Skip to main content
"البرغوثي" يكتب: لماذا الإصرار علي رواية بيع الذهب ؟! ما وراء إعادة تقييم الذهب
|

“البرغوثي” يكتب: لماذا الإصرار علي رواية بيع الذهب ؟! ما وراء إعادة تقييم الذهب

كتب أستاذ الاقتصاد “محمد البرغوثي”:

لماذا الإصرار على رواية بيع الذهب؟! ما وراء إعادة تقييم الذهب.

بعد قيام مصرف ليبيا المركزي بعملية إعادة تقييم الذهب، وليس بيع جزء من احتياطي الذهب كما يروّج له، قامت الدنيا ولم تقعد بسبب الترويج لرواية بيع الذهب المغلوطة والمليئة بالثغرات والكلام غير المحاسبي والبعيد كليًا عن الاقتصاد، وهو بالمناسبة (إعادة تقييم الأصول كالذهب) إجراء محاسبي عادي وروتيني، وتقوم به كل المصارف المركزية في العالم، مع استغرابٍ كبير حول أسباب وأهداف هذه الادعاءات.

وتشكّل عملية إعادة تقييم احتياطيات الذهب خطوة فنية تحمل في ظاهرها بُعدًا محاسبيًا وماليًا، لكنها في واقعها رسالة سياسية واقتصادية موجّهة إلى عدة جهات فاعلة: الداخل، الأسواق المحلية، والمؤسسات الدولية. فيما يلي قراءة حيادية في أهداف وتفاصيل هذا الإجراء لدى مصرف ليبيا المركزي ودلالاته العملية، مع الاستناد إلى المصادر المعلنة.

1. ما الذي جرى فعلًا؟!!

أجرى المصرف عملية إعادة تقييم لاحتياطياته من الذهب في الفترة الأخيرة، ما انعكس في رفع القيمة الدفترية للاحتياطيات بمقدار ملحوظ (أشار تقرير مشاورات المادة الرابعة إلى إعادة تقييم بقيمة تقارب 10.5 مليار دولار في 2024 بناءً على سعر طن الذهب في نفس الفترة).

كما سجّلت الأرقام الرسمية والمؤشرات الدولية أعلى مستوى تاريخي لكمية الذهب المعلنة (حوالي 146.65 طنًا)، بعد تسجيل مشتريات أو إدخالات إضافية في منتصف 2023.

2. الرسالة المحاسبية مقابل رسالة السيولة الدولارية

إعادة التقييم هي في جوهرها إجراء محاسبي يزيد من (قيمة الأصول) في ناحية الميزان، لكنها لا تخلق سيولة فورية بالعملة الصعبة ما لم تُتخذ قرارات تسييل بطيئة ومدروسة. بمعنى عملي، إجمالي الزيادة يعزّز مؤشرات الملاءة ويعطي المصرف رصيد ثقة أكبر على الورق، لكنها لا تعني تواجدًا مفاجئًا للدولار في السوق لتسديد واردات أو التزامات جارية. هذا التمييز مهم في تفسير رسائل المصرف إلى السوق.

3. الرسالة السياسية والاقتصادية

  • رسالة داخلية: تهدف إلى طمأنة المواطنين والمؤسسات المحلية بأن لدى المصرف (شبكة أمان) احتياطية قوية، ما يمكن أن يخفف الضغوط النفسية على الطلب على العملات الأجنبية.
  • رسالة خارجية: تعمل كإشارة إلى المؤسسات الدولية (IMF، بنوك مراسلة، مستثمرين) بأن موقف ليبيا من الملاءة خارجيًا يتحسّن، ما قد يسهل شروط التفاوض أو يقوّي موقف البلد في المراجعات التقنية.

4. ما بين السطور والمخاطر

  • هناك من يسعى لعملية التسييل السياسي للذهب، وتظلّ خطورة اللجوء إلى تسييل الذهب لأغراض تمويلية قائمة، لأنها قد تؤدي إلى خسائر سعرية أو اتخاذ قرارات سريعة أقل حكمة عند ضغط السيولة الدولارية.
  • الحوكمة والشفافية: إن فاعلية الرسالة المستهدف إرسالها من هذا الإجراء تعتمد على مصداقية الإجراءات، أي أن تواتر الإفصاحات، ومنهجية التقييم، والمراجعة المستقلة تزيد من ثقة الجمهور والمؤسسات. في المقابل، غياب وضوح منهجي يثير الشكوك حول مدى ديمومة النتائج.

5. دلالات للسياسة النقدية والمالية

  • إعادة التقييم توفّر أرضيةً لخطاب مركزي أقوى ضد تبريرات طباعة نقد جديدة: فهي تمنح المصرف حججًا لبيان ملاءة الاحتياطي بدلًا من اختزال الملاءة في الكتلة النقدية المتداولة فقط.
  • لكنها لا تُغني عن الحاجة إلى ضبط الإنفاق وترتيب أولويات الميزانية، لأن الملاءة المحسّنة على الورق لا تمنع الضغوط التضخمية إذا واصل تمويل العجز نقديًا.

6. ماذا يجب أن نفعل في هذه المرحلة؟!

  1. نشر منهجية التقييم، إعلان المعايير (سعر مرجعي أم متوسط شهري) وفترات التقييم يزيد من مصداقية الرقم.
  2. عدم الانجرار وراء طلبات التسييل والاستخدام، ووضع سياسة مكتوبة توضّح الحالات الصارمة التي يمكن فيها تسييل جزء بسيط جدًا من الذهب وعلى مراحل (شروط، موافقات، بدائل) حتى لا يتحول الأصل إلى أداة دعم لحلول مؤقتة في حالات ضغط الوضع الاقتصادي على السيولة الدولارية.
  3. ربط الرسائل بدعوات لإصلاحات، إرفاق مطالبات حول إعادة التقييم مع خارطة طريق لإصلاح المالية العامة حتى لا يبقى الأمر مجرد بيان محاسبي بلا أثر واقعي.

بشكل عام

إعادة تقييم الذهب في ليبيا إجراء مطلوب من زاوية رفع مؤشرات الملاءة وإرسال إشارات طمأنة، لكنه في جوهره إجراء محاسبي لن يتحول إلى قوة فعلية ما لم يقترن بسياسات نقدية ومالية منظّمة، بمعايير شفافة، وإجراءات حوكمة واضحة. قراءة ما وراء هذه الخطوة تكشف أن الرسالة الأساسية للمصرف هي: (لدينا احتياطي ذو وزن)، لكن السؤال الأهم يبقى: كيف يترجم هذا الوزن إلى حماية فعّالة للاقتصاد والمواطن؟

مشاركة الخبر