كتب الخبير الاقتصادي “محمد أبوسنينة” مقالاً، قال خلاله:
بإختصار شديد :
لازال إهتمام الليبيين (اللذين يديرون المشهد ومتحدي القرار) مقتصراً على البحث عن حلول لمشاكل يعاني منها الاقتصاد على المدى القصير ؛ مثل سعر الصرف ، تمويل الانفاق العام ، السيولة ، دعم المحروقات ، المرتبات ، انتاج النفط ؛ كل هذه المجالات تعاني من تشوهات ؛ تظهر وتختفي ، وهي في الواقع أعراض للمشكلة الحقيقية التي يعاني منها الاقتصاد؛ وفي تجاهل كامل لهذه المشكلة الخطيرة التي تواجه الاقتصاد الليبي وتهدد مستقبل الدولة وهي مشكلة الاعتماد التام على إيرادات تصدير النفط الخام ، والثقافة الريعية ، والوضع المأزوم المترتب عليها ، والدوران في حلقة مفرغة تعززت حلقاتها ، واستمرار حالة الاقتصاد الأحاديّ ( غير المتنوع ) ، وغياب أي رؤية لأنقاد الوضع .
فاتورة المرتبات تودّي إلى تضخم الانفاق العام ، تضخم الانفاق العام يؤدي إلى عدم استقرار سعر الصرف ، عدم استقرار سعر الصرف يرتب ضغوط على الاحتياطيات ، تدني الاحتياطيات يودّي إلى فرص قيود على استعمالات النقد الاجنبي ،تقليص المعروض من النقد الاجنبي يرتب مشكلة في السيولة وينشط ويرفع سعر صرف النقد الأجنبي في السوق السوداء ومن تم نقص السيولة ، نقص السيولة المتاحة للجمهور يؤدي إلى تدهور الثقة في القطاع المصرفي ، تدهور الثقة في القطاع المصرفي يؤدي إلى المزيد من الإعتماد على الانفاق العام ؛ تخصيص أموال لتطوير قطاع النفط ياتي على حساب ما يخصص لأغراض مشروعات التنمية الأخرى ، وتستمر الدوامة التي يعاني منها الاقتصاد، بمعنى أن علاج أي من المشاكل أو التشوهات القائمة يولد مشكلة أخرى أو يعزز مشكلة قائمة أخرى ، لأن الخلل هيكلي، فلا تمويل للإنفاق العآم والموازنة العامة بدون إيرادات النفط .
ولا استقرار لسعر صرف الدينار الليبي بدون إيرادات النفط، ولا اعتمادات مستندية لتوريد السلع والمستلزمات وكذلك الخدمات بدون ايرادات النفط، ولا مرتبات لحوالي 2.8 مليون ليبي بدون ايرادات النفط، ولا محروقات للكهرباء ووسائل المواصلات بدون ايرادات النفط، ولا دعم للمحروقات بدون ايرادات النفط، ودعم المحروقات يرتب ضغوط على الميزانية العامة للدولة، ولا تطوير لقطاع النفط بدون ايرادات النفط .
والحقيقة التي يتجاهلها صناع القرار أن النفط مورد ناضب وسينتهي خلال سنوات قد لا تتجاوز ربع قرن ، وماذا يساوي ربع قرن من الزمن في عمر الدولة ، وأن النفط يفقد سوقه لصالح مصادر الطاقة النظيفة والبديلة على المدى المتوسط ، وهي حقيقة أخرى لا يعيرها المعنيون أية اهتمام ، وأسعار النفط تتجه نحو الانخفاض ، وإن نمط استغلال إيرادات النفط لا يراعي حق الأجيال القادمة واعتبارات التنمية المكانية المتوازنة , وما تمليه اعتبارات التغير المناخي الذي يوجه العالم بأكمله؛ وإلا لماذا لم تعمل أي من الحكومات التي تعاقبت على البلاد على وضع استراتيجية جادة لتنويع الاقتصاد يضعها خبراء مختصون ، والبدء في تنفيذها، واكتفت هذه الحكومات ، فقط بإطفاء الحرائق التي تظهر من وقت لآخر ؛ فضلا عن ان الصندوق السيادي الليبي ، الذي تقدر أصوله بأكثر من 60 مليار دولار ، لم يساهم حتى الان في تمويل عجز الموازنة العامة للدولة خلافا للاهداف التي أسس من أجلها ؛ امّا الموارد الطبيعية الأخرى التي تزخر بها الأراضي الليبية ، فهي أيضا تم تحييدها ولم يلتفت إليها أحد ، ولا مجال لاستغلالاها ، في ظل الظروف الحالية ، وأساليب توظيف واستغلال ايرادات النفط التي صارت توجه لاغراض استهلاكية ، ولن تتأتى امكانية استغلال الموارد الطبيعية الأخرى إلا باستثمار الإيرادات النفطية فيها ، غير ان هذه الإيرادات صارت بالكاد تكفي لدفع فاتورة المرتبات .
والحال هكذا ، لا خيار ، ولا أولوية ، ولا مجال ، وقبل فوات الأوان ، لأنقاد الاقتصاد الليبي ومستقبل الدولة والأجيال القادمة ، والخروج من دوامة الأزمة ، إلاّ بتنويع مصادر الدخل وإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني ، والتوقف عن التوسع في الانفاق الاستهلاكي والدعم ، والتخلص من هيمنة دخل النفط على الاقتصاد ، وإصلاح المؤسسات والقضاء على الفساد ، في منظور زمني محدد .