Skip to main content
"البرغوثي": بيع الذهب أو إعادة تقييم الذهب… ما الذي يحدث فعلاً؟
|

“البرغوثي”: بيع الذهب أو إعادة تقييم الذهب… ما الذي يحدث فعلاً؟

كتب: أستاذ الاقتصاد السياسي “محمد البرغوثي”

في خضم الحراك الاقتصادي الذي تشهده ليبيا وسط تحديات مالية وسياسية معقدة، برزت مسألة إعادة تقييم الذهب كأحد أهم التطورات في إدارة الاحتياطيات الليبية، وبينما تصاعد الجدل حول ما إذا كان المصرف المركزي قد باع الذهب أو جزءا منه أو استخدمه لتغطية بعض النفقات، فإن القراءة الدقيقة تشير إلى أن ما حدث هو إجراء محاسبي أعاد توزيع مكونات الغطاء النقدي، لا أكثر.

أولا ما معنى إعادة تقييم الذهب؟

الذهب الذي يشتريه المصرف المركزي يُسجَّل في الدفاتر المحاسبية حسب سعر الشراء في ذلك الوقت لكل كمية، فمثلا اشترى كمية 10 طن في سنة 2005 وكان سعر الطن وقت الشراء في سنة 2005 50 مليون دولار، يسجل المركزي إضافة إلى كمية الاحتياطيات من الذهب بقيمة 10 طن بقيمة 500 مليون دولار كقيمة دولارية لقيمة الذهب الموجودة مسبقا، ولم يتم تغيير القيمة الدولارية إلا في حالات عمليات اعادة التقييم السابقة،وهو ما يسمى بالقيمة التاريخية. ومع مرور السنين وتغير أسعار الذهب عالمياً، تصبح القيمة السوقية الحقيقية أعلى بكثير من القيمة المسجلة.

لذلك، عندما يقرر المصرف المركزي إعادة تقييم الذهب، فإنه يقوم برفع القيمة الدفترية لهذا الأصل لتتناسب مع قيمته السوقية الحالية، دون أن يبيع أو يشتري فعليا وهذه العملية تُعد اجراء تقنيا يعكس بصورة أدق القيمة الفعلية للاحتياطيات.

ثانيا لماذا الآن تحديدا؟!

إعادة التقييم في هذا التوقيت ليست مصادفة فالعالم يعيش مرحلة اقتصادية حساسة تتسم بارتفاع أسعار الذهب إلى مستويات تاريخية غير مسبوقة، تجاوزت في عام 2025 حاجز 3,600 دولار للأونصة أي ما يعادل أكثر من 115 مليون دولار للطن الواحد من الذهب الخالص عيار 999.9 أو عيار 24 قيراط.

هذا الارتفاع جاء نتيجة التوترات الجيوسياسية المتصاعدة، والحروب التجارية، والسياسات النقدية التوسعية في الاقتصادات الكبرى، إضافة إلى انخفاض الثقة في الدولار واليورو والجنيه الإسترليني.

من هذا المنطلق، رأى مصرف ليبيا المركزي أن تحديث تقييم الذهب في دفاتره ليس خيار محاسبي فقط، بل ضرورة لإظهار القوة الحقيقية للمركز المالي للمصرف المركزي وللتأكيد على متانة الغطاء الذي يستند إليه الدينار الليبي.

ثالثاً: من التاريخ إلى الحاضر

على مدى العقود الأربعة الماضية، تنوعت أسعار الذهب التي تم على أساسها شراء كميات احتياط ليبيا، في ثمانينيات القرن الماضي، كان متوسط سعر الأونصة يدور حول 350 دولار فقط، أي أن سعر الطن الواحد كان يقارب 11 مليون دولار
وفي التسعينيات، ارتفع المتوسط قليلا إلى 390 دولار للأونصة، أي نحو 12 مليون دولار للطن.

أما في العقد الأول من الألفية الجديدة (2000–2009)، فقد بلغ المتوسط قرابة 650 دولارللأونصة أو ما يعادل 21 مليون دولار للطن
وفي العقد التالي (2010–2019)، ارتفع المعدل إلى حوالي 1,250 دولار للأونصة بما يعادل 40 مليون دولار للطن.

ثم قفز السعر خلال العقد الأخير (2020–2025) إلى نطاق يتراوح بين 2,200 و3,600 دولار للأونصة، أي ما بين 70 و115 مليون دولار للطن الواحد.

أما من حيث الكميات، فقد تراوحت احتياطيات ليبيا بين 115 و120 طنًا منذ الثمانينيات، قبل أن ترتفع تدريجيًا إلى 146.65 طنًا في عام 2023 — وهو أعلى مستوى تاريخي مسجل حتى الآن وفق بيانات Trading Economics وIMF، و wgc مجلس الذهب العالمي .

هذا يعني أن القيمة الدفترية التاريخية لاحتياطيات ليبيا من الذهب كانت أقل بكثير من قيمتها السوقية الراهنة، وأن تحديثها رفع القيمة الظاهرة للأصول من حوالي 6 مليار دولار إلى ما يتجاوز 17 مليار دولار، وربما أكثر عند الأسعار الحالية.

رابعا ماذا فعل المصرف بهذه الزيادة؟

الخطوة التالية بعد إعادة التقييم كانت الأكثر أهمية، فمع ارتفاع القيمة الدفترية للأصول الذهبية، أصبح بالإمكان تحرير جزء من الغطاء الدولاري الذي كان مخصصا لتغطية العملة المحلية المطبوعة والمصدرة (M0).

بعبارة أوضح، جزء من الدولارات التي كانت مجمدة في خانة (الغطاء النقدي)أصبحت غير ضرورية بعد أن قام الذهب، بقيمته الجديدة، بتغطية نسبة أكبر من الكتلة النقدية او العملة المطبوعة،

وبناء على ذلك، استخدم المصرف المركزي هذه الدولارات المحررة في سد جزء من عجز ميزان المدفوعات، خصوصا في ظل ارتفاع الطلب على العملات الأجنبية وتراجع بعض الإيرادات النفطية، إضافة إلى تعزيز الاحتياطيات القابلة للاستخدام في الخارج.

وبذلك تحققت معادلة مهمة، من جهة ارتفعت القوة المحاسبية للأصول عبر الذهب، ومن جهة أخرى ارتفعت السيولة الدولارية الفعلية عبر تحرير جزء من الغطاء الدولاري.

خامسا النتائج الاقتصادية والمؤسسية
1. تحسين هيكل الاحتياطيات: أصبح الاحتياطي الليبي الآن أكثر تنوعا بين الذهب والدولار والسندات والأصول الأجنبية، ما يقلل المخاطر المرتبطة بتقلبات العملات العالمية.

2.  تعزيز الثقة في الدينار الليبي: الإعلان عن أن العملة المحلية أصبحت مغطاة جزئيا بالذهب بأسعار حديثة يكمن أن يرسل رسالة طمأنة مهمة للأسواق المحلية.

3.  تحسين مؤشرات التغطية النقدية: بعد إعادة التقييم، أصبحت نسبة تغطية النقد المطبوع أعلى من 100% من حيث القيمة، ما يعني أن الكتلة النقدية مغطاة بأصول حقيقية تفوقها قيمة.

4.  دعم ميزان المدفوعات: الدولارات المحررة من الغطاء تمثل تدفق فعلي يمكن استخدامه في تمويل الواردات الضرورية دون المساس بالاحتياطي الاستراتيجي.

5.  رفع مؤشرات الملاءة الدولية: تقارير صندوق النقد الدولي الأخيرة أشارت إلى تحسن وضع الاحتياطيات الليبية بفضل كمية الذهب وقيمة الذهب الحقيقية وتحسن إدارة الإحتياطيات بصفة عامة .

سادسا ما الذي يجب الحذر منه؟

رغم الطابع الإيجابي لهذه الخطوة، فإن هناك محددات يجب عدم تجاهلها:
• عدم اعتبار الأرباح الناتجة عن إعادة التقييم مصدر دائم للتمويل، فهي أرباح دفترية لا يمكن تحويلها إلى إنفاق مستمر.
• ضرورة الشفافية في الإفصاح عن الأسعار المعتمدة في التقييم وتواريخها

مشاركة الخبر