
| مقالات اقتصادية
“الشحومي” يكتب: انزلاقٌ حتميّ أم دورة عابرة؟ كيف تلتقي مسارات ليبيا مع كندا وأستراليا وإلى أين يقود فائض النقد بلا نمو؟
كتب الخبير الاقتصادي “منذر الشحومي” مقالاً بعنوان: انزلاقٌ حتميّ أم دورة عابرة؟ كيف تلتقي مسارات ليبيا مع كندا وأستراليا وإلى أين يقود فائض النقد بلا نمو؟
كان الوقت منتصف العقد الماضي عندما بدا أن الدولار الكندي (CAD) والدولار الأسترالي (AUD) يتسيّدان مشهد العملات السلعية؛ إذ استفادا من طفرة أسعار النفط والمعادن، فتدفّقت الاستثمارات إليهما. بلغ الدولار الأسترالي ذروته قرب 1.20 مقابل الدولار الأمريكي، فيما ارتفع الدولار الكندي حتّى لامس عتبة 0.90. يومها، تصدّرت كلتا العملتين العناوين بوصفهما “ملاذات آمنة” في عالمٍ عطِشٍ للموارد.
لكن سرعان ما بدأت الرياح تدور مع تراجع الطفرة السلعية، فتعرّضت كلٌّ من كندا وأستراليا لامتحانٍ قاسٍ: تدهوُر أسعار النفط والمعادن، تحوّلٌ في مزاج الأسواق حيال المخاطر، وسياسات نقدية توسّعية، نعم، ولكن لم تكن أسعار الفائدة المنخفضة هي العامل الوحيد في معادلة التراجع. فما حدث كان أشبه بسيمفونية مكتملة الأركان: تبدّلٌ في أوضاع الاقتصاد العالمي، وانحسارٌ في شهية المستثمرين للسلع، وتقلّباتٌ في تدفّقات رأس المال ولم تستطع عملتاهما الإفلات من المصير المنطقي لتلك الدورة.
إذا نظرنا الآن إلى كندا وأستراليا، فسنرى عملتين فقدتا جزءًا معتبرًا من قيمتهما مقارنةً بأعلى مستوياتهما؛ إذ اقترب انخفاض الدولار الكندي من 50% (بعد تحرّكه من 0.90 إلى ما يفوق 1.4 أحيانًا أمام الدولار الأمريكي)، بينما تراجع الدولار الأسترالي بنحو 50% مقارنة بذروة 1.20. ومع أنّ أسعار الفائدة المنخفضة أسهمت بلا ريب في الحدّ من جاذبية هاتين العملتين، فإنّ الأثر الأهم جاء من اهتزازٍ في الطلب العالمي على السلع واضطرابٍ شامل في منظومة الاقتصاد الكلّي دوليًا.
ليبيا: حين تتراكم أوراق المال بلا أساسٍ اقتصادي
على الضفة الأخرى من البحر المتوسط، تلوح تجربة ليبيا في مشهدٍ أكثر تعقيدًا؛ فهنا لا نتحدّث عن اقتصادٍ متنوّعٍ أو مؤسساتٍ راسخة كالتي تمتلكها كندا وأستراليا.
• تعتمد ليبيا على النفط، مثلما تعتمد الرئتان على الهواء؛ إذ يشكّل النفط المصدر الأكبر للعملة الصعبة.
• تشهد البلاد أوضاعًا سياسية منقسمة، ما يجعل إدارة السياسة الاقتصادية مهمّةً شبه مستحيلة.
• أمّا النقد المنخفض التكلفة (أو ما يُسمّى أحيانًا “التمويل بالعجز”) فقد ازداد بشكلٍ لافت، رغم عدم تحقيق أي نموٍّ حقيقي في الناتج المحلي الإجمالي.
وما زاد الطين بلّة هو صدور قانون مصرفي يحظر التعامل بالفائدة؛ فبينما تلجأ البنوك المركزية حول العالم إلى رفع أسعار الفائدة للدفاع عن عملاتها عند الضرورة، يجد المصرف المركزي الليبي نفسه محرومًا من أداةٍ رئيسية لضبط التضخم وجذب رؤوس الأموال. وفي خضمّ هذا الفراغ، يجري ضخّ السيولة في السوق المحلية من دون توسّعٍ مواكبٍ في الإنتاج، فتتآكل قيمة الدينار الليبي بحكم المعادلات الاقتصادية البسيطة: زيادة المعروض من العملة دون زيادة موازية في السلع والخدمات تعني ارتفاع الأسعار محليًا وتراجع قيمة العملة خارجيًا.
الشقيقات المتأزمات: عندما تتحوّل الثروات إلى عبء
ليبيا ليست وحدها التي تعاني ما يمكن وصفه بـ“انفصام” بين امتلاك موارد هائلة وفشلٍ في تحويلها إلى رخاءٍ مستدام. أمثلة أخرى في المشهد العالمي:
1. العراق
• بلدٌ نفطيٌ بامتياز، عانى أيضًا من عدم الاستقرار السياسي ومن توسّع الإنفاق دون إنتاجيةٍ توازيه.
• تعرّض الدينار العراقي لسلسلة من الضغوط على مرّ العقدين الماضيين، خصوصًا عندما تراجعت أسعار النفط أو اشتدّت حدّة الصراعات.
• اجتهدت السلطات النقدية في بغداد بإجراءات لضبط السوق، بما فيها تخفيض قيمة العملة أحيانًا أو اللجوء إلى احتياطي النقد الأجنبي، لكنها غالبًا حلولٌ موضعية لا تعالج جذور المشكلة.
2. فنزويلا
• حالة متطرّفة من الاعتماد على النفط، صاحبها شللٌ مؤسسي وتدخّلاتٌ سياسية في سياسة البنك المركزي.
• تضخّمٌ مفرط جرّ العملة الوطنية إلى مستوياتٍ شديدة الانهيار. وقد نَجَمَ هذا ليس عن تغيّر أسعار الفائدة فحسب، بل عن إدارة اقتصادية كارثية في ظلّ طباعة النقود بلا ضوابط ونضوب الاستثمار الأجنبي، فضلًا عن العقوبات الدولية.
رغم التفاوت في التفاصيل، تتشابه هذه الحالات مع ليبيا في كونها دولًا تعتمد مصدرًا واحدًا (أو شبهَ وحيدٍ) للعملة الصعبة، وتفتقر في آنٍ واحدٍ إلى بنيةٍ مؤسسيةٍ محكمة، وأدوات نقديةٍ مرنة، وسياساتٍ قادرة على توليد نمو حقيقي.
دورة الموارد العالمية: طفراتٌ وانكماشات
إن القول بأن تراجع الدولار الكندي والأسترالي جاء نتيجة الفائدة المنخفضة وحدها، يختزل المشهد إلى عنصرٍ واحدٍ في لوحةٍ أكثر شمولًا. فالاقتصاد العالمي تحكمه دوراتٌ واسعة للطلب على النفط والغاز والمعادن—ما يصطلح عليه “الدورة السلعية”. عندما ينتعش الاقتصاد العالمي، تزداد الحاجة إلى تلك السلع، فترتفع أسعارها وتتدفق الأموال إلى الدول المنتجة. وحين يهدأ الطلب العالمي أو تتخلى الأسواق عن المخاطرة، تتقلّص أسعار السلع، فتنكمش إيرادات الدول المعتمدة على تصديرها، وتتراجع عملاتها تبعًا لذلك.
في كندا، غالبًا ما يُطلق على الدولار الكندي “الدولار البترولي”. وفي أستراليا، يربط المستثمرون أداء العملة بحركة أسعار خام الحديد والفحم. ومع هبوط الطلب الصيني على الحديد أو تراجع أسعار النفط، لم يعد من اللافت أن تتدهور قيمة هاتين العملتين أمام الدولار الأمريكي، الذي استفاد بدوره من تحسّنٍ نسبي في الاقتصاد الأمريكي وزيادةٍ في أسعار الفائدة عام 2022 و2023.
ليبيا وسؤال المستقبل
إذا كانت مشكلات كندا وأستراليا قد انحصرت—على الأقل جزئيًا—في تراجع أسعار السلع وضعف الفائدة، فإن ليبيا تواجه همًّا أكبر: فهي عالقة في حلقةٍ محكمةٍ من غياب السياسات الاقتصادية الفعّالة، وانعدام النمو الإنتاجي، وتوسّع الكتلة النقدية بلا ضوابط. ويظهر هذا جليًّا عند مقارنة أداء الدينار الليبي في السوق الموازية بسعره الرسمي: الفجوة الواسعة بينهما تعكس حجم الضبابية وفقدان الثقة.
إضافةً إلى ذلك، يواجه صانعو القرار في ليبيا تحدّيًا يؤجّجه القانون الذي يحظر التعامل بالفائدة، ما جرّد المصرف المركزي من أداةٍ شائعة في ضبط السوق. صحيحٌ أن البلدان الإسلامية طوّرت بدائل مالية قائمة على المشاركة والمرابحة والصكوك، لكن هذه البدائل تتطلّب إطارًا مؤسسيًا قويًا وخبرةً في إدارة السيولة؛ وهي أمورٌ صعبة التحقق في بلدٍ يعاني انقساماتٍ عميقة.
خاتمة: نهاية الحكاية أم بدايتها؟
إنّ قصّة الدولار الكندي والأسترالي تلخّص كيف يُمكنُ لاقتصاداتٍ متقدّمة، ذات مؤسساتٍ راسخة وبنوكٍ مركزية مستقلّة، أن تتعرّض عملاتها للضغط لمجرّد تبدّل الظروف العالمية. فما بالنا باقتصاداتٍ أقلّ تنوّعًا وأكثر هشاشة!
حينما يتغيّر مزاج الأسواق وينقلب الطلب على الموارد، ويفتقر صانعو السياسة إلى السياسات الملائمة—سواء كانت نقدية أو مالية—فإن مصير العملات السلعية التراجع بل وربما الانهيار. وقد رأينا كيف تآزرت هذه العوامل في العراق وفنزويلا، وتجلّت على نحوٍ أكثر حدة في ليبيا: إفراطٌ في ضخ الأموال، ونموٌّ اقتصادي متواضع، ونقصٌ حادٌّ في الأدوات النقدية، يضع الدينار في مهبّ الريح.
لا شكّ أن للدول الغنية بالموارد فرصة فريدة لتحقيق ازدهارٍ مستدام، شريطة أن تبني مؤسساتٍ قويّة وسياساتٍ متزنة وترفع من كفاءة استخدام أموالها في تنويع الاقتصاد. لكن، في غياب هذه الشروط، تظلّ الدول الريعية محكومة بالدوران في حلقةٍ مأساوية من صعود مؤقت في وقت الوفرة وهبوطٍ مدوٍّ كلما انحسرت موجة الأسعار العالمية. وهي حكاية تتكرّر على مرّ التاريخ، وستبقى درسًا واضحًا مفاده: من يعتمد على سلعةٍ واحدةٍ، ومن يفتقر إلى أدواتٍ نقديةٍ فاعلة، ومن لا يربط سياساته بالنمو الحقيقي، فإن عملته ستبقى في مهبّ تقلّبات السوق، إن لم تذوِ تمامًا في لحظةٍ ما.