كتب الخبير النفطي “محمد الشحاتي” مقالًا قال فيه:
تعتبر التصريحات الإعلامية أحد أهم الأدوات التي يمكن أن توظفها المؤسسات والأجهزة المختلفة سواء كانت سيادية أم حتى من القطاع الخاص لتحقيق أهدافها وأهداف المجتمع، فالتصريح في الأغلب لا يقصد به الإفصاح عن آليات العمل الداخلية بقدر ما يقصد به التأثير على المجتمع الخارجي للتفاعل مع السياسات الداخلية للجهاز الذي أصدر التصريح الإعلامي.
وتتنوع التصريحات بتنوع الأجهزة والمصالح التي تطلقها، حيث يكون التصريح السياسي في العادة تصريح يهدف به إلى التأثير على العامة لخفض المعارضة تجاه سياسات تحديد الأولويات، تكون التصريحات الاقتصادية والمالية هادفة إلى صنع ترتيب للأولويات وفق الموارد المتاحة.
وبينما لا يوجد للسياسي قواعد ثابتة حيث يمكنه من تغيير منطلقاته وفقًا للظروف التي يمر بها، يجب على الشخصية الاقتصادية أو المالية تحري الدقة والتزامه بالقواعد المنطقية فيما تطرحه من تصريحات.
في الولايات المتحدة الأمريكية وربما في العالم كله يترقب الجمهور تصريحات محافظ بنك الفيدرالي الأمريكي النقدية أكثر بكثير من ترقبه لتصريحات الرئيس الأمريكي السياسية، فتصريحات المحافظ الفيدرالي تعني للكثير إعادة توزيع الأدوار للمؤسسات الاقتصادية بما سينتج عنه تغير في مجرى تدفق الأموال، فلا يعنيك هنا أنك أنشئت سداً لحجز الأموال في منحدر معين لأن المركزي الفيدرالي قد يعيد توجيه الجريان لمنحدرات أخرى وتبقى سدودك التي كانت تطفح بالسيولة جافة.
تفسير التصريحات يبقى أهم كثير من تلاوتها في محفل عام أو عبر وسيلة إعلامية، فمثلا يمكن لذكر كلمة “تعافي” بدون قصد أن تشعل أسواق الأسهم، ويمكن لنطق خاطئ لكلمة “تضخم” أن تفلس المئات من الشركات، لذا فأن التصريحات الدقيقة لمحافظي البنوك المركزية هي إشارات ضوئية للتحرك في مختلف الاتجاهات، وحري بها أن تعكس الحقيقة لأنها أن لم تكن كذلك فأنها ستسبب في حوادث أليمة.
القواعد الأساسية في تصريحات المصرف المركزي أنه لا ينبغي أن يتحدى الجمهور فهذا يترك للسياسيين، اختيار طريق أو منهج اقتصادي معين لا يقع في ضمن اختصاصات السلطة النقدية، فالاعتماد على مصدر واحد أو تنويع المصادر هو سياسة اقتصادية ينبغي أن يتم تدارسها من قبل السلطات التنفيذية وترتيب كيفية الانتقال من مصدر إلى مصادر أو البقاء على مصدر واحد ولكل سيناريو إيجابيات وسلبيات، الحديث من محافظ المركزي عن هذا الأمر لن يفهم بأنه منطق اقتصادي أو أيدلوجية اقتصادية بقدر ما يفهم منه أنه توجه للتضييق على المصدر الوحيد للدخل واللهث وراء سراب التعدد وهذا ما تم لعدة سنوات وأثبت فشلاً ذريعاً مسبباً تهاوي لا مثيل له للبنية التحتية للمصدر الوحيد.
أما عن النقاش العام والخاص عن سعر العملة فأن السياسات النقدية بما فيها سعر الصرف وسعر الفائدة هي أكثر القضايا إلحاحا للنقاش العام، فمهما كانت قدرات المصرف المركزي التحليلية لا يمكن له الالمام بكل الحقائق والخيارات المتاحة أمامه، أن النقاش العام المتزن والذي يجب أن يشجع عليه المصرف كما تفعل جميع المصارف العالمية في السماع للرأي العام في القضايا النقدية والمالية سيدفع إلى تحسين نوعية القرار، أما الاستخفاف بالرأي العام هذا سيعطي إشارة تشاؤمية للأسواق المالية مع توقع تشديد أكثر.
لا أظن أن الرأي الاقتصادي العلمي اليوم يؤمن بتخفيض الدولار أمام الدينار والرجوع إلى سعر الأحلام 0.30 دينار للدولار، فالواقع أن تخفيض الدولار سيعني فيما يعني وقوع الحكومة في براثن العجز المالي وهذا سيكون له عواقب وخيمة على الاقتصاد، ولا أظنه من الحكمة التلويح بهذا الخيار من قبل المركزي كما حصل وبشروط تعجيزية مثل (تنويع الاقتصاد)، الزمن لا يعود للوراء وقرار تخفيض سعر الدينار كان خطأ مميت في ظل عدم وجود انضباط صرف حكومي، وقد حذر الكثير من الاقتصاديين من هذه النتيجة، والسلطة النقدية تتحمل المسئولية عن هذا الخطأ.
الحل الآن هو رفع القدرة الشرائية للمواطن الليبي بما يتناسب وسعر الدينار الحالي، وهذا يتأتى بسياسات متعددة (لا يأتي من ضمنها بالتأكيد تنويع الاقتصاد)، السياسة الأولى هي تنظيم التجارة ومنع الاحتكار، السياسة الثانية هي تنظيم سلاسل التزويد، السياسة الثالثة هي رفع الأجور المتعقل وربطه بالكفاءة، السياسة الرابعة هي خلق طلب محلي على الدينار نتيجة عملية تنموية محلية، الزاوية العمياء التي لا يراها المركزي هو استمرار مشكلة السيولة في البلد، وهي من صميم اختصاصات السياسة النقدية التي يديرها المصرف المركزي، فحتى مع الفائض الكبير الذي تحقق بتخفيض قيمة الدينار لم يستطيع المركزي من حل هذه المشكلة لأسباب بديهية جدا.