Skip to main content
"الشحومي" يكتب: صندوق دعم الشركات الناشئة في ليبيا: خطوة أولى إيجابية وتحديات النجاح
|

“الشحومي” يكتب: صندوق دعم الشركات الناشئة في ليبيا: خطوة أولى إيجابية وتحديات النجاح

كتب خبير استثماري ومدير صندوق رأسمال جريء في المملكة المتحدة “منذر الشحومي” صندوق دعم الشركات الناشئة في ليبيا: خطوة أولى إيجابية وتحديات النجاح

في مطلع هذا العام، أعلنت الحكومة الليبية عن إنشاء صندوق لدعم الشركات الناشئة ضمن مبادرة “1000 رائد لـ1000 مشروع”، في خطوةٍ تُعدّ مهمة لتعزيز ريادة الأعمال والابتكار في البلاد، وفي إشارة أخرى إلى جدّية الدعم الرسمي لهذا القطاع، أصدر رئيس مجلس الوزراء القرارين رقم (121) و(122) لسنة 2025، ليعيد بذلك هيكلة “صندوق دعم الشركات الناشئة” تحت اسم جديد هو “صندوق دعم وضمان تمويل الشركات الناشئة للمبدعين والمبتكرين”. وقد نصّت هذه القرارات على تمتّع الصندوق بالشخصية الاعتبارية والذمة المالية المستقلة مع تبعيّته المباشرة لمجلس الوزراء.

يقدّم هذا المقال نظرة على الخطوات الأولى التي اتخذتها ليبيا لدعم ريادة الأعمال والابتكار من خلال تأسيس صندوقٍ خاصٍّ بالشركات الناشئة، مسلّطًا الضوء على التحديات المرتبطة بضمان حوكمة فعّالة وتخصيصٍ رشيدٍ للموارد. ولعل المفارقة تكمن في أنّي أدوّن هذه الكلمات أثناء متابعتي لإعلان المستشار البريطاني في بيانه الربيعي عن حزمة جديدة لدعم الاقتصاد الابتكاري والشركات الناشئة في المملكة المتحدة، بعد يومٍ واحد فقط من الإعلان الليبي ذاته، ما يؤكد أن قضية دعم الابتكار تجاوزت حدود القطريْن لتغدو شأنًا عالميًا. يتناول المقال أهمية الحوكمة القوية لتجنّب سوء التخصيص وتدخل البيروقراطيين في القرارات الاستثمارية، ويدرس دورة حياة الشركات الناشئة من مرحلة الفكرة الأولية  إلى مرحلة الطرح العام الأولي، كما يميز ما بين الاستثمار الجريء المبني على المعايير السوقية والمنح الحكومية التي قد تؤدي أحيانًا إلى اعتمادية غير صحية، مشددًا على ضرورة تنويع أدوات التمويل على غرار تجارب الشركة السعودية للاستثمار الجريء وبنك الأعمال البريطاني، مع تقييد حصة الحكومة في صناديق رأس المال الجريء عند 25% لتفادي ضغوط التدخل البيروقراطي. كذلك يشير المقال إلى أهمية تفعيل القوانين القائمة بدل إصدار تشريعات جديدة، وتبسيط الإجراءات الإدارية، وتحديث منظومتي التعليم والجامعات لتخريج رأس مال بشري مؤهل، إضافةً إلى تطوير البنية التحتية الرقمية من خلال تعزيز الشبكات وأنظمة الدفع الإلكتروني وخدمات الحكومة الرقمية، ويبيّن أيضًا ضرورة صون بيئة تنافسية عادلة، تتضمن حماية الملكية الفكرية ونبذ الفساد والاحتكار، وتقبّل الفشل بوصفه خطوةً في مسار النجاح. ويخلص أخيرًا إلى ضرورة توطين الخبرة محليًا عبر بناء القدرات في مجال الاستثمار الجريء واستقطاب صناديق رأس مال دولية، واستلهام الدروس من دول كإستونيا ورواندا وكولومبيا وأوكرانيا التي استطاعت على اختلاف سياقاتها بناء بيئات ريادية ناضجة. وفي المحصلة، يخلص المقال إلى أنّ إنشاء الصندوق الليبي لا يعدو كونه بداية مشجّعة، إذ تلوح ضرورة إستراتيجية وطنية شاملة للإصلاح التشريعي، وتطوير رأس المال البشري، وتحديث البنية التحتية، وإيجاد حوكمة عالية في إدارة المبادرات، خصوصًا في ظل الوعي العالمي المتنامي بأهمية قطاع الشركات الناشئة والاقتصاد الابتكاري كمحركٍ للنمو والتوظيف.

حوكمة قوية لتفادي مشكلة الوكالة وسوء التخصيص

أول ما يتعين على القائمين على الصندوق ضمانه هو وجود إطار حوكمة قوي وشفّاف لإدارة عملياته، فالتمويل الحكومي عرضة بطبيعته لما يسمى “مشكلة الوكالة” – أي احتمال اختلاف حوافز المديرين والمسؤولين عن الصندوق عن المصلحة الفضلى لأصحاب المصلحة (رواد الأعمال والمجتمع)، بدون حوكمة فعالة، قد يشهد الصندوق سوء تخصيص للموارد فتُموَّل مشاريع غير مجدية أو تُختار شركات ناشئة بناءً على الولاءات والعلاقات بدلًا من الجدارة والكفاءة. ويُلاحظ في تجارب عديدة أن غياب الضوابط والشفافية يقود إلى هدر الأموال العامة دون تحقيق الأثر التنموي المرجو.

لتجنب هذه المعضلة، يجب تصميم هيكل إدارة للصندوق يتمتع باستقلالية نسبية وخبرة متخصصة، قد يكون من المفيد إشراك خبراء ومستثمرين من القطاع الخاص في لجان التقييم واتخاذ القرار، لضمان موضوعية تقييم المشاريع وفق معايير السوق. كذلك ينبغي وضع آليات واضحة للمساءلة وقياس الأداء – مثل تتبع نسب نجاح الشركات المموَّلة ومستويات التوظيف والنمو التي تحققها – وبناء نظام رقابة داخلية وخارجية يمنع تضارب المصالح. الشفافية هنا مفتاح الثقة: إعلان المعايير، وإتاحة المعلومات حول المشاريع المختارة وحجم التمويل، وتوضيح أسباب الاختيار، كلها خطوات تعزّز المصداقية وتطمئن رواد الأعمال بأن الفرص متساوية للجميع بناءً على الجودة والابتكار.

الحوكمة الرشيدة ليست ترفًا إداريًا بل شرط أساسي لنجاح الصندوق؛ فهي ما سيحدد ما إذا كانت أموال الدعم ستذهب إلى الوجهة الصحيحة – أي أصحاب الأفكار المجدية والقابلة للنمو – أم أنها ستُبدَّد دون أثر.

من الفكرة الأولية إلى الطرح العام الأولي: خريطة منظومة الابتكار والشركات الناشئة

يتطلّب فهم ديناميات الابتكار وريادة الأعمال في ليبيا، كما هو الحال في أي اقتصاد طامح للتحديث، الإحاطة بالرحلة التي تسلكها الشركة الناشئة منذ كونها مجرّد فكرة في مرحلة التأسيس الأولي (Pre-Seed) وحتى وصولها إلى الطرح العام الأولي، طوال هذه الرحلة، تتفاعل مجموعة من الجهات والخدمات لتشكّل ما يُعرف بالنظام البيئي للشركات الناشئة. وفيما يلي نظرة تحليلية لأهم مراحل التمويل الرئيسة، والأدوار التي يؤديها اللاعبون المختلفون، والخدمات الداعمة التي تُعزّز فرص النجاح.

فيما يتعلق بالمراحل التمويلية، تبدأ الشركة الناشئة عادةً من مرحلة أولية تُختبر فيها جدوى الفكرة، بتمويل شخصي (Bootstrapping) أو من العائلة والأصدقاء، وقد تستفيد من منح محدودة، تُعرف هذه المرحلة بالـ«Pre-Seed»؛ وهي التي تهيمن عليها الأسئلة الكبرى حول صلاحية الفكرة وإمكانية تنفيذها، بعدها تأتي مرحلة البذرة «Seed»، حينما ينتقل المشروع من الفكرة النظرية إلى النموذج الأوّلي (MVP)، وفيها يدخل المستثمرون الملائكيون (Angel Investors) أو صناديق رأس المال البذري الصغيرة لتوفير التمويل والإرشاد. حينما تبدأ الشركة في تحقيق إيرادات وتحظى بفرص نمو، تدخل مرحلة النمو المبكر «Early Stage – Series A»، التي تتطلب دعمًا أوسع من صناديق رأس المال الجريء (Venture Capital) واتفاقيات الاستثمار المشترك مع جهات حكومية أو شركات خاصة، وفي مرحلة التوسع «Growth Stage – Series B, C,…»، تكون الشركة قد برهنت على جدوى نموذج عملها وتسعى للتوسّع إقليميًا أو عالميًا، ما يستلزم تمويلًا أكبر من مستثمرين مؤسسيين (Institutional Investors) وربما شركات الاستثمار الخاص (Private Equity – PE) التي تميل لدخول المشهد في المراحل المتقدمة، أما الخروج النهائي فيأتي عبر الطرح العام أو الاستحواذ، حيث يُمكن للمستثمرين المبكرين تحقيق العوائد وإتاحة المجال للشركة كي تتخذ شكلًا أكثر نضجًا إما في سوق المال أو تحت مظلة شركة أكبر.

تحتاج هذه المراحل كلها إلى شبكة معقّدة من الأطراف التي تضمن توافر التمويل والخبرة اللازمتين. يأتي في المقدمة رواد الأعمال ، فهم العقل المحرّك وصانعو الرؤية الاستراتيجية للمشروع. يليهم المستثمرون الملائكيون، وهم في الغالب أفراد لديهم خبرة صناعية أو تجارية، يرصدون مبالغ محدودة جدًا في المراحل الأولى مع توجيه وإرشاد شخصي للمؤسسين، أما صناديق رأس المال الجريء فتُمثّل جهات استثمارية تجمع أموالًا من مستثمرين يُعرفون باسم الشركاء المحدودين، سواء كانوا مؤسسات مالية كصناديق التقاعد أو أفرادًا من ذوي الملاءة العالية. يعهد هؤلاء الشركاء المحدودينبإدارة أموالهم إلى الشريك العام في الصندوق، والذي يستثمر في شركات ناشئة واعدة مقابل حصص ملكية. يُسهم رأس المال الجريء في تمويل عمليات النمو والتطوير، كما يضيف قيمة عبر الإرشاد الاستراتيجي والعلاقات الواسعة في السوق. وفي المراحل المتقدمة نسبيًا، تلعب شركات الاستثمار الخاص  دورًا موازيًا، إذ تركز غالبًا على الشركات ذات حجم أكبر ونموذج أعمال أكثر استقرارًا، فتضخ سيولة مهمّة لتسريع توسّع الشركة أو لإعادة هيكلة ملكيّتها قبل الطرح العام أو الاستحواذ.

لا يتوقف المشهد عند هذا الحد، إذ إن حاضنات الأعمال تسهم في تعزيز الأفكار التي ما تزال في أطوارها الأولى من خلال مساحات عمل مشتركة وإرشاد إداري. وتأتي مسرّعات الأعمال  لتلعب دورًا موازيًا لكن أكثر كثافة، حيث تقدّم برامج تدريب وتمويلًا محدودًا لفترة قصيرة، وتنتهي عادة بعرض المشاريع على مستثمرين متخصّصين، وبموازاة ذلك، هناك الشركات الكبرى  التي قد تبرم شراكات استراتيجية أو استثمارية مع الناشئة، وبعضها يُقدم على الاستحواذ كجزء من خططه التوسعية، أما الجهات الحكومية، فتظهر عبر الوزارات والهيئات ذات العلاقة بإصدار القوانين والحوافز التنظيمية والضريبية، كما تقدّم قروضًا ميسّرة أو برامج دعم موجهة. وتتضافر مع هذه الجهات مؤسسات أكاديمية وبحثية تسهم في تمويل البحوث والتطوير وتعزيز الابتكار العلمي، إلى جانب مكاتب الخدمات المهنية (المحاماة والمحاسبة والاستشارات) التي تضمن التزام الشركات بالقواعد القانونية والمالية، وتضعها على سكة حوكمة سليمة منذ البداية.

وتقدّم الخدمات الداعمة للمراحل المختلفة استكمالًا ضروريًا لجهود هؤلاء الفاعلين، فوجود خدمات قانونية ومحاسبية متخصّصة يحدّ من التعقيدات الإدارية على المؤسسين، ويمنح الثقة للمستثمرين عند دراسة أي فرصة استثمارية. وتساعد برامج التدريب والاستشارات الإدارية في تمكين فرق العمل من مهارات القيادة والتسويق وإدارة الموارد. يضاف إلى ذلك البنية التحتية التقنية التي تشكّل قاعدة أساسية في إنجاح مشاريع التكنولوجيا والابتكار. ولا يمكن إغفال دور فعاليات التشبيك والمؤتمرات التي تُسهل التقاء المؤسسين بالخبراء والمستثمرين، ومع إضافة الحوافز والبرامج الحكومية، وبرامج بناء القدرات — كالورش والمعسكرات التدريبية — تتكامل الأدوار وتتراكم العناصر المساعدة لبناء نظام بيئي جاذب يتسع لجميع المراحل من الفكرة وحتى الإدراج في الأسواق المالية.

على ضوء ما تقدّم، يتضح أن تنمية منظومة الابتكار لا تقتصر على توفير أموال استثمارية فحسب، بل تتطلّب إدارة متناسقة لكافة حلقات سلسلة القيمة؛ بدايةً من روّاد الأعمال أصحاب الشغف، مرورًا بالمستثمرين — الملائكيين أو صناديق رأس المال الجريء و شركات الاستثمار الخاص —وانتهاءً بالخدمات الداعمة التي تشمل التشريعات الحكومية وبناء القدرات الأكاديمية والفنية، وحين تعمل هذه الأطراف بانسجام، تصبح رحلة الشركات الناشئة مهيأة لأن تتوّج بالنجاح في الأسواق المحلية والإقليمية، ثم لاحقًا بالوصول إلى أسواق المال أو الاندماج تحت مظلّة شركات عالمية كبرى، لتنعكس تلك الإنجازات على عموم الاقتصاد في صورة فرص عمل جديدة وتنافسية أعلى.

رأس المال الجريء مقابل المنح الحكومية: أيهما يبني منظومة ريادية صحية؟

تتجلى أهمية رأس المال الجريء في بناء منظومة صحية للشركات الناشئة، خصوصًا عند مقارنته بأساليب الدعم التقليدية مثل المنح الحكومية، ففي حين يميل البعض إلى اعتبار أي تمويل حكومي للشركات الناشئة شكلًا من أشكال الاستثمار، إلا أن الاستثمار المبني على معايير السوق يختلف جذريًا عن ضخِّ الأموال كدعم أو إعانات مباشرة.

ما هو رأس المال الجريء؟

رأس المال الجريء هو استثمار ينطوي على مخاطرة عالية، حيث يدخل الصندوق الجريء شريكًا في الشركة الناشئة ويتقاسم معها كلًا من الخطر والمكافأة. هذا النموذج يوفّر حوافز قوية لكلٍّ من المستثمر ورائد الأعمال لتحقيق النجاح المنشود. إذ يحرص المستثمر الجريء على تمويل المشاريع الواعدة التي تظهر فيها مؤشرات نمو وربحية مستقبلية، مقدّمًا – إلى جانب المال – الإرشاد والخبرة والشبكات التي تساعد الشركة على التطور السريع، ومن ناحيته، يدرك رائد الأعمال أنه مطالبٌ بتحقيق نتائج ملموسة ومعدلات نمو مرتفعة للاحتفاظ بتمويل الصندوق، مما يُحفّزه باستمرار على رفع الكفاءة والابتكار.

في المقابل، وعلى الرغم من أنّ المنح الحكومية المباشرة قد تفيد في تمويل المراحل الأولى جدًا من المشروع أو في تشجيع أفكار جديدة، فإن الاعتماد عليها بوصفها المصدر الرئيسي للتمويل قد يولّد اعتمادية غير صحية لدى بعض الشركات الناشئة. فالتمويل المجاني أو شبه المجاني قد يُضعف الدافع نحو النمو المستدام وضبط النفقات. كذلك، تفتقر الجهات الحكومية – مهما حَسنت نواياها – إلى الخبرة الاستثمارية المتخصصة لدى صناديق رأس المال الجريء، لاسيما في ما يتعلق بتقييم المخاطر السوقية وفرص النجاح.

من هنا، يحتاج صندوق دعم الشركات الناشئة الليبي إلى تحقيق توازن بين تقديم المنح أو الجوائز لتحفيز ثقافة ريادة الأعمال من جهة، وتبنّي منهجية الاستثمار الجريء للمشاريع القابلة للنمو من جهة أخرى، فالتمويل المبني على معايير تجارية – كدراسات الجدوى، وخطط العمل المحكَمة، وفُرص السوق – يرسّخ ثقافة المسؤولية والجدارة في المنظومة الريادية. وبهذه الطريقة، يصبح التمويل الحكومي رافعة لجذب مزيد من الاستثمارات الخاصة عوضًا عن أن يحل محلّها؛ فتنمو الشركات الناشئة بالوتيرة المطلوبة، وتتكاتف جهود الحكومة والقطاع الخاص لبناء منظومة ابتكارية أكثر استدامة.

تنويع أدوات التمويل لضمان الاستدامة

من الضروري لضمان تدفّقٍ مستمرٍّ للتمويل في منظومة الشركات الناشئة، ألّا تقتصر الجهود على أداةٍ واحدة بعينها. وفي هذا الإطار، تتّجه العديد من الحكومات إلى دعم صناديق رأس المال الجريء عبر القيام بدور “المستثمر الرئيسي” في هذه الصناديق، عوضًا عن الاستثمار المباشر في الشركات، إنّ التزام الدولة برأس مال أوّلي يمنح ثقة للمستثمرين الآخرين ويحفّزهم على المشاركة، في حين تتجنّب الجهات الرسمية تحمّل عبء الإدارة اليومية لاستثمارات قد تتطلّب خبرات متخصّصة.

على سبيل المثال، تعتمد مؤسسات مثل الشركة السعودية للاستثمار الجريء أو بنك الأعمال البريطاني عبر برنامج صناديق رأس المال المؤسسي آلياتٍ تحفيزية تستقطب مستثمرين آخرين—سواء أفرادًا أو صناديق—للدخول في الشراكة الاستثمارية، وتسمح هذه الآليات لمديري الصندوق بإعادة تخصيص نسبةٍ قد تصل إلى 50% من عائدات الحكومة لصالح بقية المستثمرين، ليصبح بوسعهم تحقيق ربحية أعلى، الأمر الذي يشجّع تدفّق رؤوس أموال إضافية. بموجب هذا النهج، تقبل الجهة الحكومية بعائدٍ أقلّ على استثمارها مقابل رفع ربحية المستثمر الخاص، ما يدعم توسّع دور القطاع الخاص في تمويل الشركات الناشئة.

من منظور مؤسسي، يُوصَى بألّا يتجاوز حجم الاستثمار الرئيسي من قبل الدولة نسبة 25% من إجمالي حجم الصندوق. الغاية هنا ليست التنصّل من مبدأ المحاسبة، وإنما تفادي إدخال صناديق الاستثمار الجريء في تعقيدات بيروقراطية قد تنشأ من تدخل هيئات رقابية حكومية في القرارات اليومية للصندوق، يحفظ هذا التوجّه حقّ الرقابة الاستراتيجية مع ترك الإدارة التشغيلية للشريك العام وفق المعايير والممارسات الدولية؛ فلا يضطر مديرا الصندوق للخضوع لإجراءات طويلة تثبط من سرعة القرارات الاستثمارية ومرونتها.

ولا تقتصر هذه البرامج على المديرين المخضرمين فحسب؛ فقد ظهرت ما يُعرف بــ“برامج تسريع صناديق رأس المال الجريء” التي تهيّئ مديري صناديق صاعدين وتزوّدهم بالدعم والتوجيه اللازمين لإطلاق صناديقٍ جديدة، وبذلك، يتسع نطاق التمويل المحلي المتوفر أمام الشركات الناشئة، وترتقي قدرات منظومة الاستثمار الجريء على المدى البعيد.

بالتوازي مع ذلك، تعمل جهاتٌ عدة على تعزيز ثقافة الاستثمار الملائكي بوصفه جزءًا لا يتجزأ من استراتيجيات التنويع المالي، على سبيل المثال، أطلقت الشركة السعودية للاستثمار الجريء برنامج “الاستثمار المشترك مع المستثمرين الملائكة” لترسيخ الاستثمار الملائكي في السوق المحلية. يمثّل هذا البرنامج مدخلًا مهمًا قبل بروز صناديق رأس المال الجريء الكبيرة؛ حيث يتيح بناء قاعدة متنامية من الاستثمارات المبكرة (عبر الأفراد الملائكيين) يمكن لها أن تتطور لاحقًا وتتلقّى تمويلًا أضخم من صناديق رأسمالية أكبر.

أخيرًا، لا بدّ من الإشارة إلى أن أدوات التمويل الأخرى—مثل المنح الحكومية والقروض الميسرة والحوافز الضريبية وبرامج الحاضنات والمسرّعات—تلعب أدوارًا مكمّلة في سد احتياجات الشركات الناشئة بمختلف مراحلها. ويمثّل الجمع بين هذه الآليات وتمكين القطاع الخاص في صناديق رأس المال الجريء إستراتيجيةً فعّالة لتجنّب الاعتماد على مصدر واحد للتمويل، فضلًا عن تعزيز استمرارية عمل “صندوق دعم الشركات الناشئة” وما يرتبط به من أنشطة. بذلك، تتشكل بيئة حاضنة مرنة ومتعددة الروافد تتيح للشركات الناشئة الحصول على الدعم المالي والمؤسسي الملائم في كل خطوةٍ من مسيرة نموّها.

تحديث الأطر التشريعية وتسهيل تأسيس الشركات

لا شكّ أن البيئة التشريعية والإجرائية في ليبيا بحاجة ماسّة إلى تفعيل حقيقي لمواد القانون القائم، لا سيّما قانون رقم (23) لسنة 2010، بما يواكب تطلّعات بناء اقتصاد رقمي وريادي. تشير المؤشرات الدولية بوضوح إلى حجم التحدي: فقد جاءت ليبيا ضمن ذيل الترتيب العالمي من حيث سهولة ممارسة أنشطة الأعمال، وفق تقرير البنك الدولي لعام 2020، ما يعكس وجود حواجز بيروقراطية معقدة تعرقل روّاد الأعمال حتى قبل أن يبدأوا، ولئن كان إصدار قوانين جديدة خيارًا مطروحًا في أحيان معينة، فإن التركيز الفعلي ينبغي أن ينصب على تنشيط وتطبيق ما هو قائم بالفعل من أحكام وإجراءات، وتبسيطها قدر المستطاع لتحقيق الأهداف المنشودة.

ضمن هذا الإطار، يُفترض أن يتم تفعيل الخدمات التي أتاحها القانون (23) لسنة 2010، مع إجراء تنقيحاتٍ محدّدة تزيل الغموض أو عدم التطبيق في بعض مواده، ويتعيّن، كذلك، مواءمة هذه الأطر مع متطلبات العصر الرقمي، كي يصبح تأسيس الشركات الناشئة وتسجيلها في أيام (لا أشهر) عبر منظومة إلكترونية. على سبيل المثال، أظهرت إستونيا – بريادتها في البيروقراطية الرقمية – أنّ إنشاء شركة عن بُعد وخلال دقائق أمرٌ ممكن إذا توافرت الإرادة التنظيمية. وبالمثل، يجدر تبسيط إجراءات إغلاق الشركات أو الإفلاس، بما يمنح رائد الأعمال الفاشل فرصةً سريعة للعودة بأفكار جديدة دون تحمّل وصمة طويلة الأمد تعوقه عن الانخراط في السوق.

ولئن كان “قانونٌ خاصٌ بالشركات الناشئة” يظلّ نهجًا معتمدًا في دول عديدة، فإن الواقع الليبي يشير إلى ضرورة تفعيل ما هو متاح أساسًا، وإصدار اللوائح التنفيذية والقرارات المكمّلة لتطبيقه، بحيث يكتسب روّاد الأعمال الحوافز والامتيازات التي يحتاجونها. وهذا يشمل تبسيط اشتراطات التسجيل والترخيص (مثل تخفيض متطلبات رأس المال الأدنى) وحماية حقوق المستثمرين، يمكن، في الوقت ذاته، استحداث “نافذة حكومية واحدة” تتولى تلقّي جميع الطلبات والتصاريح بالتنسيق مع مختلف الجهات المعنية—من دون الحاجة لاستصدار قانون جديد بالكامل، ما دام قانون (23) يسمح بمثل هذه الترتيبات من خلال القرارات الوزارية المناسبة.

من جهة أخرى، لا تزال القوانين التجارية واللوائح التنظيمية في حاجة إلى مراجعة دورية تحذف قيودًا لم تعد تتوافق مع خصائص الاقتصاد الرقمي (مثل إلزام وجود مقر فعلي ثابت أو نصوص بالية تنتمي إلى حقبة ما قبل الإنترنت). والأمر ذاته ينطبق على قوانين الإفلاس وقوانين العمل؛ إذ ينبغي تحديثها لتواكب أساليب التوظيف المرنة وتمنح المبتكرين قدرًا مناسبًا من حرية الحركة. وبالتوازي، يستوجب الابتكار التقني تعزيز حماية الملكية الفكرية وتسهيل تسجيل البراءات، حتى يشعر أصحاب الأفكار بالأمان عند طرح حلولهم في السوق.

إضافةً إلى ذلك، تفرض التطورات الأخيرة في قوانين القطاع المصرفي ضرورة توضيح أدوار ومسؤوليات مصرف ليبيا المركزي وهيئة سوق المال، ولا سيّما فيما يتعلق بتنظيم إنشاء صناديق استثمارية وتسهيل إجراءات تأسيسها. فقد أدخل تحديث قانون المصارف (الصادر في 2012) بعض اللبس في الصلاحيات، مما دفع إلى تشكيل لجنة مشتركة بين المصرف المركزي وهيئة سوق المال. بيد أن هذه اللجنة لم تنعقد منذ سنوات، ما أدّى إلى تأخير وإرباك في آليات اعتماد صناديق الاستثمار، يتعين إذًا تحريك هذا المسار المؤسسي وتفعيل اللجنة المشتركة للحدّ من أي احتكاك بيروقراطي يُعيق تأسيس صناديق جديدة أو يعقّد إجراءاتها، علماً بأن تسريع آليات الترخيص وإصدار الموافقات – وفقًا للمسارات القانونية القائمة – هو خطوة جوهرية في تحسين مناخ الاستثمار.

وبوجه عام، فإن تهيئة مناخ قانوني وإجرائي لا يثقل كاهل رواد الأعمال يُعد شرطًا ضروريًا لنجاح “صندوق دعم الشركات الناشئة”، فمهما توافرت السيولة والأموال، إن بقيت الإجراءات متشابكة أو ظلت الصلاحيات موزعة بشكل غير فعّال بين مختلف الهيئات، فسوف يفقد روّاد الأعمال حافزهم على تأسيس شركاتهم محليًا. وعليه، لا بد من تفعيل النصوص النافذة في القوانين القائمة—وليس فقط التنادي بقوانين جديدة—عبر إصدار لوائح تنفيذية واضحة، وتنسيق أعمق بين الجهات التنظيمية، وتعزيز الشفافية والسرعة في مسار التأسيس والترخيص، فقط بهذه المقاربة الشاملة، يُمكن بناء بيئة قانونية وجاذبة تدفع عجلة الاقتصاد الرقمي وتمكّن ليبيا من مواكبة متطلبات ريادة الأعمال في القرن الحالي.

ربط الجامعات بالمنظومة الريادية وتطوير رأس المال البشري

لا يمكن لأي منظومة شركات ناشئة أن تزدهر ما لم يتوفر لديها رأس مال بشري مؤهل وشغوف بالابتكار. وهنا يبرز دور الجامعات والمؤسسات التعليمية باعتبارها المصدر الأساس للأفكار الريادية والمهارات الفنية والإدارية، وقد برز هذا المعنى بوضوح عندما أشار رئيس الوزراء إلى وجود ممثلين عن 26 جامعة وحاضنة أعمال خلال إطلاق إحدى المبادرات المعنية بريادة الأعمال، مما يُشكّل خطوة مشجعة ينبغي البناء عليها.

في الواقع، تستطيع الجامعات أن تصبح حاضنات طبيعية لثقافة ريادة الأعمال إذا ما تم ربطها فعليًا بالمنظومة الاقتصادية الأوسع، يمكن تحقيق ذلك عبر إدماج مناهج متخصصة في ريادة الأعمال — بل وحتى في التعليم الثانوي — بهدف تدريس الطلاب أساسيات إنشاء المشاريع وإدارة الأعمال والابتكار التقني ضمن مقرراتهم. إلى جانب ذلك، تُعد فكرة إنشاء حاضناتٍ ومراكزٍ للابتكار داخل الجامعات أمرًا بالغ الأهمية، إذ تتيح للطلبة والخريجين أصحاب الأفكار الطموحة الحصول على إرشاد ودعم مالي أو تمويلي أولي (سواءً من خلال منح بحثية أو مسابقات تمويلية)، فضلًا عن مساحات عمل مشتركة يشرف عليها أساتذة وأصحاب خبراتٍ مهنية.

ومن الجوانب التي تستحق الاهتمام أيضًا دعم ثقافة البحث والتطوير، بالتوازي مع ربط الأبحاث الأكاديمية بتطبيقات عملية في السوق، وهنا يمكن تحفيز الأساتذة والباحثين على تحويل نتائج أبحاثهم إلى منتجاتٍ أو شركاتٍ ناشئة، من خلال سياساتٍ واضحة للملكية الفكرية بين الجامعات والمبتكرين، بالإضافة إلى تمويل مشاريع بحثية تطبيقية بالشراكة مع القطاع الصناعي. وفي الإطار ذاته، تبرز ضرورة الانخراط الفعّال للقطاع الخاص والجهات الحكومية في تدريب الشباب وتأهيلهم لسوق العمل، عبر توفير فرص للتدريب الداخلي في المجالات التقنية والأعمال، وتقديم برامج توجيه وإرشاد، ويمكن لمساهمة روّاد الأعمال الناجحين والمهنيين من الشتات الليبي في تقديم الدورات التدريبية والورش أن تعزز من كفاءة الكوادر المحلية وتجعلها أكثر استعدادًا للتعامل مع تحديات السوق الحقيقية.

إلى جانب دور الجامعات، ينبغي الاستثمار في تطوير مهارات عموم الشباب. فالمهارات الفنية والتقنية — مثل البرمجة والتسويق الرقمي وتصميم المنتجات وإدارة المشاريع — باتت محور الاقتصاد الحديث، في حين قد لا تكون منتشرة بدرجة كافية في القوى العاملة الحالية، لذا، فإن إطلاق برامج تدريبية قصيرة الأجل ومعسكرات مكثفة يربط مخرجاتها بحاجات السوق الناشئة سيساهم في سد فجوة المهارات ويمكّن الشرائح الشابة من استثمار الفرص التي يوفرها قطاع ريادة الأعمال.

إن التعليم والتدريب يمثّلان الوقود الذي يُشغّل ماكينة الابتكار. وفي غياب كفاءات بشرية مدرَّبة وقادرة على اغتنام الفرص، لن يكون لأي تمويل أو حوافز مالية أثرٌ بعيد المدى، من هنا، يصبح بناء رأس مال بشري متين أحد المحاور الأساسية في أي استراتيجية وطنية هادفة إلى دعم الشركات الناشئة وتحفيز نموها.

تحسين البنية التحتية الرقمية والمناطق التقنية

لا يمكن تصوّر نجاح أي مشروع تقني أو منصة إلكترونية في ظل بيئة تفتقر إلى الإنترنت السريع أو أنظمة الدفع الإلكتروني؛ لذا، يتعين على ليبيا منح أولوية موازية لتطوير البنية التحتية الرقمية، توازي تلك الممنوحة لإنشاء صندوق دعم الشركات الناشئة، ويشمل ذلك بالضرورة تحسين جودة الاتصالات وتوسيعها، عبر الاستثمار في شبكات الألياف الضوئية وتعزيز تغطية الهاتف المحمول (الجيل الرابع فما فوق)، بما يفتح المجال لظهور تطبيقات رقمية وخدمات حوسبة سحابية ذات مستوى عالمي. فلا ريب أن ضمان تنافسية قطاع الاتصالات، سواء في الأسعار أو جودة الخدمة، يضفي مزيدًا من المرونة على السوق ويشجّع روّاد الأعمال على ابتكار حلول تقنية جديدة.

إلى جانب البنية المادية، يتعيّن على الجهات التنظيمية كمصرف ليبيا المركزي العمل مع المؤسسات ذات الصلة على توفير بيئة تشريعية متقدمة للتكنولوجيا المالية وأنظمة الدفع الإلكتروني، ويمثّل إنشاء “الحاضنات التنظيمية” (Regulatory Sandboxes) أحد النماذج الفعالة في هذا الصدد، إذ يتيح للشركات الناشئة اختبار حلول مالية مبتكرة دون الخضوع الفوري لسلسلةٍ معقدة من التراخيص والضوابط. وقد أثبتت تجارب سنغافورة وهونغ كونغ والمملكة المتحدة أن هذه المرونة التنظيمية تفتح أبواب الابتكار أمام منصات الدفع الإلكتروني والبنوك الرقمية وسائر الخدمات المالية المعاصرة، وفي المقابل، يستلزم دمج تطوير نظم الدفع الإلكتروني والبنية الرقمية، إطلاق أنظمة دفع وطنية متطورة وآمنة، وتحفيز المصارف على توفير بوابات دفع للشركات الناشئة ودعم انتشار المحافظ الإلكترونية والدفع عبر الهواتف الذكية، ولا شكّ أن ربط هذه الإصلاحات بالدور المرجوّ من صندوق دعم الشركات الناشئة يضفي زخماً إضافيًا على قطاع التكنولوجيا المالية، عبر توفير التمويل والإرشاد للشركات التي تعمل على بناء وتطوير هذه الخدمات.

وإلى جانب هذا الدور التنظيمي، ينبغي للحكومة أن تتحول إلى قدوة في تبني التقنية، من خلال رقمنة خدماتها الحكومية كالسجل التجاري والتصاريح الضريبية والدفع الإلكتروني. فهذا التوجه لا يختصر الوقت والجهد على رواد الأعمال فحسب، بل يخلق سوقًا أولية لخدمات تقنية محلية، وقد ثبت في تجارب دولية – كإستونيا التي أطلقت أكثر من 99% من خدماتها عبر الإنترنت – أن إطلاق حكومة إلكترونية فاعلة يعزز الكفاءة والشفافية، ويمهّد الطريق أمام القطاع الخاص لبناء تطبيقاتٍ متخصصة مُضافة.

فضلًا عن ذلك، يمكن للحكومة بالتعاون مع القطاع الخاص إنشاء “مدن تقنية” أو “مناطق ابتكار” تحتوي على أحدث الخدمات الرقمية والمرافق اللوجستية تحت سقفٍ واحد، على نحو ما جرى في مدينة الابتكار بكيغالي (رواندا). وبوسع مثل هذه المناطق – ولو انطلقت بحجم محدود – أن تضم مساحات عمل مشتركة وإنترنت عالي السرعة ومختبرات لتطوير النموذج الأوّلي ، بالإضافة إلى إعانات إيجار في مراحل التأسيس للشركات الناشئة، وإلى جانب ذلك، قد توفر مرافق إنتاج مثل معامل التصنيع الرقمي وطابعات ثلاثية الأبعاد والمعدات الإلكترونية، مما يشجع على تبادل المعرفة ويحفز التعاون التنافسي والابتكار الجماعي.

إن تحديث البنية التحتية الرقمية بهذه الصورة لن يُسهّل مهام الشركات الناشئة وحدها، بل سيُعظّم أيضًا فوائد التحول الرقمي على مستوى الاقتصاد بأسره، فكلما توافرت شبكة إنترنت قوية وخدمات دفع إلكترونية موثوقة وخدمات حكومية مميكنة، تعزّزت جاذبية بيئة الأعمال الليبية أمام المستثمرين والشركات الإقليمية، وارتفعت مكانتها على خريطة الاستثمار في المنطقة.

بناء بيئة تنافسية ومشجعة للريادة

لا تكتفي ريادة الأعمال بالتمويل أو البنية التحتية وحدهما، بل تستلزم أيضًا مناخًا ثقافيًا وقانونيًا يحفّز التجربة والإبداع، ويحمي المنافسة العادلة، فحين تكون السوق مفتوحة للأفكار الجديدة، ويتمكن المبادرون من التقدم دون معوقاتٍ مجحفة، يصبح الابتكار قاعدةً أساسية للنمو. ولبلوغ هذه الغاية، يمكن التركيز على مجموعة من المبادئ الجوهرية.

أولها هو حماية الملكية الفكرية. فمن الطبيعي ألا يغامر المبتكر في تطوير اختراعاته ما لم يكن واثقًا بأن قانونه الوطني يحمي حقوقه ويلاحق التعديات قانونيًا وبسرعة. إن تعزيز أطر تسجيل البراءات والعلامات التجارية، والتعامل بحزم مع أي انتهاك، سيعزز ثقة أصحاب الأفكار في أن إبداعاتهم مصونة ومقدرة، فيدفعهم إلى مزيد من التطوير والبحث.

ثانيها يكمن في ثقافة تقبّل الفشل. إذ ما زالت النظرة السائدة في مجتمعاتنا، كما في كثير من دول العالم، تضع الفشل التجاري في خانة الوصم الاجتماعي. يجب أن يتغير هذا المنظور ليُعدّ الإخفاق مجرد خطوة على طريق التعلم. إذ إن كثيرًا من رواد الأعمال العالميين الناجحين مروا بسلسلة من الإخفاقات قبل تحقيق نجاحاتهم، ويمكن للحكومة والمؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام أن تلعب دورًا مهمًا في تسليط الضوء على قصص نجاح – تتحدث أيضًا عن الفشل الذي سبقها – وذلك جنبًا إلى جنب مع تحديث قوانين الإفلاس لتسمح بالخروج السلس من أي مشروع متعثر دون تبعات معيقة على المدى الطويل.

على صعيد الأسواق، تستلزم محاربة الاحتكار وفتح المجال أمام الوافدين الجدد تحرير القطاعات المختلفة من هيمنة الشركات المهيمنة أو الكيانات ذات النفوذ. فالاحتكار لا يثبط رواد الأعمال فحسب، بل يعيق الابتكار والتطور. لذا، فإن سياساتٍ حكومية واضحة تقضي بمنع الاحتكار والسماح بدخول اللاعبين الجدد إلى الأسواق—وربما إعادة النظر في الامتيازات الحصرية—تشجّع رواد الأعمال على دخول هذه القطاعات بثقة أكبر.

ولا يغيب عنا أن مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية هما حجر الزاوية لأي بيئة أعمال صحية. فحين يضطر رائد الأعمال لدفع رشوة أو يواجه منافسين يستفيدون من علاقاتهم بدوائر السلطة، فلن تصمد روح المبادرة طويلًا. عليه، من الضروري تطبيق قوانين مكافحة الفساد بصرامة، وتبنّي حوكمة شفافة في العقود العامة والمشتريات، بما يكفل فرصًا متكافئة للشركات الناشئة والمؤهلة، ويسهم تبسيط الإجراءات وتقليص البيروقراطية في الحد من احتماليات الفساد تلقائيًا، إذ يقلل من الاحتكاكات المباشرة التي قد يستغلها بعض ضعاف النفوس.

ومن شأن توفير هذه البيئة التنافسية العادلة، وخلق ثقافة تسمح بالتجربة – بما في ذلك حق الفشل – أن يطلق العنان للإبداع. فعندما يدرك الشاب الليبي أن فكرته الجديدة ستعامل بإنصاف وأن نجاحه يتحقق عبر العمل الجاد والإبداع، وعندما يطمئن إلى أن النظام القانوني يحمي ملكيته الفكرية ويمنحه فرصة أخرى إن تعثر في البداية، سيتشجع على خوض مغامرة ريادة الأعمال. إن هذه العوامل غير الملموسة من ثقافة وقيم ومؤسسات هي ما يصنع الفرق بين بيئةٍ ترعى الأفكار وتفتح لها الآفاق، وأخرى تخنقها وتسد عليها الطرق.

تأهيل الكوادر المحلية في مجال الاستثمار الجريء

على الرغم من وفرة التمويل والخطوات التشريعية الملائمة، يبقى السؤال الأساسي مطروحًا: من سيتولى إدارة هذه المنظومة؟ إذ إن إنجاح أي منظومة ريادية يستلزم وجود أفراد قادرين على استيعاب تفاصيل الاستثمار في الشركات الناشئة، وتقييم الأفكار واحتضانها ودفعها نحو آفاق أرحب. وفي ليبيا اليوم، حيث يُعد رأس المال الجريء مجالًا جديدًا نسبيًا، تتجلى الحاجة الملحّة لبناء كوادر محلية متمكنة في إدارة الصناديق وتشغيل الحاضنات والمسرّعات.

لتحقيق ذلك، باستطاعة الجهات الرسمية والشركاء إطلاق برامج متخصصة في التدريب والدعم، فمن جهة، تأهيل مديري الصناديق الجريئة يمكن أن يجري عبر دوراتٍ وورش عمل تُعقد بالشراكة مع صناديق إقليمية أو خبراء دوليين لهم باعٌ في هذا الميدان، حيث يتعلم المشاركون أسس تقييم الشركات الناشئة، وآليات هيكلة الصفقات الاستثمارية، وإدارة المحافظ، وصولًا إلى عملية التخارج. كما يمكن إرسال مجموعات من المهنيين الليبيين للتدرب ميدانيًا لدى صناديق استثمار جريء ناجحة في الخارج، لاكتساب خبرة عملية مباشرة، وعلى صعيد موازٍ، يقتضي بناء قدرات مشغلي الحاضنات والمسرّعات فهمًا عميقًا لاحتياجات رواد الأعمال (سواء في الجانب التدريبي أو تطوير النماذج التجارية أو إيجاد المستثمرين)، وهو ما يمكن دعمه عبر برامج إرشاد تشرف عليها شبكات حاضنات إقليمية ودولية. وقد يشمل الأمر دعوة مديرين من مسرعات معروفة لقضاء فترة في ليبيا لتدريب الفرق المحلية، أو ابتعاث فرق ليبية للاطلاع على تجارب مسرعات أعمال خارجية.

من ناحية أخرى، يصعب تصور نموذج مكتمل لرأس المال الجريء دون وجود مجتمعٍ نشطٍ من المستثمرين الأفراد، الذين يمولون المراحل المبكرة جدًا من عمر المشروع. يمكن بناء هذا المجتمع بتنظيم ملتقيات تعريفية وورش عمل تجمع أصحاب الثروات برواد الأعمال، وتعرّفهم بآليات الاستثمار الملائكي وكيفية اقتسام المخاطرة، فكلما زاد فهم المستثمرين المحليين لطبيعة الاستثمار الريادي، اتسعت قاعدة التمويل للمشاريع الواعدة منذ بداياتها.

وفي هذا السياق، تأتي أهمية استقطاب صناديق رأس مال جريء دولية لإنشاء صناديق مخصصة للسوق الليبية. ويمكن لصناديق الدولة السيادية أو صندوق الابتكار أن تشترط تخصيص نسبة لا تقل عن 20% من رأس المال المستثمر من قبل تلك الصناديق داخل السوق المحلي. بمعنى أنه مقابل كل دولار تستثمره الدولة في صندوق دولي، ستُضَخ 1.2 دولار في مشاريع ناشئة ليبية، ما يعزز القيمة الفعلية للأموال المستثمرة، ولا يقتصر الأمر على جلب رأس المال فحسب؛ بل تتفتح أبواب تبادل المعرفة، إذ إن الاحتكاك بخبراء الصناديق الدولية يسهم في صقل مهارات الكوادر المحلية وتطويرها في إدارة الاستثمارات والمشاريع الناشئة.

إضافةً إلى تلك البرامج، يمكن تحفيز عودة الكفاءات الليبية في المهجر ممن لديهم خبرات قيّمة في شركات تقنية أو صناديق عالمية، وتوفير حوافز تشجعهم على الإسهام في بناء قطاع الاستثمار الجريء المحلي، سواء كمديرين للصناديق الجديدة أو مستشارين متخصصين، فالمزج بين المعرفة العالمية وفهم السياق المحلي هو ما يهيئ بيئة مناسبة لنمو واستدامة “صناعة استثمار جريء” قوية في ليبيا.

ولعل في هذا دلالة واضحة على أن المال وحده لا يضمن النجاح؛ بل ينبغي وجود العقول القادرة على توظيفه بما يخدم مصالح الشركات الناشئة ويحقق العائد الاقتصادي المرجو. وعبر بناء قدرات محلية تتمتع بالكفاءة في مجال الاستثمار الجريء والإرشاد الريادي، نضمن أن تدار الصناديق والمبادرات – كصندوق دعم الشركات الناشئة – بمستوى عالٍ من الاحتراف والفهم العميق للسوق وريادة الأعمال، مما يمهد الطريق لبلوغ الأهداف المنشودة على الصعيدين التنموي والابتكاري.

دروس من تجارب دولية

رغم تفرّد كل بلد بظروفه، فإن تجارب بعض الدول قدّمت نماذج ملهمة لبناء منظومات ريادة أعمال مزدهرة، حتى في ظل تحديات جسيمة، فإستونيا، مثلًا، خرجت من عباءة الاتحاد السوفيتي في التسعينيات بموارد محدودة، لكنها راهنت مبكرًا على التحول الرقمي وإنشاء حكومة إلكترونية شاملة، لتصبح اليوم إحدى أكثر دول أوروبا تميزًا في التكنولوجيا الناشئة نسبةً إلى عدد السكان. وقد أدى توفير 99% من الخدمات الحكومية عبر الإنترنت إلى تمهيد الطريق لظهور شركات عالمية مثل Skype وBolt، ودفع وتيرة استقطاب المستثمرين الدوليين.

أما رواندا، ذلك البلد الأفريقي الذي عانى في التسعينيات من نزاعاتٍ مدمرة، فقد انطلق في مسيرة إصلاحية جعلته واحدة من أفضل بيئات الأعمال في أفريقيا، وبفضل تبسيط الإجراءات ومحاربة الفساد والاستثمار في التعليم والبنية التحتية، احتلت رواندا المرتبة 38 عالميًا في مؤشر سهولة ممارسة أنشطة الأعمال لعام 2020، لقد أثبتت مشاريع مبتكرة مثل استخدام الطائرات المُسيّرة (الدرونز) في توصيل الإمدادات الطبية أن التنمية والابتكار ليسا حكرًا على الدول الغنية إذا توافرت الإرادة الصادقة والقرارات السليمة.

وفي أمريكا اللاتينية، تفصح تجربة كولومبيا عن كيف يمكن للنمو الاقتصادي الشامل والبرامج الحكومية الداعمة أن يطلقا طاقات رواد الأعمال، فمدينة ميديلين، التي عُرفت يومًا بقلة الأمان، تحولت في السنوات الأخيرة إلى مركزٍ مزدهر للابتكار والتقنية، حاضنةً للشركات الناشئة ومراكز التكنولوجيا. وتُظهر الإحصاءات الحديثة أن عدد الشركات الناشئة التقنية في كولومبيا ارتفع بنحو 30% عام 2023 ليبلغ 1,720 شركة، مما يعكس مدى فاعلية الإصلاحات والتوجهات الحكومية.

من جهةٍ أخرى، واجهت أوكرانيا ظروفًا بالغة الصعوبة جراء الحرب والنزاعات، لكنها برهنت على قدرتها على الصمود والاستمرار في التميّز في مجال التكنولوجيا، وتعد شركات مثل Grammarly وGitLab أمثلة حية على قوة المهارات الأوكرانية في صناعة البرمجيات. كما ارتفع تصنيف منظومة الشركات الناشئة الأوكرانية إلى المركز 46 عالميًا في 2024 رغم كل العوائق، مبينًا أن الاستثمار في العقول والبنى التقنية يمكن أن يزهر حتى في أوقات الأزمات، ما دام السوق العالمي متاحًا أمام تلك الأفكار.

إن تعدد هذه التجارب يثبت أن لا شيء مستحيل مع وجود رؤية استراتيجية وإرادة سياسية حقيقية لدعم القطاع الريادي. وما يجمعها عمومًا هو تبنّي نهجٍ شاملٍ للإصلاح، بدءًا بالبنية التحتية والتعليم، مرورًا بالتشريعات المحفزة، وصولًا إلى تكريس ثقافة تكافئ المبادرة والعمل الجاد. هذا بالضبط ما تحتاجه ليبيا وهي تشق طريقها نحو بناء منظومة واعدة للشركات الناشئة.

نحو استراتيجية وطنية شاملة للابتكار

في نهاية المطاف، يُعد إنشاء صندوق دعم الشركات الناشئة خطوة طموحة ومرحّبًا بها في سبيل تنويع الاقتصاد الليبي ودعم الابتكار، غير أن هذه الخطوة ستظلّ محدودة الأثر ما لم تُتبع بمنهجية متكاملة تعالج جميع أركان البيئة الريادية المذكورة، إن إعداد استراتيجية وطنية شاملة لريادة الأعمال والابتكار بات ضرورةً لا غنى عنها؛ وهي استراتيجية يجب أن تتولى الحكومة زمامها بقيادة تتسم بروح الشراكة مع القطاع الخاص والمجتمع المدني والجامعات، ويُفترض أن ترتكز هذه الخطة على عددٍ من الدعائم الرئيسة:

1. حوكمة رشيدة وشفافية في إدارة المبادرات والصناديق، لضمان التخصيص الكفؤ للموارد.

2. منظومة تمويل متنوعة تجمع بين الدعم الحكومي والاستثمار الخاص المبني على معايير السوق.

3. إصلاحات تشريعية تجعل تأسيس الشركات وتشغيلها عملية سهلة ومحفزة.

4. استثمار في العقول عبر التعليم والتدريب المتخصص لخلق جيل جديد من المبتكرين ورواد الأعمال.

5. بنية تحتية رقمية متطورة تربط ليبيا بالعصر الرقمي وتفتح أمامها آفاق الاقتصاد الجديد.

6. بيئة حاضنة للمنافسة تشجع المبادرة الفردية وتكافئها، وتحمي جهود المجتهدين.

7. قدرات مؤسسية راسخة قادرة على إدارة المنظومة بفعالية ومتابعة تطورها باستمرار.

لا شك أن الاستفادة من الدروس المستقاة من التجارب الدولية وتسخيرها بما يتلاءم مع الواقع المحلي سيساعد على تفادي الأخطاء الشائعة وتسريع وتيرة التعلم. فالاستثمار الحكومي في الابتكار لم يعد رفاهية بقدر ما هو مطلب أساسي لضمان تكوين اقتصادٍ حديثٍ ومتنوّعٍ يستجيب لتطلعات الشباب ويوفر لهم فرص العمل وتحديات الإبداع. ولكن تحقيق هذه الغاية يقتضي قدرًا من التخطيط العلمي وإدارة محكمة لمكونات المنظومة المختلفة، كي لا تضيع الفرص الثمينة التي تلوح في الأفق.

إن ليبيا تجد نفسها الآن أمام مفترق طرق حاسم؛ فإمّا أن تكون هذه الفترة نقطة انطلاق نحو النهضة الاقتصادية المرجوة، أو ضياعًا لفرصة أخرى وسط تحديات عدة، يبقى المسار النهائي مرهونًا بنوعية القرارات والإجراءات التي سيجري اتخاذها اليوم وخلال الأشهر المقبلة؛ ونأمل أن ترتقي هذه الخطوات إلى مستوى تطلعات الشباب الليبي وطموحاته لبناء مستقبل أكثر إشراقًا وازدهارًا.

يعتمد على القرارات والإجراءات التي سيتم اتخاذها الآن وفي الأشهر القليلة القادمة، نأمل أن تكون قرارات ترتقي لطموحات شباب ليبيا وتطلعاتهم.

مشاركة الخبر