوم باستخراج وتصدير النفط، بتعبير مجازي البقرة الحلوب ، تعبيراً عن الأهمية التي يحضى بها قطاع النفط والدور الذي يلعبه في الاقتصاد الليبي .
وتحتاج هذه البقرة ، إن صحّ التعبير ، الى الغذاء اللازم والكافي والمستمر ، لكي لا يجفُّ ضرعها ، فيجوع الليبيين ويعطشون، ولكن طعام هذه البقرة وشرابها ، يأتي من حليبها الذي لن تدرّه مالم تتغدى عليه ، إذ لا يوجد مصدر أخر متاح أمامها ، يمكنها أن تقتات به غير درّها ، مالم يتم البحث عن مصادر اخرى لتغذيتها ولتمويل نشاطها ، مثل الاستدانة .
لكن القضية الرئيسية التي تجتهد وتسعى كل الدول ، المتقدمة والناشئة على حد سواء ، لمعالجتها ، وتضعها على رأس سلم الأولويات والاهتمامات ، هي قضية التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة .
وفي ليبيا ، ينبغي الا يكون هناك قضية أخرى أولى بالإهتمام من قضية التنمية الاقتصادية المستدامة ، بمفهومها الواسع ، لأن غيابها أو توقفها يعنى الرجوع إلى الحالة التي يعاني فيها المجتمع من ثالوث التخلف ( الفقر والجهل والمرض ) .
ولذلك ينبغي ألا يكون حاضر ومستقبل التنمية المستدامة في ليبيا مرهوناً ومرتبطاً بواقع و مستقبل النفط الخام ، الذي يتم استخراجه وتصديره، ذلك لأن النفط مورد ناضب ، وستنتهي احتياطياته يوما ما ، وسوقه يتعرض لمنافسة مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة ، والطاقات النضيفه. كما أن أسعار النفط ، وما يمكن تصديره منه ، حتى وإن أمكن استخراج المزيد منه ، تعتبر متغيرات تحكمها أوضاع أسواق الطاقة وظروف الاقتصاد العالمي ، الذي يتعرض للأزمة تلوى الأخرى .
فكيف نجعل تحقيق هدف الاستدامة مرتبط بمصدر أو مورد ناضب ، إذ النضوب يعني عدم الاستدامة، فهل نكتفي بإنفاق الدخل المتولد عن تصدير النفط لتطوير قطاع النفط كي يستمر النفط في التدفق ، ويستمر دخله ، أم ننفق هذا الدخل على التنمية وتطوير مصادر بديلة للدخل لكي تكون التنمية مستدامة .
ولا ننسى أن هناك جانب مهم من الدخل يوجه لأغراض استهلاكية ( مرتبات ودعم )، إذا نحن أمام مورد طبيعي واحد محدود ، وثلاثة استعمالات لهذا المورد، ووفقاً لنظرية بريتو. ، لايمكن أن ننمي هذا المورد الوحيد الذي تعتمد عليه الاستعمالات الاخرى ، إلا على حساب هذه الاستعمالات الأخرى .
كما أنه ، من ناحية أخرى ، لا يمكننا توجيه المزيد من هذا المورد لأغراض التنمية الاقتصادية والاستعمالات الاستهلاكية ، إلا على حساب تنمية هذا المورد وزيادة الدخل المتولد عنه، إذا نحن أمام مايعرف بالمفاضلة بين الخيارات (. trade – off ) المتاحة ؛ هل ننمي قطاع النفط على حساب التنمية الاقتصادية ، أم نهتم بالتنمية الاقتصادية المستدامة ، على حساب تنمية قطاع النفط ذاته ؟ اي نقوم بتوجيه معظم الإيرادات النفطية لبناء اقتصاد قوي لا يكون معتمدًا على إيرادات النفط في المستقبل ؟
هذا السؤال ، الذي يتضمن الإختيار الصعب ، لم تقف عنده أي من الحكومات السابقة ، وأن تم التعرض إليه في بعض المناسبات وفي بعض الأوقات ، فلم يكن ذلك بالعمق والجدية المطلوبة ، ولم تتم الإجابة عليه بشكل واضح ، ولطالما نبهنا إلى هذا الموضع واهميته، إذ لا توجد رؤية واضحة لمستقبل الاقتصاد الليبي ، ولم تطرح استراتيجية تتضمن سياسات واضحة حول أولويات الإنفاق ، وما سيكون عليه الاقتصاد الليبي في المستقبل .
كما أن قطاع النفط ، لم يعمل في الماضي على تطوير نفسه ، بالتوجه نحو الصناعات البتروكيماوية التي يمكن أن تسُد حاجة الاقتصاد الوطني منها ، واستخدام مردوداتها لتنمية قدرات قطاع النفط في الاستكشاف والتصدير .
قد يأتي من يقول نستمر في الإنفاق الاستهلاكي والدعم ، وشى من التنمية ، وفي ذات الوقت نسخر بعض الموارد لتنمية قطاع النفط ، بمعنى أخر لا نهمل قطاع النفط ونخصص جزء من الدخل لتنميته ، ونوجه ماتبقى من الدخل لدفع المرتبات والدعم وقليل من الانفاق التنموى . وهذا القول ، في الواقع ، يعني الاستمرار في نمط وأسلوب تخصيص الموارد المعمول به منذ اكتشاف النفط والبدء في تصديره في أوائل الستينيات من القرن الماضي ، ولازال هو النمط السائد ، والذي تبت عدم جدواه .
وخلال العقد الثاني من الألفية الثالثة ، ومند عام 2011 تم تكريس هذا النهج ، رغم ما طرات من مرونة في اتخاذ القرارات ، بل أن كفة الإتفاق الإستهلاكي والدعم رجحت كفة الإنفاق التنموي بالرغم من الميزانيات الفلكية التي تم اقرارها وتنفيذها ، ولم يحظى قطاع النفط بما يستحقه من إهتمام .
وقد اسفرت التجربة أن الأسلوب الذي كان متبعًا ولايزال ، قد زاد من حدة الاعتماد على النفط ، وتبعية الاقتصاد برمته لقطاع النفط ، مما يعرض الاقتصاد للصدمات ويعمّق حالة عدم الاستقرار، كما ترسخت الثقافة الريعية ، وحالة المجتمع الاستهلاكي ، وصارت هناك شكوك ، بل مؤشرات تنبىء بأن مستقبل التنمية المستدامة في خطر ، في ظل التراجع الكبير في تقديم الخدمات العامة ونوعيتها ، وظهور موشرات للفقر ، وغياب الحماية الاجتماعية للفئات الهشة .
هذا النمط من تخصيص الموارد يغفل أو يتجاهل حقيقة أن دخل النفط محدود ، وسيتوقف يومًا ما ، فماذا اعددنا لمرحلة ما بعد النفط ؟ ولن يكفي تخصيص ايرادات النفط او توزيعها بهذه الكيفية لتحقيق التنويع المطلوب للاقتصاد وتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة، إذًا لا مناص من مواجهة السؤال الاستراتيجي ، والخيار الصعب ؛ هل نستمر في الاعتماد على النفط أم نبدأ من اليوم في العمل على التخلص من هيمنته باعادة النظر في الأسلوب المتبع في توزيع الموارد ، الذي بات يهدد مستقبل البلاد والأجيال القادمة ؟ الأولوية ينبغي أن تكون لإعادة هيكلة الاقتصاد بهدف تنويعه وعلى النحو الذي يفضي الى الاستغناء عن دخل النفط ، على المدى المتوسط والبعيد ، عندما تتعدد مصادر الدخل البديلة الأخرى .
هل نعي لماذا اقدمت معظم الدول النفطية على وضع وتبني رؤى ذات بعد زمني محدد بهدف تنويع اقتصاداتها وضمان تحقيق التنمية المستدامة ؟، هل ندرك أهداف التنمية في الألفية الثالثة التي أجمع عليها المجتمع الدولي ، وبادرت مختلف الدول في تنفيذها .؟
الخطوة الأولى لتدارك الوضع تكون من خلال تخصيص النسبة الأكبر ( ما لا يقل عن 70% من الدخل) لغرض تطوير وتنمية مصادر الدخل البديلة ، ووضع سقف لتقديرات الميزانية العامة للدولة ، أي حد اقصى للإنفاق العام الذي ينبغي أن تتقيد به الحكومة ، وأن تبنى تقديرات الدخل المتولد عن تصدير النفط خلال السنة المالية ، لاغراض وضع تقديرات الميزانية العامة للدولة ، على سعر تصدير متحفظ ، يمكن أن يكون هذا السعر في حدود خمسون دولار للبرميل .
هذا لايعني التوقف عن الاستثمار في قطاع النفط والغاز ، بل يعني العمل على زيادة معدلات الاستكشاف والتصدير من خلال البحث عن مصادر أخرى لتمويل الاستثمارات النفطية ، والتوسع في الصناعات البتروكيماوية ، سواء بالاقتراض من القطاع المصرفي أو الدخول في شراكات مع مستثمرين أجانب وفقاً لشروط تكفل حقوق الجانب الليبي وتحقق أقصى مردود ممكن من وراء هذه الاستثمارات .
كما أن إعادة النظر في نمط تخصيص الموارد المتبع اليوم لا يعني أيضًا تخلى الحكومة عن مسؤلياتها في تقديم الخدمات للمواطنين أو دعم المستحقين للدعم بمختلف اشكاله ، ولكنه يعني ترشيد الإنفاق العام وإصلاح المالية العامة وإصلاح نظام الدعم ، والتوقف عن التوسع في تشغيل الباحثين عن العمل في المؤسسات الحكومية ، وتهيئة الظروف المناسبة كي يقوم القطاع الخاص بدوره في إنتاج السلع والخدمات واستيعاب القدر الأكبر من الباحثين عن العمل ، والمساهمة في تمويل الميزانية العامة للدولة .
إن التخصيص الأمثل للموارد المتاحة على مختلف الاستعمالات ، يحتاج لوضع رؤية محددة ، تتضمن استراتيجية واضحة المعالم والاهداف ، لتحقيق التنوع المطلوب في مصادر الدخل ، والخوض في استغلال الموارد الطبيعية الأخرى ، والاستثمار في المقدرات الذاتية الاخرى المتاحة في ليبيا .
وإن تتضمن الاستراتيجية التخلي عن النمط التقليدي في تخصيص الموارد ، الذي ثبت فشله ، و الذي يكرس الثقافة الريعية الاستهلاكية ، وما تتضمنه من مظاهر التخلف والفساد ، ويهدد بعودة ثالوث التخلف ( الفقر ، والجهل ، والمرض ).