كتب المستشار “مصطفى المانع”: ليبيا من اقتصاد الريع إلى رحابة الإنتاج “في أحدث تقرير للبنك الدولي”
في لحظة فارقة من تاريخها الاقتصادي، تقف ليبيا أمام مرآة الفرص والتحديات، تقرير البنك الدولي الصادر في 30 يونيو 2025 بعنوان “اعادة تحديد دور مؤسسات الدولة في ليبيا” ليس مجرد تشخيص لواقع مُعقّد، بل هو إعلانٌ صريح عن نضوج شروط التحول من اقتصادٍ ليبي ريعي منهك إلى اقتصاد إنتاجي واعد. هذا التحول، وإن بدت معالمه واضحة في بعض المؤشرات، يظل رهين إرادة جريئة وتوافق مؤسسي غير مسبوق.

وفي هذا المقال أوجز أهم مفاصل تقرير البنك الدولي للخبراء الوطنيين وصناع القرار والمهتمين، متقدماً بآيات الاحترام والتقدير للزميلات والزملاء الخبراء في قطاع الممارسات العالمية للسياسيات الاقتصادية في مجموعة البنك الدولي وبالأخص في وحدة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على جهودهم المميزة في اعداد هذا التقرير الهام وما صاحبه من جهود مميزة في الرصد والتجميع والتحليل والصياغة.
“تناقضات تُنبئ ببذور التغيير”
شهد العام المنصرم (2024) مفارقة لافتة، فبينما انكمش الاقتصاد الكلي بنسبة 0.6% تحت وطأة الأزمات، والتي أضرت بالبنية التحتية النفطية وخفضت الإنتاج 6%، برزت انجازات غير متوقعة، القطاعات غير النفطية نَمَتْ بمعدل 7.5%، ناقرةً جدار الاعتماد الأحادي على الريع النفطي، ومُثبتةً وجود طاقات كامنة تنتظر بيئة تمكين حقيقية. هذا التباين ليس حدثاً عابراً، بل هو إشارة دامغة على وجود ديناميكيات اقتصادية قادرة على قيادة تنويع حقيقي، لو أُزيلت العقبات من طريقها.
“بين رياح النفط المؤاتية وعواصف الهشاشة المؤسسية”
تلوح في الأفق مؤشرات إيجابية لعام 2025، متوقعةً انتعاشاً نفطياً قوياً (زيادة إنتاجية 17.4% للتتجاوز 1.3 مليون برميل يومياً) يقود نمواً في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 12.3%. كما يُتوقع استمرار زخم القطاع غير النفطي بنمو 5.7%، وإن كان متجهًا للتباطؤ التدريجي إلى حدود 4% في المدى المتوسط، غير أن هذه الصورة المتفائلة تخفي تحت سطحها تحدياتٍ هيكليةً عميقة تُهدد أي نموٍ بالزوال بسبب استمرار غياب التنويع الاقتصادي، وعبء الإنفاق العام، وضعف البنية المؤسسية التي تفتقر للشفافية والمساءلة. النفط يمنحُ فرصةً ذهبية، لكنه وحده لا يصنعُ اقتصاداً قادراً على الصمود.

“القطاع الخاص طاقة مُكبّلة في متاهة الريع”
يكشف التقرير عن مأزق مركزي يعوق التحول يتمثل في تقييد القطاع الخاص، هذا القطاع ليس غائباً، بل هو “محاصر” في بيئة طاردة للإبداع والمنافسة، فهو يواجه تشابكاً تنظيمياً يعيق حركته، ومنافسةً غير عادلة من قبل 190 مؤسسة وشركة مملوكة للدولة تستحوذ على ما يقارب 60% من الوظائف المدفوعة من المال العام.
هذه المؤسسات العامة، التي يعاني معظمها من تدني الأداء، تشكل حاجزاً أمام ولادة شركات خاصة ديناميكية قادرة على الابتكار وتوليد فرص العمل المستدامة التي يحتاجها الشعب الليبي.
“خارطة الطريق لإصلاح جذري لدور الدولة من السيطرة إلى التمكين”
يؤكد البنك الدولي أن جوهر التحول لا يكمن فقط في زيادة الإنتاج، بل في إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والاقتصاد، وهذا يتطلب وفق خبراء البنك الدولي:
1.إعادة تشكيل دور المؤسسات العامة، بانسحاب الدولة من القطاعات التنافسية، وتحول مؤسساتها إلى هيئات رقابية وتنظيمية فاعلة، مع خصخصة أو إصلاح جذري للمؤسسات الحكومية المتعثرة.
2.بناء حوكمة رشيدة، بتعزيز الشفافية في الإنفاق العام، وتطبيق آليات مستقلة وصارمة لتقييم أداء المؤسسات المملوكة للدولة ومحاسبتها.
3.تحرير إمكانيات القطاع الخاص، بتسهيل الوصول إلى التمويل (خاصة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة)، وتحديث التشريعات التجارية والاستثمارية، وتبسيط الإجراءات الضريبية والجمركية المعقدة، وضمان منافسة عادلة تزيل الامتيازات غير المبررة للمؤسسات العامة.
4.الاستثمار في الإنسان والبنى التحتية، بتركيز الجهود على تطوير التعليم والتدريب المهني وريادة الأعمال لبناء رأس مال بشري مؤهل، وتشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص (PPP) لإعادة إعمار البنية التحتية الحيوية وتقديم الخدمات العامة بكفاءة.
5.ترسيخ بيئة أعمال جاذبة، بضمان استقلالية القضاء وفعاليته في فض المنازعات التجارية، وخلق مناخ مستقر وآمن يشجع الاستثمار المحلي والأجنبي على حد سواء.
ختاماً..”نافذة الفرصة اما أن تتسع أو انها ستضيق”.
اليوم، وبعد سنوات من التردد، تواجه ليبيا اختباراً مصيرياً. فالنموذج القديم القائم على دخل النفط ووظيفة الدولة لم يعد هو النموذج القادر على الصمود في وجه تحديات وطنية وتحديات عالمية.
الفرصة التاريخية لبناء اقتصاد إنتاجي تنافسي، يقوده قطاع خاص حيوي، ويخدم مصالح المواطن لا مصالح النخبة، باتت ماثلةً في تقارير المؤسسات الدولية وتوقعاتها، النافذة الزمنية لهذا التحول، كما يحذر التقرير، ليست مفتوحة إلى الأبد؛ فهي تضيق مع استمرار التردد والتكيف مع الواقع، القرار الآن بين البقاء رهينة لتقلبات سوق النفط والصراعات، أو الانطلاق بشجاعة في رحلة البناء الاقتصادي الحقيقي.
المستشار مصطفى المانع، هو محامي ليبي وخبير قانوني واقتصادي منذ أكثر من 23 عام، عمل مع عدد من المؤسسات الاستثمارية والصناديق السيادية والبنوك في عدد من دول العالم بالإضافة إلى ليبيا، ويعمل كخبير لمراكز بحثيه دولية، كما عمل كمحاضر ومدرب لدى نقابة المحامين الأمريكية والرابطة الأوروبية للمحامين، وعمل لسنوات كمستشار لمصرف ليبيا المركزي وعضو مجلس ادارة المؤسسة الليبية للاستثمار والمصرف الليبي الخارجي، كما مثل ليبيا في في اجتماعات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي،وله عدد من البحوث والمقالات المنشورة بالصحف العربية والأمريكية والأوروبية.